واقع ومستقبل البحث العلمي والدراسات العليا في العراق
أ. د. محمد الربيعي
على الرغم من أن العديد من الدول المجاورة قد عانت مؤخراً من مشاكل مالية، إلا أن الانكماش المالي في حقل التعليم والبحث في العراق ملحوظ بشكل خاص للعديد من العوامل الإضافية، بما في ذلك زيادة عدد الطلبة في الجامعات والدراسات العليا خصوصا، والفساد المستشري، وإعاقة التعاون الدولي والمساعدات الخارجية، والحصار الذاتي والانغلاق على النفس، وعدم الاستقرار السياسي، ونقص الثقافة الاكاديمية العالمية، والتدخل السياسي الفاضح. يقدر الدكتور مظهر محمد صالح في معلومات تفضل بتوفيرها لي ان حصة التربية والتعليم في موازنة 2021 والمقّدرة وفق تقديرات الناتج المحلي الاجمالي بحوالي 239 ترليون دينار ستكون حوالي 5% ، ولو نفترض ان 40% من موازنة التربية والتعليم ستذهب الى التعليم العالي، فان حصته ستكون 2% ، علما ان جل الانفاق في التربية والتعليم هو انفاق تشغيلي، وبصورة رواتب وأجور حيث تبلغ نسبتها بين 85% الى 90% من الموازنة، وتمثل احدى اعلى نسب الصرف من ميزانية الحكومة. لذلك ليس من المتوقع ان يكون للبحث والتطوير اي مبالغ ذات قيمة، وقد لا يختلف عما هو عليه في السنوات الماضية. ومع ذلك يزداد عدد خريجي الدكتوراه بمعدل مرتفع بشكل مدهش. فمن اين تأتي مصاريف البحث العلمي؟ بما ان معظم البحوث هي حاصل للدراسات العليا فان مصاريفها تأتي من مساهمات الطلبة انفسهم. ليس هناك منح مالية مخصصة للبحث العلمي كما هو عليه في معظم دول العالم، ويبدو ان معظم مختبرات البحث العلمي معطلة او تنقصها المواد المختبرية لاجراء تجارب على مستوى علمي عالي. كثير من التجارب تجرى في مختبرات اهلية ليس للباحث من دراية في اسلوب اجراءها، وتساهم المكاتب الاكاديمية في تقديم الخدمات البحثية مقابل مبالغ بسيطة تتناسب مع مستوى وسطحية التجارب او الخدمات المطلوب اجرائها.
هل البحوث العراقية تتقدم حقا؟
لمعالجة التقدم العام في قطاع الأبحاث، أجريتُ تحليلا باستخدام قاعدة البيانات لتقييم مخرجات البحث كميا، من خلال حساب عدد المقالات البحثية للمؤلفين العراقيين. زادت المقالات التي تنتجها الجامعات بنسبة 2216 بالمائة بين عامي 2010 و 2020 وهذه تعتبر زيادة كبيرة وسريعة في ظل ضعف الانفاق في قطاع التعليم العالي، وعدم وجود ميزانية خاصة للبحث العلمي والابتكار. ورافق هذه الزيادة الهائلة بعدد المقالات نقص كبير في معدل الاستشهادات بالورقة الواحدة من 11.20 الى 0.56. عادة ما يتنبأ الاستشهاد بجودة المقالة لذا قد يعود هذا الانخفاض الكبير في معدل الاستشهاد الى ان معظم المقالات البحثية من العراق تنشر في مجلات بحثية منخفضة الجودة (مثل المجلات ذات التأثير المنخفض)، أو في المجلات الزائفة والمفترسة والتي لا يهتم احد بمحتوياتها، أو حتى بالإطلاع عليها. وهكذا، في حين أن عدد المقالات في المجلات البحثية قد زاد ، فإن النظرة إلى جودتها اصبحت منخفضة للغاية.
لهذا السبب ومن منطلق الحرص على تحسين وتجويد البحث العلمي أقدم ستة اقتراحات ذات صلة للباحثين والمؤسسات الأكاديمية والإدارات الجامعية العراقية، والتي قد تساعد في رفع معايير البحث الوطنية.
