بدا الأمر طبيعيا للغاية يذهب منصور البكري للمستشفى لعشرة أيام لعلاج عادي تماما كما أخبر أصدقائه ومحبيه وكان يرسم كل يوم كاريكاتيرا ويرسله على الفيس بوك لكن قبل أن تمضي هذه الأيام أخبرنا إنه سيقضي 39 يوما لمتابعة علاجه وإن وضعه الصحي على ما يرام وأستمر يرسم كل يوم لوحاته الفنية المدهشة التي كانت تثير إعجاب ممرضاته وأطبائه وبالتالي تزداد عنايتهم نه وبعد أن أنقضت تلك الأيام غادر المستشفى يوم الأحد بصحة وخير وكتبت له مستبشرا ومتمنيا أن يتابع رسومه أخيرا من خارج المستشفى وفي يوم السبت جرت مكالمة هاتفية بينه وبين الزميل عصام الياسري واتفقا على أن يجهز منصور لوحاته لمعرض جديد ومن ثم أخبر عصام بأنه سيذهب لشراء ما يحتاجه من شراب وطعام.
وتفاجأ الجميع بخبر وفاته فجر يوم الخميس 4 تشرين الثاني 2021.
كانت قد حصلت بادرة من منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين، تمت فيها تكريم الفنان البكري بمناسبة فوزه بالجائزة الاولى في المغرب وأصدرت كراسا جميلا كتب فيه مجموعة من الرسامين والنقاد وكتبت انا وقتئذ بعض ما جاء في المقالة التالية:
غالبا ما يعبر الفنان منصور البكري عن اهتمامه وحبه للسينما ولعل عمله في مجال السينوغرافيا، أي تصميم وتنفيذ الديكور في المسرح والسينما، مع مخرجين عراقيين مثل الفنان عوني كرومي والفنان سعدي يونس عزز من اهتمامه غير العادي بالسينما. ويحتاج هذا الاهتمام وتأثيره على اعماله التشكيلية لدراسة مستفيضة.
وشخصيا اعتقد ان الافلام التي تناولت حياة الرسامين فتحت عينيه على اعمال الفنان الهولندي فان كوخ فيلم شهوة الحياة – والفنان الفرنسي تولوز لوتريك- فيلم الطاحونة الحمراء – ودفعته أيضا لمشاهدة لوحات الهولندي ريمبرانت والفنان الفرنسي ديلاكروا اولا من الكتب او في المتاحف العالمية فهو يعترف انه تعلم من ديلاكروا تكامل الحركة في اللوحة واختيار المواضيع التاريخية وتعلم من ريمبرانت –كما تعلم فن السينما- سحر الضوء والظل.
كان منصور البكري يقرأ حول السينما ويتابع مشاهدة الافلام العربية والعالمية ويجمع في ارشيف خاص مجموعة كبير من الأفلام لا لكي يدرسها فقط وفق معارفه الفنية ويتعلم ،كفنان تشكيلي، من فنونها البصرية، بل ينظم برامج عروض لها هنا أو هناك كما يفعل بحماس في مشغله الخاص ببرلين.
رسم البكري اكثر من 55 صورة بورتريه اذكر منها على الاخص وليس على التعيين رسوم اورسون ويلز وجيمس دين وكيرك دوغلاس ومارلون براندو وصوفيا لورين وانطوني كوين وكلاوس كينسكي ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وعمر الشريف وسعاد حسني كما رسم بورتريهات لمسرحين عراقيين منهم يوسف العاني ومنذر حلمي والمان كبرتولت بريشت وهاينه ميللر.
ومع انه رسم لبعض هؤلاء الفنانين اكثر من لوحة لكننا حين نشاهد صورهم لا نجدها صورا نمطية بل صورا مستوحاة من غنى الشخصية المختلفة التي قدمها الفنان في هذا الفيلم أو ذاك، لأن البكري يقدم قراءة مختلفة في كل مرة لطبيعة الشخصية، التي يدرسها في افلامهم.
