“اجيتك … أريد أشبع شوف منك قبل ما تشدّ الرحال”؟!
أ. د. جواد كاظم لفته الكعبي
أولا. شوفة … الفاجعة: هل كان تقييمها صائبا؟!
الرحمة والرضوان لضحايا فاجعتنا في حريق مستشفى “ابن الخطيب”، وعزائي وتعاطفي مع شعبي وأهالي الضحايا، ولنا جميعا الصبر الجميل والتحلي بالحكمة والمسؤولية العالية وإعمال العقل بما حدث، وهو حدث صادم ومُثير لمشاعر الحزن والغضب العميقين بكل المقاييس. سأجري تقييما عاما للحدث الجلل من ثلاث زوايا نظر، بغرض تأشير كيفية التعامل مع تداعياته:
1) زاوية احتمالية وقوع ما حدث: ما حصل كان مُتوقعا، ومن المحتمل جدا أن يقع كثيرا بسبب سوء إدارة القطاع الصحي الحكومي والأهلي، والفساد السياسي في إشغال المناصب العليا لقيادته، وما يُسببه الهيكل التنظيمي السائد لإدارته من مشكلات ضعف وتشتت المسؤولية والرقابة!
2) زاوية تعامل الرئيس الكاظمي مع الحدث كانت:
- فورية: عقد اجتماع طارئ مع بعض قيادات الدولة لتدارس الحدث ليلة وقوعه!
- شجاعة: سحب يد كبار موظفي القطاع الصحي بمن فيهم وزير الصحة!
- صائبة (“صوت العراق”، 25 نيسان 2021): “يجب أن لا يقول لي أحد تماس كهربائي.. هذا أمر معيب”، “لن أسمح بأن يظهر مسئول بالدفاع المدني يقول أرسلنا كتبا رسمية.. اذهبوا بأنفسكم ودققوا وافحصوا إجراءات السلامة والوقاية للمستشفيات والفنادق والأماكن العامة”، “ما حدث كان مَسّا بالأمن القومي العراقي”!
3) زاوية مآل التعامل مع الحدث: بالرغم من التعامل السياسي الفوري والشجاع والصائب للرئيس الكاظمي، إلا أنها غير كافية، ذلك أن التعامل الناجع والفعال كما أرى، يجب أن ينصب بالمقام الأول على إعادة هيكلة شاملة لإدارة القطاع الصحي وإبعاده تماما عن المغانم السياسية!
… في الغالب الأعم من الفواجع والكوارث والأحداث الجسام، تلجأ الشعوب عادة إلى خزينها التاريخي من الحكمة والعزيمة وبُعد النظر للتعامل معها، بغرض مداواة الجراح والنهوض مُجددا والسير بخطى شجاعة وواثقة إلى الأمام … وشعبنا بكل تأكيد قادر على ذلك!
ثانيا. شوفة … الحافلة: المواقع المحتملة لنزول ركابها؟!
بعد انتهاء اجتماع الحكومة، طلب سائق حافلتها الكاظمي من الركاب (22 راكب/وزير) الصعود إليها، وانطلقت من المنطقة الخضراء مُتجهة صوب الزعفرانية (موقع احتراق مستشفى ابن الخطيب)، سائرة شرقا باتجاه ديالى (موقع عقد المُشاركة لحقل المنصورية الغازي)، ثم نزولا إلى مدن الوسط والجنوب حيث الفقر والنفط (مواقع عقود جولات التراخيص النفطية والموانئ)، وعادت أدراجها إلى نقطة الانطلاق. خلال الرحلة، كان السائق يُحدث ركابه بأنكم ركبتم الحافلة لتقديم الخدمات للناس والاقتصاد وليس للمتعة والاسترخاء، لذلك “عليكم النزول إلى دوائركم وتباشروا العمل الميداني لحل الإشكالات وتسهيل الإجراءات، وإلا سأنزلكم بنفسي”. أُخمن أن السائق قد حدد لكل راكب موقع نزوله، ولكن ثمانية منهم تحسسوا مقاعدهم وأمسكوا مقابضها بقوة وهم ركاب: “المالية، الصحة، التجارة، النفط، الزراعة، الكهرباء، الصناعة، والنقل” (“صوت العراق”، 29 نيسان 2021)، وبما أنني كباحث علمي أعرف ثلاثة منهم معرفة جيدة، فسأحدد مواقع نزولهم بدقة:
1) راكب المالية: أفقر وأثقل كاهل الفقراء والاقتصاد بخفض قيمة الدينار والضرائب والقروض، فسيكون موقع نزوله في المنافذ الحدودية وسط وجنوب البلاد لتحسين الجباية المالية!
2) راكب النفط: لم يُعظّم الواردات النفطية، فسيكون موقع نزوله في حقول عقود جولات التراخيص النفطية جنوب البلاد لتحسين إدارتها وتقليل كلف إنتاجها وأضرارها البيئية!