1- الحاجة الملحة لتخليص العراق من ثقافة التعليم الفاسدة
اكثر ما يثير القلق هو ضعف القدرات البحثية للجامعات، وللباحثين، والذي ينعكس سلبا على جودة البحث الاكاديمي. في حين نمت مخرجات البحث الضعيف بشكل هائل في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى زيادة ملحوظة في الإنتاج العلمي من المنشورات في المجلات الأكاديمية الهزيلة، وبهذا تقدم العراق على دول عربية اخرى كانت متفوقة عليه، مع ان الجودة الإجمالية للبحوث بقت موضع تساؤل من قبل العديد من الاكاديميين. يرجع جزء كبير من النمو السريع في الإنتاج البحثي إلى نظام الدراسات العليا والترقيات العلمية الذي يربط النشر في المجلات الأكاديمية كشرط للحصول على الماجستير والدكتوراه وبترقيات أعضاء هيئة التدريس. نتيجة لذلك، شجعت هذه الشروط بطريقة غير مباشرة الفساد والانتحال ونشر الأبحاث الملفقة، مع العديد من المنشورات التي يُزعم أنها تم إنتاجها من قبل مكاتب تجارية لتحقيق مكاسب شخصية بحتة.
يعد الانتحال سببا رئيسيا لضعف جودة البحث الأكاديمي. يسرق بعض المؤلفين أفكار الآخرين عن طريق استكشاف الأدبيات المتاحة بسهولة ثم التلاعب بالفكرة بمهارة لتقليل ظهور الانتحال. يتعلم بعض الطلاب فن نشر البحوث في مجلات تجارية عن طريق وسطاء، ويتلاعبون بالنتائج ويعتمدون على الاقتباسات غير المشروعة في مقالاتهم. يمكن للمرء أن يتساءل إلى أي مدى يقع اللوم على الطلاب أنفسهم. وبدون تعميم، اعتقد إن بيئة البحث – التي تم تشكيلها من قبل أعضاء هيئة التدريس الذين تم تدريبهم بشكل غير مناسب للإشراف على الطلاب – هي المسؤولة عن إدامة الانتحال ، حيث لا تشجع الثقافة الأكاديمية التفكير المستقل وتجبر الطلاب على الانصياع الأعمى لواقع فاسد لا يلعب المشرف دورا مهما في الاشراف الحقيقي والنافع. في الواقع ، فإن الضغط على الطلاب من قبل القسم والجامعة والوزارة لإنتاج أوراق بحثية يجبرهم على التلاعب بعملهم وسرقة اعمال وافكار غيرهم واضطرارهم لنشرها في مجلات زائفة.
إذا كان بعض الباحثين يقضون مثل هذا القدر الضخم من الوقت في سرقة اعمال غيرهم، وكانوا أذكياء بما يكفي لتمرير إجراءات المراجعة المكثفة باستخدام اتصالاتهم الشبكية، فلماذا إذن لا يرغبون في استخدام وقتهم وجهدهم في الاتجاه الصحيح؟ ما يجعل الطلاب يغشون لربما هو عدم قدرة الجامعة والاساتذة على تثقيفهم بأخلاقيات البحث في مرحلة مبكرة من حياتهم الأكاديمية.
بالإضافة إلى ذلك ، التدخل السياسي والمحسوبية شائعة جدا في العراق. من المرجح أن تضمن معرفة مشرفك والممتحنين تخرجك. يحتاج العراق إلى بنية تحتية منظمة لفرض قوانين مناهضة وتجنب التدخل السياسي والمحسوبية في الجامعات. يجب عقد الندوات وورش العمل التدريبية حول الأخلاقيات لنشر الوعي حول الانتحال، ويجب تقديم كورس إلزامي واحد على الأقل يتعلق بالأخلاقيات الأكاديمية في المراحل الأولى من درجات البكالوريوس والدراسات العليا. قدمتُ ورقة تتضمن اقتراح وضع مدونة لقواعد الاخلاق الاكاديمية في الجامعات وجدتُ استجابة كبيرة من قبل المسؤولين والاكاديميين ونأمل ان يتم اعتماد مبادئها لوضع لائحة لقواعد الاخلاق الاكاديمية. تستند المدونة على مبادئ اخلاقية معروفة للعمل الاكاديمي في الجامعات: النزاهة والصدق والشفافية والبحث عن الحقيقة والاحترام والامانة والتقدير والاخلاص وحسن المعاملة والمساءلة والالتزام المهني والاساقلالية والحياد. المدونة مثلها مثل كل المدونات الاخلاقية في العالم ليست قانون ولكنه التزام شرف لمنتسبي التعليم العالي وتوفر اطار عمل نموذجي لممارسة السلوك الاخلاقي من قبل الاداريين والاكاديميين، ويعكس هذا الاطار روح ونص اللوائح والقواعد والاجراءات الداخلية للجامعة المعنية.
