هجرة العقول العراقية والعربية: اسبابها ونتائجها وحلولها
أ.د. محمد الربيعي
في العالم لا يختلف اثنان حول خطورة هجرة العقول والكفاءات المهاجرة، فشأن هذا الموضوع شأن المواضيع الساخنة الاخرى التي تعرقل حل المشاكل والقضاء على الازمات ودفع مسيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي الى الامام. وفي صدد تقديم اجوبة شافية للاسباب الداعية لهجرة الادمغة العراقية، وبصورة عامة العربية، ساحاول في هذه المقالة الاجابة عن بعض الاسئلة حول تاريخ ودوافع الهجرة وانواعها وعن اسباب الهجرة وعجز العراق من الاستفادة من كفاءات الخارج.. لماذا يترك الموهوبون بلادهم ويهاجرون؟ ما هي عواقب مثل هذه الهجرات خاصة على قطاع التعليم؟ ما هي السياسات التي يمكن اعتمادها لوقف مثل هذه الهجرات من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة؟
ما هي هجرة العقول؟
هجرة العقول هي ظاهرة تتمثل في انتقال الأفراد ذوي المهارات العالية من بلد إلى آخر، مما يسبب فقداناً للقوى العاملة والإمكانات الاقتصادية للبلدان المصدرة (1). يمكن أن يحدث هذا لعدة أسباب، بما في ذلك:
الفرص المهنية: قد يبحث الأفراد ذوو المهارات العالية عن فرص عمل أفضل في بلدان أخرى، حيث قد تكون الرواتب أعلى أو الفرص أكثر تنوعا.
الظروف السياسية والاقتصادية: قد يهاجر الأفراد ذوو المهارات العالية من البلدان التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي أو الاقتصادي.
العوامل الاجتماعية والثقافية: قد يهاجر الأفراد ذوو المهارات العالية من البلدان التي لا تلبي احتياجاتهم الاجتماعية أو الثقافية.
يمكن أن يكون لهجرة العقول تأثير سلبي كبير على البلدان المصدرة، فيمكن أن تؤدي إلى انخفاض الإنتاجية والابتكار، وزيادة البطالة، وانخفاض القدرة التنافسية.
تشير العديد من الدراسات إلى ظاهرة هجرة العقول العربية، لكن معظمها يعتمد على بيانات من دراسات سابقة. من الدراسات المهمة في هذا المجال دراسة الجامعة العربية (2)، التي تشير إلى أن فرنسا تستقبل 40% من العقول المهاجرة، والولايات المتحدة 23%، وكندا 10% ، ويقدر أن هجرة العقول تكلف الدول العربية ما لا يقل عن 200 مليار دولار سنوياً.
الهجرة حلم الباحثين العرب
يشير تقرير لمركز الخليج للدراسات الستراتيجية (3) إلى أن استطلاعا حديثا أجراه المركز شمل 1000 باحث في العالم العربي، وجد أن 91٪ منهم يرغبون في الهجر. ومن بين هؤلاء، ذكر 68٪ أنهم يرغبون في الذهاب إلى أوروبا، و55٪ إلى أمريكا الشمالية. كما يشير التقرير إلى أن الدوافع المالية لا تأتي دائما في المقدمة بالنسبة للباحثين العرب الذين يرغبون في الهجرة. ففي الدول الخليجية، ذكر 62٪ من الباحثين أنهم يريدون السفر إلى الخارج للاستفادة من المزيد من الحرية الأكاديمية، بينما ذكر 26٪ فقط أن دوافعهم تتعلق بدفع أجور أعلى.