3) راكب النقل: لم يُحّسَن إدارة ملف مشروع ميناء الفاو الكبير، فسيكون موقع نزوله الموانئ البحرية لتنظيم أعمال التعاون والشراكات مع جميع أطراف طريق الحرير الدولي!
… سيكون قد مضى عاما كاملا على انطلاق الحافلة صوب محطتها الأخيرة عند موقع الانتخابات المبكرة، ولكن سائقها أضاع الطريق إليها بسيره “بدرابين” … خارطة ورقة بيضاء!
ثالثا. شوفة … الرحيل المُبكر: صوب الكارثة؟!
وجدت الطبقة السياسية الحاكمة نفسها خريف 2019 وحتى ربيع 2020 أمام أزمة كبرى لم تشهدها من قبل: تنامي الاحتجاجات الشعبية، وتزايد أعمال العنف الحكومي وغيره تجاهها، وسقوط شرعيتها السياسية في نظر المرجعية الدينية، وتدهور الوضع المالي للبلاد. وخلال سبعة شهور، فشلت أركان هذه الطبقة في إيجاد البديل لحكومتها المستقيلة، وأخيرا في أيار 2020 عثرت على ضالتها في شخص السيد مصطفى الكاظمي لتشكيلها. في وقتها، كان واضحا للعيان أن مهام الحكومة الجديدة ستكون إجراء انتخابات مبكرة خلال الفترة القصيرة والإسعاف الفوري للأزمة المالية. ولكن ماذا حصل؟ الذي حصل خارج المنطق السياسي السليم:
- طرحت الحكومة منهاجا للإصلاح يتطلب سنوات طويلة لتنفيذه إذا توفرت الظروف المواتية!
- أتبعته بورقة بيضاء إصلاحية مُلتبسة الدوافع والأهداف وغير مُحددة بسقف زمني للتنفيذ!
- أقرت موازنة يجري تمويلها بأدوات مُفقرة لملايين الناس ومُفلسة للاقتصاد!
- رحَّلت الانتخابات إلى زمن أبعد، وزادت عليه بزمن مضاف حتى خريف 2021!
- لم تستطع توفير القدر الكافي من شروط البيئة السليمة لإجراء انتخابات نزيهة وعادلة!
- “حافظت على وعدي بأن أكون محايدا” (الكاظمي) … بين الناس والطبقة السياسية!
- “إن قرار انسحابي من الانتخابات تم اتخاذه من اللحظة الأولى لتولي المنصب” (الكاظمي)!
… وبما أنني لست مُختصا بالتحليل السياسي، ولكن دراساتي وأبحاثي العلمية الكثيرة في الثقافة والسلوك التنظيمي لإدارة الأعمال، تسمح لي بالقول أن الطبقة السياسية الحاكمة لم تحل أزمتها الكبرى، وستُرحّلها مع حكومتها ومصير شعبها نحو زمن … الكارثة!
رابعا. شوفة … الحياد: في السياسة … ثمنه باهظ؟!
يقول الرئيس الكاظمي (“الأخبار”، 9 أيار 2021): “البعض حاولوا شيطنتي، ولكنني حافظت على وعدي بأن أكون محايدا، وأن مشروعي السياسي هو النجاح بتأمين انتخابات نزيهة وعادلة”. سأحاول قراءة هذا القول بخيال العراقيين السياسي الخصب:
1) الشيطنة والوعد: أظن أن عملية الشيطنة والوعد بالحياد قد جرت وقت التفاوض مع الكاظمي لإشغاله منصب رئيس الحكومة … وتواصلت بعد تكليفه!
2) الشياطين: هم أطراف الطبقة السياسية الحاكمة التي نصبته على عرش الدولة ليكون “حاكما محايدا”، وأن قوله “بعضهم” وليس “كلهم” … تنقصه الدلالة والبرهان!
3) الحياد: هو موقف سلوكي لشخص ليس له مشروع سياسي يسعى إلى تحقيقه والدفاع عنه، ويأخذ وجهان: أولهما الحياد بين الشياطين كل على انفراد؛ وثانيهما الحياد بين مجموع الشياطين من جهة، ومجموع الشعب الذي تحكمه هذه الشياطين من جهة أخرى … وأنا أُرجح الوجه الثاني!
4) الوعد: ليس للمحايد شأن بصراعات وطموحات وغنائم الشياطين السابقة واللاحقة، ولكنه سيقف حائلا بين الشياطين والشعب من خلال طرحه مشروعات … عبث الإصلاح والانتخابات المُبكرة!
5) ثمن الحياد: لا علم ليّ به، ولكن رقص المحايد مع الشياطين على حلبة مليئة بالألغام السياسية والاقتصادية المحلية والدولية المتفجرة … يتطلب من الراقصين دفع ثمنا سياسيا باهظا!
… وصدق من قال: لا توجد منطقة وسطى بين الجنة … والنار!
خامسا. شوفة … البدوي: صاحب بوصلة؟!