لحد الآن لم تدرج الوزارة اي بحث في القائمة السوداء بتهمة الانتحال. ولم يتم اتخاذ أي إجراءات مناسبة ضد باحثين او طلبة بتهمة الانتحال فيما عدا تشكيل لجان تحقيقية: كل المزورين يواصلون شغل مناصب في جامعاتهم. بسبب الفساد المستشري في الثقافة الأكاديمية العراقية، فإن القائمة السوداء سيكون لها تأثير على سمعة أو مهنة هؤلاء الأفراد البارزين. يجب تخصيص جزء من أموال البحث والتطوير العراقية في الميزانية لفرض قواعد مكافحة الاداب الفاسدة، كما هو الحال في دول العالم المتطورة. هناك حاجة ماسة إلى بنية تحتية مع فريق من الخبراء المتخصصين لوضع وتنفيذ قوانين ضد الانتحال لتكون مثالاً يحتذى به للآخرين، يجب على الجامعات ان تسحب الحقوق البحثية والتدريسية من المذنبين.
2- مراجعة معايير اختيار أعضاء هيئة التدريس للاشراف على الطلبة
لن تتحسن معايير البحث إلا على المدى الطويل من خلال تخصيص الموارد لإنتاج باحثين ذوي جودة أفضل، وتوظيف أعضاء هيئة تدريس مدربين تدريباً جيداً. في الوقت الحاضر، معظم أعضاء هيئة التدريس المعينين كأساتذة ليس لديهم خبرة ما بعد الدكتوراه. بينما في البلدان المتقدمة، غالبا ما تكون خبرة ما بعد الدكتوراة مطلوبة قبل التعيين في منصب هيئة التدريس، حيث توفر وظائف ما بعد الدكتوراة تدريبا إضافيا على البحث في مجال متخصص، مما يسمح باكتساب المهارات اللازمة قبل البدء في منصب هيئة التدريس. يحتاج العراق إلى مراجعة إجراءات تعيين المسؤولين والاداريين وكذلك توظيف أعضاء هيئة التدريس. تعد معايير الاختيار الأعلى والشفافية في تعيين أعضاء هيئة التدريس أمرا بالغ الأهمية لإنقاذ الأوساط الأكاديمية في العراق. بدلاً من تعيين جميع خريجي الدكتوراه كأساتذة، لماذا لا يتم تعيينهم كباحثين لما بعد الدكتوراه لبضع سنوات قبل النظر في تعينهم في مناصب أعضاء هيئة التدريس؟ هذا من شأنه أن يسمح بعملية فحص أكثر فعالية. من بين أولئك الذين تم اختيارهم لدور في هيئة التدريس ، يجب منح المنصب (والترقية الإضافية) فقط بناءً على حداثة ورصانة البحث والإبتكار، بدلاً من عدد المنشورات.
3- الم يحن الوقت لتعديل نظام التقييم والترقية؟
بعد عدة اعوام من تطبيق نظام يقيم مخرجات بحوث التدريسيين على أساس الكمية وليس الجودة، ومع انعدام وجود اي تعديلات منذ ذلك الحين، تجذرت ثقافة اكاديمية مبنية على انتاج بحوث رديئة، أو مسروقة جزئيا أو كليا. والأسوأ من ذلك، أن نظام التقييم والترقية هذا يحتوي على معيار واحد لقياس انتاجية جميع التخصصات، سواء كان ذلك في العلم أو الأدب أو الفن أو الهندسة، والمعيار هو عدد البحوث المنشورة في مجلات بغض النظر عن مستواها، او عن كونها مفترسة طالما انها مفهرسة في سكوبس. نظام التقييم والترقية خاطئ لدرجة أنه يشجع كميات كبيرة من البحوث السطحية والزائفة من دون الاهتمام بجودة البحوث ولا بمدى جودة أو سوء التدريس. يجب ان يبنى نظام الترقية على المنافسة اولاً، ومن ثم على كفاءة التدريس وجودة، ونوعية البحوث، وتأثيرها، ودرجة صدقيتها، وليس عددها، أو المجلات التي نشرتها.
4- الاهتمام بالعمليات قبل النتائج
يلاحظ اهتمام الوزارة والجامعات والتدريسيين بعدد البحوث المنشورة فهي بالنسبة لهم المعيار الرئيسي الذي يقاس به تطور البحث العلمي في العراق. في الوقت نفسه تهمل العمليات التي ادت الى انتاج هذه البحوث. هل من احد يسأل كيف تم الحصول على النتائج؟ اين هي دفاتر تسجيل الطرق والعمليات والارقام؟ اين هي الجداول الزمنية لمجريات البحث؟ هل تتوفر وثائق اخلاقية صادرة من المؤسسات المهنية والتي تسمح بإجراء البحث؟ ما هي الاثباتات بان البحث تم اجراءه تحت ادارة وتوجيه ومتابعة مشرف اكاديمي بدون انقطاع؟ من يقوم بالتأكد من ممارسة المشرف لدوره في التوجيه المخلص والامين في اختيار موضوع البحث، وما هي الوسائل التي تمنع المشرف من عدم انزلاقه الى سلوكيات ابتزاز او اذلال او اهانة الطالب وتسفيه قدراته سواء اثناء البحث او في جلسات المناقشة العلنية للرسائل.