تاريخ هجرة العراقيين
يتناول الدكتور عبد الحسين شعبان في مقالته على موقع الجزيرة (4) تاريخ هجرة العراقيين منذ تأسيس المملكة العراقية في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي شملت المسيحيين واليهود بشكل خاص. ويذكر أن الوضع السياسي المضطرب بعد انقلاب حزب البعث واندلاع الحرب مع إيران كان سببا آخر للهجرة. ويشير إلى أن الحصار الاقتصادي أجبر مئات الآلاف على مغادرة العراق بسبب فقدان الأمل في التغيير. ويستعرض أثار الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، والذي أدى إلى هجرة كبيرة بسبب التفجيرات ووجود الميليشيات. ويذكر إن عام 2006 كان أسوأ عام للهجرة، بينما تحسن الوضع قليلا في عام 2007، وعاد بعض العراقيين إلى بلادهم. ويعتقد أن هناك حوالي أربعة ملايين عراقي يتواجدون في الشتات، بالإضافة إلى ستة ملايين نزحوا داخليا بسبب داعش، لكن معظمهم رجعوا إلى مناطقهم. ويلفت الاهتمام إلى استمرار هجرة الأكراد إلى أوروبا، وزيادة عدد الضحايا جراء ذلك. ويبلغنا الكاتب إن العراقيين هاجروا بشكل أكبر وأسرع من غيرهم من العرب، سواء من لبنان أو سوريا، اللذين هاجرا قبلهم بوقت طويل.
في المقال نفسه، يذكر شعبان أن الهجرة العراقية لم تتوقف عن الارتفاع سنة بعد سنة، بسبب الظروف المعيشية الصعبة والأزمات السياسية والفقر والبطالة. فمثلاً، أصبح عدد العراقيين الذين يهاجرون إلى أستراليا أكثر من عدد الهنود وغيرهم، مقارنة بما كانوا عليه في بداية التسعينات.
يصنف شعبان الهجرات التي شهدها العراق في الزمن الحاضر إلى ست فترات رئيسية، أدت إلى خروج ملايين العراقيين من بلادهم. هذه الفترات هي: هجرة نهاية السبعينات بسبب الإضطهاد، هجرة حرب الخليج، هجرة تشريد الأسر العراقية، هجرة احتلال الكويت، هجرة سقوط الديكتاتورية، وهجرة التهجير الداخلي والخارجي للمسيحيين وغيرهم من الأقليات.
نسب المهاجرين إلى الدول الأوروبية ونسبة الكفاءات
وفقا لتقرير من المفوضية الأوروبية (5)، تختلف نسبة المهاجرين والكفاءات بين الدول الأوروبية باختلاف حجمها وسكانها. نلاحظ أن الدول الأوروبية المتقدمة التي تستطيع استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين مقارنة بسكانها تجذب معظم الهجرات. مثلا، في لوكسمبرغ التي يبلغ عدد سكانها حوالي 650 ألف نسمة، يشكل المهاجرون نحو نصف هذا الرقم. أما في المملكة المتحدة التي يبلغ عدد سكانها 67 مليون نسمة، فإن نسبة المهاجرين لا تزيد عن 13.5%، وما يعادل أكثر من 9 ملايين مهاجر. لكن هذه العلاقة بين حجم الدولة ونسبة المهاجرين ليست ثابتة في جميع الدول الأوروبية، فهناك عوامل أخرى تؤثر على توزيع المهاجرين على البلدان الأوروبية، مثل اللغة وفرص العمل والثقافة الاجتماعية وسهولة الوصول وطلب اللجوء. كما أن العلاقات الأوروبية المشتركة تلعب دورا في تحديد عدد اللاجئين في كل دولة.
ووفقا لتقرير “هجرة الأدمغة” الذي أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (6)، فإن نسب هجرة الأفراد ذوي المهارات العالية تفوق نسب هجرة الأفراد ذوي المهارات الضعيفة في معظم الدول. يظهر هذا التحيز في المهارات في نسب الهجرة بشكل واضح في الدول ذات الدخل المنخفض. تعاني الدول الصغيرة والفقيرة من أعلى نسب هجرة الأدمغة فتفقد هذه الدول التي تضررت بشدة بهجرة أكثر من 80٪ من “أدمغتها” إلى خارج حدودها مثل هايتي وجامايكا والعديد من الدول الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة. هناك حوالي 20 دولة أخرى تخسر بين ثلث ونصف خريجي جامعاتها. معظم هذه الدول في أفريقيا جنوب الصحراء (مثل ليبيريا وسيراليون والصومال) وآسيا (مثل أفغانستان وكمبوديا). وتعتبر بعض الدول الصغيرة ذات الدخل المرتفع، مثل هونغ كونغ وأيرلندا، استثناءات.