أغلب رسوم البكري العديدة الاخرى مستوحاة أيضا من اعمال شخصيات ادبية أو شعرية او مسرحية: ويضيف ” ما ارسمه هو تمثيل وإعجاب بالثيمة والأسلوب والرؤية. وربما نتجت مثل هذه الرؤيا عند الفنان من كونه أحترف التصوير الفوتوغرافي ورسم في فترة قصيرة بأسلوب الواقعية الفوتوغرافية، بعد أن كان قد بدأ بالأسلوب الكلاسيكي، ثم انتقل إلى ما يسميه التشخيص؟
اعتقد إن التشخيص هو مفتاح فهم لوحات البكري، لأنه يشكل اداة لفهم وقراءة لوحاته، فكما يستعين الفنان بنهج التشخيص نفسه و لا يتوقف عند وصف الشخصية أو يرسم علاماتها الفارقة فقط ، بل يركز على معرفة سلوكها وأفكارها، ليقول لنا من هو حقا هذا الشخص الذي يشخصنه .
يقول البكري بهذا الصدد :”لم ارسم الشاعر سعدي يوسف فجأة بل تعرفت عليه أولاً، وأجريت معه حوارات ، وقرأت أعماله الشعرية ثم، عندئذ، رسمته”.
بوسعنا نضيف أن البكري يرسم كما يصور الفنان الفوتوغرافي اناسا يحبهم فهو يقدم شخصيات عرفها بشكل مباشر او غير مباشر ليعبر عن إعجابه بها ومحبته لها ، اكثر يحاول أن ينقل عدوى محبته لها لمن يشاهد صورهم.
كانت علاقتي بمنصور تزداد يوما بعد يوم قوة وحميمة و ذات يوم وأنا ألاحظ شنطة سوداء يحملها دائما على كتفه الأيمن
سألنه: أراك تحمل هذه الشنطة دائما
أجاب : أنا مريض قلب وفي هذه الشنطة بطارية تنظم دقات قلبي وبالتالي لا استطيع أن أستغني عنها حتى اثناء النوم أو الغسيل في الحمام
كدت أعتذر عن سؤالي لكني سكتت!
وبعد رحيله تساءلت يا ترى ماذا قال الأطباء والممرضات وهم يودعونه بمودة وهو يغادر المستشفى متعافيا وماذا قالوا وهم يرونه يعود مريضا، يشارف على الموت ؟!
ونحن ماذا يمكن أن نقول؟
لعل أروع رثاء في تاريخ الصداقة هو رثاء جلجامش لصديقه أنكيدو وبكاؤه عليه
من اجل انكيدو خلي وصديقي ابكي وأنوح نواح الثكلى (…) قد تغلبنا جميعا على الصعاب وارتقينا الجبال )…) ومسكنا الثور السماوي وقتلناه
فأي سنة من النوم هذه التي غلبتك وتمكنت منك؟
ولكن أنكيدو لم يرفع عينه
فجس قلبه فلم ينبض
وعندك ذاك برقع صديقه كالعروس
وأخذ يزأر حوله كالأسد
وكاللبؤة التي اختطف منها أشبالها
وصار يروح ويجيء أمام الفراش وهو ينظر إليه
وينتف شعره ويرميه على الأرض
مزق ثيابه الجميلة ورماها كأنها أشياء نجسة (…) ولما إن لاح أول خيط من نور الفجر نهض جلجامش
ونادى صناع المدينة وصاح بهم:أيها الصفار والصائغ والجوهري
ونحات الأحجار الكريمة اصنعوا لي تمثالا لخلي
ثم نحت لصديقه تمثالا جاعلا صدره من اللازورد وجسمه من الذهب !
من يشاهد أغلب صور الراحل منصور البكري،لا يراه إلا وهو يبتسم،وكأنه يريد أن يتابع ابتسامته،بضحكة لكن القدر لم يسمح له أن يضحك:
وكما ينحت لمن يرحل الشاعر صادق الصائغ، نقول:
هل كان عليك
في طالع الأقدار،
أن تكون انت من يُقتل
واكون انا من يبكيك
يغنيك
ويندبك
ومن شدة الألم
يراك في لحظتك الاخيرة
تضحك
أمام واحد من أصدقائه مهمة رسم لوحة لمنصور ليس لنراه يبتسم،إنما ليضحك !