5- الاهتمام بالبحث التطبيقي وبحل مشكلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية
البحث العلمي في العراق يفتقر الى اهداف واستراتيجية واولويات. اتجاهات البحث تسير وفق اهواء الباحثين وتتحدد اولوياتهم على ضوء تدريبهم الاساسي وامكانياتهم وقدراتهم البحثية والفكرية وعلى توفر الاموال والتجهيزات المختبرية. ومن الملاحظ ايضا ضعف تشخيص المشاكل الحقيقية التي تتطلب بحوثا اكاديمية لحلها وضعف الامكانيات البشرية والمادية من اجهزة وامكانيات مختبرية تساعد الباحثين على تحقيق هدف البحث التطبيقي. على هذا النحو، تحتاج الجامعات إلى تطوير معظم مواردها لحل المشكلات العملية. وهذا الاسلوب لابد ان يرضي الدولة والوزارة والباحثون المشاركون في البحث لا لتحقيق الهدف فحسب، بل يمكن أيضا أن تكتسب الأهمية العلمية وضوحا وتأثيرا. ومن الطبيعي أن يتبع ذلك خلق المعرفة وتوسيع الآفاق.
لابد ان تحدد رؤية البحث العلمي في العراق الأهداف على النحو التالي:-
– اكتساب قدرات عالمية في مجال البحث العلمي التطبيقي والتكنولوجي وتسخيرها لخدمة اهداف التنمية
– استخدام البحث العلمي والدراسات العليا كمحرك للنمو الاقتصادي
– تحسين الجودة واساليب حل المشاكل في عمليات البحث الصناعية والزراعية والاجتماعية وغيرها
– استيعاب التقنيات التي أثبتت جدواها، لتلبية الاحتياجات الوطنية
مع محدودية الموارد المالية المتاحة وندرتها، أصبح من المهم بشكل متزايد للعراق أن يحدد أولوياته الصحيحة فيما يتعلق بتخصيص الموارد وبحوث الدراسات العليا، وان على الجامعات أن تستثمر في المقام الأول في أنشطة البحث التي من المحتمل أن تحل مشاكل وطنية وان تسفر عن تطبيقات عملية خصوصا في مجالات الطاقة البديلة والمياه والتلوث البيئي والاثار ومكافحة العنف والارهاب.
6- اهمية وضع الشخص المناسب في المكان المناسب
المطلب الاخير والاهم هو التخلي عن نهج المحاصصة في تعيين القيادات الجامعية وانتهاج اسلوب لجذب الاكاديميين المتحمسين والمؤهلين إلى مناصب ادارية عليا في الجامعات. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا المطلب يواجه عقبات كبيرة منها إن عملية تعيين القيادات في جميع الجامعات تسند على ترشيحات الاحزاب، ودعمهم، وغالبا ما تكون منحازة لسبب أو آخر، بحيث يصبح تعيين شخص كفء حدثا ذا احتمالية منخفضة. على الجانب الآخر، يقف قانون التعليم العالي أمام تعيين الشباب في مناصب عليا لتضمينه شروطا تتطلب الخبرة الادارية والدرجة العلمية. علما انه لم تعد الخبرة الادارية مهمة بسبب النظام الاداري المركزي الذي يجرد القيادات الجامعية من حق اتخاذ القرار الاداري والاكاديمي المهم، ولا حتى الدرجة العلمية والتي بدأت تمنح لمن ليس له خبرة بحثية حقيقية، واعتماده على بحوث مستلة او مسروقة.
مستقبل مقلق وغامض للدراسات العليا
من دون احداث ثورة كبرى في التعليم الاولي والعالي، ومن دون احداث تغيير حقيقي في الاتجاهات والمفاهيم والسياسات، سيتمثل مستقبل الدراسات العليا في المظاهر التالية:
– زيادة عدد المتقدمين والدارسين بصورة كبيرة
– استمرار مستويات الدراسات العليا بالتدهور
– تكريس سياسة انعدام المساواة في القبول (قنوات القبول)
– ازدياد الغش والانتحال وتسويق الشهادات
– ازدياد البطالة بين صفوف حملة الشهادات العليا
– ازدياد التعليمات والكتب الرسمية ارباكا للدراسات العليا
– مشاركة الجامعات والكليات الاهلية في منح الشهادات العليا
– منح الدراسات المسائية حق فتح دراسات عليا
– ازدياد الانفصام بين الباحثين والتدريسيين العراقيين والمجتمع العلمي العالمي
– سيستمر اهمال البحث التطبيقي والذي يعالج مشاكل عقدية في الاقتصاد والمجتمع