مؤشر هجرة العقول
يقيس مؤشر هجرة العقول (7) الآثار الاقتصادية لانتقال البشر (لأسباب سياسية أو اقتصادية) وكيف يؤثر ذلك على تطور الدولة. كلما كان المؤشر أعلى، كانت الهجرة أكثر. هذا التفسير مبني على نتائج 177 دولة لسنة 2022. المتوسط العالمي للمؤشر هو 5.21. أعلى الدول العربية في مؤشر الهجرة والتي تنتمي إلى أعلى 20 دولة هي فلسطين وسوريا والسودان. بينما تحتل المغرب موقعا متقدما بمؤشر 7.40 والعراق قريب منه بمؤشر 6.40.
مؤشر هجرة العقول. من 0 (منخفض) الى 10 (مرتفع)
لو نظرنا الى عدد المهاجرين من البلدان العربية ومن بلدان الشرق الاوسط لوجدنا اختلافات كثيرة، ويحدد هذه الهجرة على الاغلب عوامل داخلية وتاريخية. تمثل تركيا والجزائر وايران وتونس والعراق ولبنان ومصر اكثر الدول تصديرا للمهاجرين. واذا نظرنا الى نسبة المهاجرين من اصحاب الشهادات العلمية والكفاءات لوجدنا ان هذه النسبة لا تتناسب مع عدد المهاجرين. يبدو ان بعض الدول تصدر عمالا وبعضها تصدر كفاءات. نسبة المهاجرين العلميين تبدو عالية جدا في دول كلبنان وايران والمغرب وتونس والعراق (6).
اسباب الهجرة: قد تبدو الاسباب واضحة ولا غبار عليها الا ان تسلسها في الاهمية قد تختلف من بلد لاخر. معظم اسباب الهجرة تعود الى تحسين الوضعية الاقتصادية، وتوفر فرص العمل ثم الهجرة لغرض الدراسة ولاكتساب الخبرة والمعرفة، وكنتيجة لتفشي الفساد في البلد وسوء نظام الحكم، والخوف من الاضطهاد السياسي، وعدم توفر الامن، ولاسباب عائلية ودينية.
مخاطر الهجرة: يعتمد خطورة الهجرة على كونها هجرة للعامة او هجرة للعقول والكفاءات. كما ان هناك انواع مختلفة من هجرة العقول بالخصوص تلك العقول التي تكونت في المهجر عن طريق الدراسة وعادت للوطن الا انها هاجرت، وتلك العقول التي تكونت بالمهجر ولم تعد للوطن. هذه عقول درست وتدربت في المهجر الا ان الحياة والعمل قد اغراها فبقت في الخارج. على الجانب الاخر تجد هناك الكثير من العقول التي تكونت في الوطن الا انها اجبرت على الهجرة، وهناك شريحة مهمة من العقول التي نتيجة لشحة الامكانيات وضعف القاعدة العلمية وانعدام الحريات الاكاديمية اجبرت على الخمول والانضواء ولم تقدم شيئا ملحوظا لبلدها.
الهجرة الخارجية هي ما يتكلم عليه الكتّاب والمختصين عندما يريد منها حساب التكلفة للبلد. والحقيقة ان الكلفة لا تكون دقيقة في معظم الاحيان، ولربما في بعض الاحيان تدر على البلد اكثر مما كلفته. الكلفة هي مقدار ما صرفه البلد على تدريس وتدريب الشخص. كل هذا يعتمد على مستوى التدريب وحاجة المجتمع والصناعة لهم. ولكنه في بعض من الاحيان يبقى الارتباط بالوطن الام شديدا مما يفيد الوطن سواء بالاموال المحولة والمستثمرة في داخل البلد، وهذا ما يحدث حاليا عن طريق المهاجرين العرب الى دول الخليج، والمغاربة خاصة في دول المهجر كفرنسا واسبانيا وكندا.
اسباب هجرة العقول العراقية او بقاءها في الخارج
ادناه الاسباب الرئيسية التي ادت في الماضي ولازال بعضها يؤدي الى هجرة العقول العراقية الى الخارج:
الحروب والارهاب والاضطهاد وانتشار الاعراف العشائرية
انتشار ظاهرة خطف واغتيال الأكاديميين والاطباء والكفاءات بصورة عامة
فقر الامكانيات والقدرات والذي يعكس نقص الخدمات الاساسية، انخفاض مستوى المعيشة ونوعية الحياة معا
ارتباط التوظيف بالارتباط الحزبي او بشراء الوظيفة
المجتمع العراقي اصبح بيئة طاردة للكفاءات العلمية وليست جاذبة أو حاضنة للكفاءات
ضعف مستوى الانفاق على التطوير والابتكار والبحث العلمي والتقني
هيكلية ادارية بيروقراطية فاسدة وضعيفة ومتخلفة
عدم إشباع روح البحث والتطوير أو المشاركة الفاعلة في الرأي والخبرة أو الحصول على الدعم المادي والمعنوي
النهج والاراء العدائية ضد كفاءات الخارج.
