بالرغم من احتفاظ التعليم العالي في العراق بمزايا وتقاليد جيدة نجده في نفس الوقت يتميز بصفة الثبات على التقاليد الرديئة. منذ تكوينه، فإن هذا القطاع مستمر بالنمو الكمي وبالطريقة التقليدية، وقد يستمر هذا النمو قليلاً في السنوات القادمة، لكن سيبقى رديئا وطاردا للنوعية.
لربما من الممكن الادعاء بأن معظم الجامعات والكليات تمثل مؤسسات تابعة لإدارة واحدة فعندما تخطأ هذه الادارة فالمصيبة تصيب كل الجامعات. والأسوأ من ذلك، هناك القليل من الاشارات على وجود أي نوع من التطوير، أو الانتعاش او الاصلاح في الافق.
لا أتريث من ذكر ما لا يقل عن خمس عواقب لهذا النوع من الرداءة التي يجب علينا أن نقلق بشأنها وبالتالي العمل من اجل التخلص منها:
اولاً، هي تأثيرها على قابلية توظيف خريجي الجامعات. ساءت أرقام التوظيف على مر السنين لتصل إلى ادنى مستوياتها، ومع ذلك وبالرغم من عدم وجود احصائيات كافية فان الصورة المستقبلية تبدو أكثر قتامة. هناك مئات الآلاف يتخرجون سنوياً من الجامعات والمعاهد في العراق لكن لا يتعين إلا النزر اليسير منهم.
يمكننا أن نتجادل حول مدى موثوقية الأرقام، ولكن من الصعب مناقشة حقيقة أن عددا كبيرا من الشباب الحاصلين على شهادات جامعية عاطلون عن العمل، وحتى مع مرور الوقت، من المرجح أن يظلوا عاطلين عن العمل أو في أحسن الأحوال يصبحون عاطلين مقنعين. في الواقع، توقف الكثير من الشباب عن البحث عن وظائف.
من الملاحظ أن عددا متزايدا من الشباب حديثي التخرج هم من الكليات الأهلية (ما يقرب من 180 الف من الطلاب التحقوا في عام 2018\2019 بكليات اهلية مقابل 518 الف طالب التحقوا بالجامعات الحكومية). وبسبب الاجور العالية يتكلفون مبالغ هائلة. ومع انخفاض معدلات التوظيف، فإن الكثيرين يزداد فقرهم أو ديونهم مما يضطرون للعمل بأية وظيفة مهما كانت لا تلائم شهاداتهم او خبراتهم، او لأجل التخلص من البطالة يحاولون الالتحاق بالدراسات العليا. اصبحت الدراسات العليا مرتعا للمبدعين والمقلدين على حد سواء لا يفترقون الا في درجة الالتزام بالطرق الاخلاقية في اكتساب العلم وفي قوة الحفظ.
تؤدي البطالة إلى مشاكل أخرى بين الشباب، والتي قد تختلف عند المتعلمين. يعتقد البعض أن الاستياء المتزايد بين الشباب الناجم عن البطالة، على الرغم من حيازتهم شهادات جامعية، يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات نفسية واجتماعية وتنامي وتائر الفساد. على الأقل، قد نتوقع أن البطالة على الرغم من التعليم تضر بالصحة العقلية وبأخلاق الشباب. لا اعرف لماذا نفتقر الى دراسات في هذا المجال بالرغم من آلاف الأطروحات والدراسات عديمة الفائدة والتي تنتشر بين طلبة الدراسات العليا.
