ما بين مأزق الدراسات العليا المحلية وندرة الابتعاث
أ.د. محمد الربيعي
كثيرا ما نسمع عن «التوسعة» (زيادة اعداد المقبولين خصوصا بعد ظهور نتائج القبول) في مقاعد الدراسات العليا من حيث كونها مطلبا لجهات عديدة ابتداء من الطلبة الذين لم يشملهم الحظ في الحصول على القبول للدراسة فيها وانتهاء بالبرلمان.
تورطت وزارة التعليم العالي والجامعات بشأنها فوجدت نفسها في مأزق كبير بين القبول او الرفض، وهذا اوقعها في ورطة حيث ان التوسعة تعني قبول زيادة غير معقولة في اعداد الطلبة على حساب الامكانيات المتوفرة في الاقسام العلمية، او رفضها مما يؤدي الى فتح النيران عليها لتركها اعداد كبيرة من الطلبة خارجها خصوصا وان الدراسات العليا اصبحت امل كل خريج بعد ان اثبت الزمن الغابر ان شهادة الدكتوراه هي الطريق الوحيد للتميز الاجتماعي او للحصول على وظيفة ملائمة، وراتب مقبول في وقت تلاشت الحاجة لوظائف جديدة نتيجة انهيار الاقتصاد والتضخم الوظيفي والتعيين المفرط والفساد السياسي.
ما يسمى اليوم بـ”الدال نقطة” اصبح طريق التباهي بالمعرفة والعلم حتى وان كانت الشهادة مزيفة، وضمن مشاريع الفساد العراقي اللامتناهية، وتهافت السياسيين والمسؤولين الحكوميين على اكتسابها وبأي وسيلة شرعية او غيرها. وبضوء سياسة القبول المفرط الذي فرض بالأساس على الجامعات برزت ظاهرة لم يشهدها المجتمع العراقي، ولا المجتمعات الاخرى في السابق، وهي فرط اعداد اصحاب “الدال نقطة”. وعلى حسب ادعاء احد المهتمين انه لم يبقى احدا بدونها من مقدمي برامج المحطات الاعلامية والمشاركين فيها، ولن يوجد في المستقبل القريب احد من السياسيين واصحاب الدرجات الخاصة والمستشارين والمسؤولين الكبار بلا درجة الدكتوراه.
يتم ذلك في عصر اصبح الحصول على الشهادة العليا مسألة محسومة في ظل انتشار المكاتب التجارية التي تعمل على “مساعدتك” في كتابة الاطروحة مقابل مبلغ مالي بسيط، والمختبرات الاهلية التي تعمل على اختلاق النتائج الملائمة لاطروحتك، وعدد من المفسدات التي ولدت ضغوطات كبيرة على الطلبة النزهاء والمهتمين باكتساب العلم والمعرفة الحقيقية ودفعهم الى سلك طرق سهلة ومظمونة غير تلك الطرق المضنية في البحث العلمي والتي تتطلب سنوات عديدة لانجازها وميزانيات هائلة لا يمكن توفيرها من جيوب الطلبة انفسهم.
وفي مقابل هذا الافراط في الشهادات المحلية وتلك الشهادات من جامعات الدول المجاورة خصوصا الزائفة منها نجد اليوم نفور كبير من قبل الدولة عن الابتعاث. وبعد ان بلغت البعثات اوجها في اعوام 2010 الى 2014 انحسرت اليوم الى مجرد اعداد ضئيلة ونادرا ما تكون موجه الى جامعات الدول الصناعية المتقدمة، فيما عدا عدد محدود من بقايا البعثات التي تشرف عليها اللجنة العليا لتطوير التعليم العالي في العراق والمرتبطة بمجلس الوزراء.
ولكي تكون لنا فكرة واضحة على ضعف الابتعاث لنقارن عدد الطلبة العراقيين مع اعداد الطلبة من الدول المجاورة الدارسين في الولايات المتحدة الامريكية. في عام 2021 كان هناك حوالي 9 الاف طالب ايراني و 22 الف طالب سعودي و 7 الاف طالب تركي و 317 الف طالب صيني، بينما لم يزد عدد الطلاب العراقيين في اي وقت كان عن 1200 طالب مما يؤكد استمرار سياسة الحصار الذاتي التي ابتلى بها التعليم العالي، والجامعات العراقية منذ بداية التسعينات.
الدولة العراقية لا تعتبر الشهادة الاكاديمية من الدول المتقدمة كشهادة ثقافية ولا تفهمها الا بكونها تأهيل كفاءات علمية خصوصا في البحث العلمي. بالحقيقة تكمن اهمية الابتعاث في كونه وسيلة اساسية لنقل الخبرة والثقافة الانسانية العالمية، وفي اكتساب اخلاقيات المهنة وفي توسيع معارف الطالب من ثقافة والتزام بالمسؤوليات الاخلاقية في ضمان جودة التعليم العالي واعتماد معايير قائمة على العدالة والثقة والنزاهة تحسن العلاقة بين الاستاذ الجامعي والطالب، والحصول على خبرات عديدة في التعامل مع الاشخاص من خلفيات ثقافية من مختلف انحاء العالم والتعرف على ثقافاتهم.
الدولة العراقية لا تعي اهمية الدراسة في الدول الصناعية المتقدمة ولا الى تأثير خريجي هذه الدول على التعليم والاقتصاد الوطني والتنمية البشرية. لو زرت الصين اليوم لوجدت ان معظم قياداتها الاكاديمية والعلمية هي من حملة الشهادات من جامعات الدول الغربية. فبالرغم من المزايا الفريدة التي يوفرها الابتعاث وعلى عكس سياسات بلدان كثيرة منها الصين والهند وبلدان جنوب شرق اسيا والخليج العربي تنتهج الدولة العراقية نهجا سلبيا امام الابتعاث مما يؤكد لنا عدم حرص الدولة العراقية على اعداد الموارد البشرية وتأهيلها بشكل فاعل لتلعب دورها في نهضة العراق الاكاديمية والتربوية والاقتصادية، ولكي تتبوأ جامعاتنا مراكز عالية بين الجامعات والمؤسسات التربوية العالمية.
بدون سياسة جادة تتضمن ابتعاث عشرات الالوف من الطلبة ومن الجنسين خصوصا من الاطباء والمهندسين والزراعيين والاقتصاديين والاداريين والتربويين واللغويين فان العراق سيبقى يرزح تحت وطأة التخلف وستستمر المعاناة من الحصار الذاتي وضعف الكفاءات العلمية والثقافة العالمية والاخلاقيات الاكاديمية.