الحلقة 2 في عدد 72
كيف يمكن وقف هجرة العلماء؟
لابد من سياسة هادفة لجذب العقول كوسيلة لانقاذ العراق من الركود الاقتصادي والتكنولوجي ولحاجة الوطن للاختصاصات العلمية والهندسية والطبية ولقيادة خطط التنمية، ولاجل تأهيل المعرفة والفكر والعلم وتأثيرها في المجتمع العراقي، وجعل التفكير والاختصاص المهني والقدرة العلمية جزءا من نسيج المجتمع. ولاجل تحقيق اهداف هذه السياسة لابد ان تتضمن عوامل جذب ومغريات، ومنها:
توفير الامان والاستقرار وتقليل الاختناق الطائفي
وضع الشخص المناسب في المكان المناسب
تحسين مستويات الدخل والمعيشة
تعديل قانون الخدمة الجامعية
زيادة امكانات البحث العلمي وتشجيع الاستثمار والتطوير
تقليل الاجراءات الروتينية فيما يتعلق بالاوراق الرسمية التي تنهك صاحب الكفاءة العائد
ابعاد الصراعات السياسية عن الجامعات
تعديل التشريعات والقوانين والامتيازات الاقتصادية بما فيها مساعدة العائدين ماديا وتسهيل معاملاتهم
القضاء على الفساد الاداري والمالي ودعم الجهاز الاداري للدولة بالكفاءات
الحد من ظاهرة العداء لكفاءات الخارج ومحاولة فهمها ووضع افضل السبل لمعالجتها
حان الوقت لفهم وقبول أن هجرة الكفاءات هو جزء من الحياة في القرن الحادي والعشرين طالما هناك فروق في مستويات المعيشة والحريات وفرص العمل بين البلدان. تحتاج بلداننا إلى الاقرار بأنها تتنافس مع أفضل الدول والمؤسسات في العالم من أجل القوى العاملة عالية الجودة.
لم يجلب مطلع القرن الحادي والعشرين تكنولوجيا جديدة مثل الذكاء الصناعي وحواسيب الكونتم والتحرير الجيني فحسب، بل جلب أيضا أنماطا يمكن من خلالها ربط العلماء في جميع أنحاء العالم في أي وقت من الأوقات. في هذا العالم المعولم قد يكون لدى الكفاءات في العالم المتقدم اعمال خاصة بهم في العالم النامي (8). أصبح التواصل السهل والسفر السريع والتعاون الأكبر بين البلدان المتقدمة والنامية أكثر شيوعا بشكل متزايد ونحن بحاجة إلى تطوير طرق يمكن للكفاءات المهاجرة من خلالها المساهمة في بلدانهم الأصلية. ومن هذه الطرق هو الاستثمار في الكفاءات المهاجرة.
يوجد في الدول النامية نموذجين تم تنفيذىما من أجل مواجهة هذه الظاهرة، وهما: النموذج الاول والذي اختارته كل من كوريا الجنوبية وتايوان، وهو مكلف جدا من الناحية المالية، انه يفترض إعادة إنتاج نفس شروط العمل في البلد المتقدم للتمكن من تنظيم عودة حاملي الشهادات. وتهدف هذه الدول إلى استعادة الاستثمار الذي بذل في إعداد هذه الكفاءات، بالاضافة إلى فائض القيمة الناتج عن الخبرة المكتسبة في بلد الاستقبال (8).