عند تكليف “المُحايد” الكاظمي كما يقول عن نفسه، بتشكيل الحكومة، قدم للبرلمان برنامجا مبعثر الهيكل والمحتوى، ولم يسأله أحد وقتها كيف سيتسنى له تحقيق ذلك، والبرنامج يخلو من أي “رؤية إستراتيجية” يمكن على أساسها للمُحايد صياغة مشروع سياسي واضح المعالم لقيادة البلاد. وبعد سنة من التكليف، يقول المُحايد “أننا التزمنا بالكثير من فقرات برنامجنا الوزاري.. وأن مشروعي السياسي هو النجاح بتأمين انتخابات نزيهة وعادلة”، وهو أمر منهجي يوضح بجلاء غياب بوصله مشروعه السياسي، وانحصاره في إجراء انتخابات لا يُشارك بها، وبذلك وضع المواطن والناخب والدولة أمام عواصف ومصائر مجهولة:
1) المواطن: جرى التعامل معه بوصفه الخزان المالي لتمويل موازنة الدولة، ولكن من دون وجود أية ضمانات لتحسين وضعه المعيشي في المستقبل المنظور وغير المنظور جراء هذه التضحية!
2) الناخب: تم وضعه إزاء شروط بيئة انتخابية عدوانية (المال السياسي، السلاح المُنفلت، الترهيب) ستنتهك نزاهتها وعدالتها، وهو أمر سيُفضي إلى عزوفه الواسع النطاق عن المشاركة فيها!
3) الدولة: أفضى غياب بوصلة المُحايد الى التهديد الوجودي الحقيقي لكيان الدولة: “إن العراق في وضع مقلق، أنها دولة هشة وعلى مقربة بشكل خطر من أن تصبح دولة فاشلة، ومستقبله يبدو قاتما” (تقرير المجلس الأطلسي الأميركي للبحوث، “صوت العراق”، 11 أيار 2021)!
… كتب أحدهم (غربي الموطن والجنسية): “الرؤية ضرورية كضرورة النجوم للبدوي، ذلك أن البدوي في الصحراء، حيث تغير العواصف الرملية بشكل دائم معالم الأرض، يتطلع إلى النجوم في السماء ليهتدي إلى مساره. إن النجوم ليست هي الهدف، ولكنها تعطي الدليل الذي يمكن الاعتماد عليه في الرحلة إلى الواحة التالية” … لا يبدو أن المُحايد وجد نفسه يوما ما في صحراء السماوة!
سادسا. شوفة … شَنّ وطبقّة: مأساة الدهاء؟!
يُذكّرُني إعلان الكاظمي عدم مشاركته في الانتخابات بقصة “شَنُّ” و”طَبَقّة” ولكن بصورة مأساوية، ولمن لا يعرف القصة فهي تُقال عند توافق الدهاة، و”شن” (الكاظمي) رجل من دهاة العرب المعاصرين كان يبحث عن امرأة تضاهيه الدهاء، ووجد ضالته في “طبقة” (الطبقة السياسية الحاكمة)، وتزوجها ولما خَبِرَ أهل داره دهاءها قالوا: “وافق شَنُّ طَبَقّة” وذهبت مثلا. ولكن بعد حَوّل واحد من الزمن أعلن “شَنُّ” رسميا عن قصة مأساته:
1) دهاء “طبقة”: بعد أن طردت “شنّها” السابق داهية دهاة نظريات الإصلاح والدولة الاجتماعية، خرجت هائمة على وجهها طلبا لشنّا آخرا يَرّدُ عنها وحشة دار الحكم ولكن بشرط أن يكون ندا لها وطيّعا لدهاءها، ووجدت ضالتها في فتى داهية بأسرار الدار … وتزوجته!
2) دهاء “شَنُّ”: وجد ضالته في امرأة داهية مُتسَيّدة ولكنها مرفوضة من غالبية أهل الدار، فتزوجها بضمانة بقائها سيدة للدار، وأدى شَنّ واجباته بدهاء الظرفاء، حيث ألهى أهل الدار بحكايات طريفة عن هندسة الإصلاح وهيبة الدولة ونزاهة الانتخابات … نالت رضا “طبقة”!
3) مأساة المثل: بعد أن أوفى “شَنُّ” بواجباته الزوجية، وجدت “طبقة” أن حكايات زوجها الطريفة لم تُقنع أهل الدار، وطلبت الطلاق وتحريم دخوله مخدعها، آملة حصولها على “شَنُّ” ثالث بعد الانتخابات، واستجاب “شَنُّ” لطلبها بشروط ربما لا يعرفها دهاة العرب القدامى، فخسر المثل “وافق شَنُّ طَبَقّة” في أيامنا الراهنة … مصداقيته التاريخية!
… “تغدت” طبقة بفتاها شَنّ قبل أن “يتعشى” بها … ولم “تعزم” أهل الدار إلى “وليمتها”!
د. جواد الكعبي، 21 أيار 2021
jawadlafta@yahoo.com