ثانياً، تتمثل الرداءة في ضعف جودة التعليم الذي يتم تقديمه في الجامعات والكليات. على مدى العقدين أو الثلاثة عقود الماضية، اختار غالبية الطلاب من اصحاب الدرجات العالية بحكمة او بعدمها اختصاصات طبية. لا يبدو أن هذا الاتجاه سيتغير في أي وقت قريب، في الواقع، قد يزداد الأمر سوءا. مع ذلك سواء كان الاختصاص طبيا او انسانيا ستستمر المناهج على غرابتها في الاعتماد على «الملزمات» والتلقين والحفظ، وما تكثر من الزلل وتورث الضجر وتفقد الطالب لذة التفكير والتأويل، وتجعله كارها لقراءة الكتب بسبب كثرة الاعادة لغرض الاستذكار، وتحرمه من متعة البحث والتنقيب واكتشاف المعلومات. لذلك نحن بالفعل ننتج خريجين ضعيفي التدريب ومُحبطين، وإذا استمرت الجامعات بهذا المنوال، كما يبدو، فإن جودة الخرجين في كل من قطاع الدولة والقطاع الخاص ستتدهور أكثر. يقول وزير الصحة العراقي السابق جعفر صادق علاوي: «إنّ الأطباء العراقيين لا يصلحون للعمل ممرضين». وحسب رأي الصحيفة التي نقلت الخبر: «لم يكن علاوي هو أول المنتقدين إذ أجمع أكاديميون وأساتذة على ضعف مستوى التعليم في العراق، وأبدى الكثيرون استغرابهم من ركاكة أسلوب شخصيات اجتماعية تظهر على التلفزيون وتحمل شهادة عليا وهي لا تجيد كتابة جملة من أربع كلمات بدون أخطاء».
قد تساعد تقنيات التعليم الجديدة في سد الفجوة إلى حد ما، ولكنها بديل ضعيف للتعليم الجيد المبني على التفكير النقدي والتحليلي. تعتبر عواقب التدهور الإضافي في جودة الخريجين على قطاع المعرفة في العراق هائلة حتى عندما يصعب تحديد تأثيرها الحقيقي لعدم وجود وظائف اصلا.
ثالثاً، هي رحلة الطلاب إلى وجهات غير مجدية للتحصيل العالي كمثل جهات في دول الجوار. لا اعرف عدد طلبة الدراسات العليا الذين يدرسون في دول الجوار حاليا، لكنه من المؤكد انهم لا يتواجدون في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة واوربا وأستراليا، وإنما بشكل متزايد ومخيف في إيران ولبنان وتركيا. إن تدفق الطلاب إلى ما يسمى بالخارج مكلف بالنسبة للعراق بعدة طرق بالرغم من ان كثير ممن يتوجهون إلى الخارج يعودون للوطن. أي، بخلاف فقدان النقد الأجنبي، لا يوجد اي قدر من هجرة الأدمغة التي تحدث بفضل وجودهم في دول هي مصّدرة للعقول اصلا. بالطبع، هناك من سيقول إن «الخسارة المالية» يتم تعويضها عن طريق عودة الأدمغة. لكن هل يمكن اعتبار الحصول على الشهادات من دول الجوار اكتساب حقيقي للمعرفة وتشكيل للادمغة بشكل عام؟ من الصعب اتخاذ موقف مفاده أن تدفق الطلاب إلى وجهات دول الجوار او دول غير الدول المتطورة يجلب فوائد صافية للبلاد. احدى الجامعات في دول الجوار منحت الدكتوراه في امتحان بالنيابة وتم الاعلان عن نجاح الطالب بكل فخر من قبل الاستاذ الذي اناب عن الطالب. وفي احدى الجامعات تم منح احد السفراء الشهادة في بيته من قبل رئيس الجامعة ومسؤوليها الكبار في حفلة خاصة حضرها عدد كبير من المدعوين. وكلنا يعرف قصة الفساد في امتحانات القبول في احدى دول الجوار، وقصة الجامعات التي منحت الاف الشهادات لمن لا يستحقها ابدا، ولم يسحب الاعتراف بها او اخضاعها للفحص لغاية اليوم.
رابعاً، انعدام القدرة في التعليم العالي تؤثر بشكل مباشر على البراعة في البحث والابتكار. هناك العديد من الطرق التي يحدث بها ذلك، دعنا نناقش طريقتين بإيجاز أدناه.