اما النموذج الثاني ويعد أكثر براغماتية، حيث يهدف إلى جعل ذوي الكفاءات المهاجرين نافعين لبلدهم الاصلي حيثما يوجدون .هىذه التجربة خاضتها بعض البلدان، من بينها كولومبيا (شبكة كالداس) وجنوب أفريقيا (شبكة جنوب افريقيا للكفاءات المهاجرة في الخارج) وكذاك الهند من خلال العلماء ورجال الاعمال الهنود العاملين في “السيليكون فالي” بالولايات المتحدة الامريكية والذين أسسوا رابطتين من أشهر روابط العلماء في السليكون فالي وهي “رابطة العلماء الهنود العاملين في السيليكون فالي”، و”منظمة رجال الاعمال الهنود العاملين في السيليكون فالي” . هذا النموذج الذي لا يفترض العودة الفعلية ويقتضي الامر تطوير البلد لشبكة من الباحثين المغتربين هدفها من جهة تواصل الكفاءات فيما بينيم ومن جهة أخرى توطيد العلاقات مع بلدهم حتى يستطيعوا الاسهام -حيثما يوجدون -في التنمية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية لبلدهم الاصلي. وقد طبقنا هذا النموذج بتاسيس شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) والتي تضم النخبة المهاجرة التي تحتل المواقع الاولى للصحوة التكنولوجية والعلمية.
صيغة لاستثمار الطاقات العراقية المتواجدة في الخارج
ان فرص الاستفادة من كفاءات الخارج هائلة ولا تتطلب تخصيص مبالغ مالية كبيرة اذا ما اعتمدنا مبدأ “تحفيز الكفاءات على استثمار طاقاتها داخل العراق” وذلك بالاستناد الى خيار بقاء هذه العقول في الخارج كبديل عن خيار العودة لكون هذا الاسلوب هو الوحيد القادر فعليا على الاستفادة من العقول المهاجرة لانه حل منطقي وعملي وهو حل ملائم لاصحاب الكفاءات المهاجرة التي تريد خدمة وطنها مع بقاءها في الخارج، ويمكن مراجعة كتاب “العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار” للدكتور نادر عبد الغفور احمد (9) والذي يقدم دراسة تحليلية لهجرة العقول العراقية وكيفية استثمارها لخدمة الوطن بالاستناد الى خيار بقاء العقول في خارج الوطن.
وخلاصة ما يستهدفه خيار الاستثمار في مجال التعليم العالي هو بقاء العقول في الخارج مع اشراكهم في التدريس والاشراف على الدراسات العليا عن طريق الزيارات والتواجد لفترات قصيرة داخل الوطن او “التعليم عن بعد” وطرق ايصال المعرفة الاخرى.
باختصار، يتطلب استثمار الطاقات العراقية المتواجدة في الخارج اتخاذ الاجراءات التالية:
تشكيل لجنة خاصة (والافضل انشاء دائرة – دائرة استثمار الكفاءات المهاجرة – لها تركيبها الاداري الخاص)
تشكيل بنك معلومات عراقي يضم معلومات كافية عن العقول المهاجرة وكفاءاتها العلمية والفنية والادارية.
تشكيل هيئة استشارية ترتبط بدائرة الكفاءات المهاجرة لغرض استطلاع اراء العقول المهاجرة بخصوص استثمار طاقاتهم وابداعاتهم لخدمة الوطن وتوضع خلاله استراتيجية اولية تهدف للاستفادة من العقول المهاجرة.
تقوم الدائرة بتنظيم العلاقة بين العقول المهاجرة والجامعات العراقية والملحقيات الثقافية في الخارج ووضع الجداول الزمنية للمحاضرات ولتقديم الخبرة.
دعم الملحقيات الثقافية بجهاز وظيفي متكامل لتكون الرابط بين العقول المهاجرة والوطن ولتنظيم الزيارات ولكي تتمكن من توفير الدعم اللوجستكي لمشروع “التعليم عن بعد” وتنظيم المحاضرات والسمينرات المنقولة عن طريق الانترنت الى الجامعات العراقية.
هذا المشروع مشابه لحد كبير مع مشاريع لدى بعض البلدان، مثل الهند والصين. على سبيل المثال، في حزيران من هذا العام، أطلقت الحكومة الهندية برنامج (فايشفيك بهارتيا فايجيانيك)، الذي يقدم المنح الدراسية للعلماء الهنود في الشتات الذين يتعاونون مع المؤسسات الهندية ويقضون شهرا أو شهرين في الهند كل عام.
