احاول ان امسك بشيء من الماضي العتيق القريب
ماجدة البابلي
ذات ليلة قلقة مشدودة بكثرة ضبابها ، مررت بالكثير من الافكار والصور العالقة بذهني مرورا لاهثا ، احاول ان امسك بشيء من الماضي العتيق القريب لأرمم الحاضر بحكاياته المنسية في زحمة الاحداث التي تتنافس في خلع سراويلها على الأسرة في الغرف الحمراء .. ارسم خريطة بفنجان قهوتي زمن قبل ان يغادر القمر علّني امسك بأحدى محطاته .. خريطة مدينتي التي تختفي حقيقتها تحت ركام من انقاض التأريخ المتعاصف على يد جنرالاتها الذين ملئوا التأريخ حروبا واحقادا وخوفا .. تلك المآسي تجعلني اعيد اكتشافها باستمرار بذات الفنجان وذات الكأس النقي .. طفولتي هي الشاهد الأول على اكتشافها ، لربما اجهل بعض من تفاصيلها لكنها تختصر كل الازمنة العتيقة التي بدأت بها .. طفولة تشق جدار الظلام فتكتشف تلصص الشمس عليها .. كل صباح اضفر شعري بطوق من الزهر والشرائط الملونة .. عيناي لا تمل من التلصص بعمق جدران ازقتها العتيقة كي تنبش الماضي بلياليه القمرية .. فنجان قهوتي تتلاطم فيه زفرات ناي تتناهى اليّ منتحبة من بعيييييد .. كانت طفولة بلا فواصل ولا نقاط مجردة من الانغلاق ، تنشد الحياة مع ولادة شمس كل صباح قبل ان يشق القهر جدران حلّتي العتيقة .. طفولة تتغذى من عسل سرب نوارس شط الفرات الذي رضعت بلاغته مبكرا بلا مفاجئات بلا طبول حرب بلا شياطين ذو القرنين الاسود والابيض اللذان اغرقونا بجحيم إلههم الازلي .. طفولة لا تعرف سوى البيت المشنشل والمدرسة الملقات على جفني النهر القريب والمعلمة ذات الفستان القصير والدكان القريب من بيتنا وصاحب عربة الدوندرمة والعسلية والجارة الخياطة السعيدة بما تسنج من فساتين فرح لجاراتها المفتونات بالمودة والفرح والمقهى القريب ( ابو سراج ) الذي يرتاده اخوتي وبين الحين والحين اتسلل لتلك القهوة وذلك السؤال نفسه ( لماذا لا تذهب امي وجيراننا النسوة الى تلك القهوة ؟!!! ) (لماذا فقط اخوتي وابي وبقية الرجال ؟!! ) والصديقة التي تخرجها المعلمة من الصف في حصة درس الاسلامية دون ان نعرف لماذا وقتها لكثرة براءتنا ونقاءنا الانساني .. طفولتي .. مدينتي ، ليلها مرهون بحكايات الاجداد القدامى .. حكايات الآلة البابلية والشياطين والسحرة والبغايا والحراس والمجانين والاشباح ، جميعهم ينهض في الليل ، الليل مختلف في كل اسراره التي تذوب في شعاع اضويته الفسفورية الخافتة التي تتدلى من اعمدة الازقة الضيقة .. مدينتي ( الحلة ) اعتق من الدهر ونوارس تبسط اجنحتها كل صباح على ذراع نهرها تشدوا نشوتها بصمت مويجاته السمراء .. طفولة تجمع الزهر من ذات الحديقة النسوية الملقاة على ضفتي الفرات الحلي والنسوة ترتمي على اعشاب الاحلام وترتوي من خمر نخيلها وتتصبر بظلال صفصفاها الصبور .. كانت هناك احلام تطوف حولي كأنها طيور باجنحة قزحية النور .. اصابها العتق مبكرا وبهت لونها .. طفولة تضرب بدروب عديدة كي تظفر في اشياء جمة .. كم من المرات احضن الطين الحري والرغبات المكبوتة والاوهام الملونة الممزوجة بالاحلام فاصنع صنما يشاكس طفولتي الغريبة .. قاربي الورقي يتراقص مع مويجات الشط المخبولة وجيوش النخيل تحتضن ضفتيه وقوفا تنثر اغانيها الملونة بالمباهج والالآم والخطايا والحناء .. عبثا تطارده ساقاي بين الشرائع فأقتادني للمنفى البعيييد .. طفولة ودمعا وضحكات واوزان لن تعرف بعد .. غرق زورق الورقي بكل احلامي مبكرا في شط الصباح فعجبت لذلك بعد ان هرولت سريعا كي لايسرقه نعش النهار ..بدأ ثوب الطفولة يعتق ويشيخ .. دموعي تطايرت بكل اتجاه بعد ان اتى الصبح وحمل في نعشه كل احلامي ، جلست لرثاء رحيلها مبكرا مبكرا .. وشخت وشاخت الاقدار .. تلك هي احلامي لا زالت محاصرة على حدود الأمس حاملة وطن وزاد من بعض ذاكرة وقصاصة ورق وقنينة خمر رطب معتق ..