الطريقة الاولى، النتيجة الأكثر وضوحا في اواسط التعليم العالي هي أنها تولد وتحافظ على المزيد من التراتيب التقليدية والشهادات التي لا تدعم حاجة السوق والمجتمع ولا التغيير أو التطوير او الاصلاح. من بين أكبر الخاسرين في هذا القطاع هم الباحثون الحقيقيون والمبدعون. بادئ ذي بدء، لا يدعم البحث سوى زيادة عدد البحوث المنشورة وهو مجرد هيكلية فارغة لتخريج طلبة الدراسات العليا. تظل معظم الجامعات (وأعضاء هيئة التدريس) موجهة نحو البحث السطحي والافتراسي لضرورات وظيفية ولهيمنة الفساد الاداري وضعف المعرفة، ولكن نظرا لمؤشرات الأداء الأكاديمي الوزارية، فقد كرست نفسها لقضية “التظاهر بالبحث”. ازدادت النسبة المئوية للطلاب المسجلين في برامج الماجستير والدكتوراه، وارتبطت هذه الزيادة بزيادة إجمالي عدد الطلاب، من حوالي 150 الف طالب في 2015\2016 إلى حوالي 700 الف طالب في عام 2018\2019 من دون تحسين جودة التعليم العالي واداء الخريجين. السؤال هو ما إذا كان العراق يمكنه ان يصل إلى مستويات أعلى دون تحسين كبير لقدراته على البحث والابتكار. والسؤال الذي من الصعب ايجاد جواب له هو كيف يمكن ان يحقق العراق زيادة سنوية كبيرة في نوعية ومصداقية البحوث المنشورة من دون اموال مخصصة للبحث ومن دون عمليات بحث تستطيع مراقبتها وتحديد جودتها.
الطريقة الثانية، كما لوحظ سابقا، ساهمت محدودية مقاعد الجامعات التي تقبل اعداداً كبيرة من الراغبين في الدراسات العليا في زيادة أعداد العراقيين المتجهين إلى دول الجوار، وانعدم تقريبا التوجه نحو جامعات الدول المتقدمة. أولئك الذين يدرسون في الدول الغربية ينتهي بهم الأمر بعدم المساهمة في قطاع المعرفة العراقية على الاكثر، فغالبا ما يواجهون مصاعب هائلة. وبعد أن يصبحوا جزءً من قطاع التعليم العالي، يضطرون إلى التكيف مع “ثقافة الاشراف والترقية” من أجل البقاء والازدهار. في حين أن هناك قصص نجاح للباحثين العراقيين المدربين في الخارج والداخل من الذين يقدمون مساهمات كبيرة وصغيرة في قطاع المعرفة في البلاد، من الأهمية الاعتراف بأن مساهماتهم لا تزال منخفضة ولن نرى تأثيرها على الاقتصاد والمجتمع بسبب محدودية الموارد وانعدام الدعم المالي والاكاديمي.
خامساً، ضعف الأداء في التعليم العالي يقوض القوة الاكاديمية والمبدعة (الناعمة). في حين أن القوة الصلبة مستمدة من القوة العسكرية والاقتصادية للدول، فإن مصادر القوة الناعمة تكمن في «جاذبية ثقافة الدولة ومُثلها السياسية». حتى الصين، التي يُنظر إليها منذ فترة طويلة على أنها دولة مصممة على تعزيز قوتها الصلبة فوق كل شيء آخر، ملتزمة الآن ببناء قوتها الناعمة. تساهم في هذا البناء حالة قطاع التعليم العالي في أي بلد، ولاسيما عدد المؤسسات الاكاديمية والعلمية ذات الشهرة العالمية.
فشل العراق في هذا الصدد – في بناء جامعات جيدة معروفة دوليا وجذب الطلاب من جميع أنحاء العالم. حتى عند محاولة بناء علاقات تبادل طلبة مع الجامعات الغربية فان التعليم العالي العراقي يوفر مقاعد دراسية في الطب بدلا من مقاعد في اللغة العربية والتاريخ والاثار. فهل من المعقول تصور وجود رغبة عند طلبة الجامعات الغربية لدراسة الطب في العراق؟
إلى متى يمكن لنا أن ندعي بوجود مبتكرين ومبدعين؟ كيف يمكن للعراق أن يحافظ على ماء الوجه بالإشارة إلى وضعه السابق كمركز تعليمي رائد؟ إن تآكل القوة الناعمة أمر مأساوي بشكل خاص بالنسبة لما بنيناه نحن العراقيين من احسن المؤسسات التعليمية في الماضي.