تذكر رنا دجاني في مقالة لها في مجلة النيجر (10) درسا من دروس القمة العالمية للمغتربين في دبلن في أبريل 2022، والتي نظمتها المنظمة الدولية للهجرة بخصوص اهمية بناء شبكات تصاعدية للمغتربين يقودها الأعضاء والتي ينبغي لها أن تتواصل مع الحكومة والوكالات العلمية والأكاديميات الوطنية والمجتمع العلمي في بلدها الأصلي. وتعتبر شبكة العلماء العراقيين في الخارج (نيسا) مثالا ناجحا على مثل هذه الشبكات، وهدفها توفير الخبرة والدعم للبلد في مجال العلوم والتكنولوجيا وفروع المعرفة الاخرى باعتبارها جزءا حيويا من التنمية والتطوير في العراق ولتبادل المعرفة والزيارات لتدريب العلماء والفنيين والخبراء والمناقشه في مجال التربية والتعليم والابتكار ونقل التكنولوجيا.
وما نصبو اليه هو ان يتم العمل على تعزيز الجوانب التنظيمية والادارية للزيارات العلمية على مستوى الوزارات والجامعات لتحسين النشاط التدريبي والاستشاري والبحثي وتعزيز فاعليته وبحيث يصبح دعوة العلماء عملا مستمرا لكل وزارة ولكل جامعة. لذلك يتوجب العمل وبسرعة لكي لا يستمر النزف هو ان تقوم الدولة والوزارات المختلفة بوضع الاجراءات الضرورية وخلق الاليات العملية وتخصيص الاموال اللازمة لزيادة ميزانيات البحث والتطوير وبوضع التعليمات التي تؤدي الى تشجيع وتسهيل الدعوات لعلماء وكفاءات الخارج بزيارة الوطن والمشاركة في بناءه. كما يتطلب اخذ الاجراءات التي من شأنها ان تشجع كل كفاءة خارجية بالاتصال بجامعة او بمعهد تدريب او تطوير او بوزارة لاعلامها بوجوده وبرغبته لتقديم خبرته حتى ولو كانت على صورة محاضرة قصيرة او اجتماع قصير.
ان جامعات ومؤسسات البحث والتطوير العالمية تتطلع وتتوق الى زيارات العلماء من خارجها وتخصص التمويل اللازم لاستضافتهم والاستفادة من خبرتهم، كما تقوم الشركات العالمية بالاستفادة من خبرة العلماء عن طريق الاستشارة وتكلفها مثل هذه الفعاليات أموالاً طائلة لان العلماء لا يمنحون جهودهم مجانا للشركات الصناعية مثلما يمنحون هذه الجهود للجامعات الاخرى. فاذا كانت جامعاتنا العراقية ومؤسسات البحث والتطوير في التعليم العالي وفي العلوم والتكنولوجيا وفي الوزارات الاخرى راغبة حقا في الاستفادة من العقول المهاجرة فستجد المئات من العلماء العراقيين مستعدين لتلبية الدعوة وتقديم الخبرة، مستجيبين بذلك إلى الرغبة بتعويض وطنهم الاصلي جزئيا من الضرر الواقع نتيجة هجرة تلك الأدمغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
- ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، “هجرة الأدمغة”
- الجامعة العربية، “تقرير حول هجرة الأدمغة في الوطن العربي”، 2017.
- تقرير مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، “هجرة العقول العربية: الأسباب والآثار”، 2018
- عبد الحسين شعبان، “هجرة العراقيين: أسبابها وآثارها،” موقع الجزيرة نت، 2023.
- تقرير “هجرة الكفاءات إلى أوروبا” الصادر عن المفوضية الأوروبية، 2023
- تقرير “هجرة الأدمغة” الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، 2023
- تقرير “مؤشر هجرة العقول” الصادر عن مؤسسة بريتش كونسل، لندن، 2022
- زينب محمد العبد الله، “هجرة الكفاءات العلمية من الدول العربية: الظاهرة، الأسباب، الآثار، وسبل الحد منها.” كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2008
- نادر عبد الغفور احمد، “العقول العراقية المهاجرة بين الاستنزاف والاستثمار”، مؤسسة الرافد، 2003
- رنا ديجاني، “العلماء في المهجر مورد قوي لبلاهم الأصلية” مجلة النيجر، 622، 671، 2023