كنتُ في بغداد (8)
1 ـ مواعيد عرقوب
( تشرين الثاني ـ كانون الأول 2011 )
د. عدنان الظاهر
خارج نطاق مراجعات الدوائر الحكومية قابلت زملاء قدامى وأصدقاء ومعارف ربطتني بهم روابط وعلاقات متباينة فأحدهم كان زميل الدارسة في دار المعلمين العالية في فترة الحكم الملكي . لم يصعد كثيراً زمان البعث لكنه لم يصبه ما أصاب الكثيرين من زملائه من أساتذة الجامعات العراقية . كان خبيراً في لعبة التوازنات كما كان متحفظاً في علاقاته مع الآخرين وفي عموم مسلكه . لم يصعد في أفضل ظروفه إلى أكثر من معاون عميد أو رئيس قسم وكان راضياً بما قُسمَ له . كان دائب السؤال عني فيما سلفَ من سنين خصبة وعِجاف . عرف في سفرتي الأخيرة أني في بغداد فترك رقم تلفونه مع إحدى قريباتي وهي من زميلاته السابقات في جامعة بغداد عارضاً أنْ نلتقي . عرفت أنه اليوم يمارس مسؤولية حسّاسة في جهة عالية فقلت لقريبتي أمامنا فُرصة جيدة لعل هذا الزميل القديم يفيدني في أمر ما وفي مرحلة ما من المراحل المتبقية في طريق إسترداد حقوقي التقاعدية . زرناه في بيته وكان الإستقبالُ وديّاً حاراً إذْ إفترقنا لعقود وعقود . سألني عن موضوعي فشرحت له ما أراد . قال إذا وصلت معاملتك إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خابرني . حين بلغت معاملتي أبواب هذه الوزارة خابرته فلم يبدِ أي إستعداد لمتابعة الموضوع واكتفى بالقول : إنها ستمشي لوحدها ! شكرته ولم أتصلْ به فيما بعد .
2 ـ وفاء البنات
شتّان ما بين زميل سابق وأستاذ جامعي يمارس اليوم مسؤوليات غير قليلة الجسامة وفتاة تعمل مدرّسة في إحدى كليات جامعة بغداد . لم نلتقِ قبلاَ سوى على صفحات النت لأمور تتعلق بإختصاصها ومستقبل دراستها . عرفت أني سأزور العراق فأصرّت أنْ تراني . لم تتوقف الإتصالات التلفونية بيننا وأنا في بغداد تسألُ عني وعن سير المعاملات وتأمل في لقاء حتى صادف أنْ كنتُ منتصف يوم خميس في مكتب معاون عميد كلية العلوم للشؤون العلمية إذْ أخبرتني عَبرَ الموبايل أنها في الجادرية فقلتُ لها حَسَناً ، أنا كذلك في الجادرية وفي المكان الفلاني . بعد فترة قصيرة فاجأتني لحظةَ مغادرتي مكتب معاون العميد فعرفتني قبل أنْ أعرفها . تصافحنا وتبادلنا السلام ثم قادتني إلى كافيتيريا وقدّمت لي الهامبركر مع الشاي ثم القهوة المُرّة وما كنتُ لأصدّق ما كان يحدث أمامي . شابّة يافعة طويلة القامة كل ما فيها جذّاب وجميل لم تلتقِ بي سابقاً تكّرمني كل ذاك التكريم وتحتفي بي وتعاملني كأب حقيقي . أزفَ وقت المغادرة فعرضت عليها أنْ تصطحبني في سيارة التاكسي لإيصالها حتى باب بيت ذويها فقبلتْ الفكرة . ما كان أعظمها في نظري وما كان أرفعها قَدْراً والوفاء والشرف يرسمان ملامح شخصيتها وتقاسيم وجهها السمح الكريم . ما تفسير الفرق بين سلوك الناس وما أسباب هذا الفرق ؟ طبيعة الإنسان الأولى والطينة التي جُبلَ منها أم تعقيدات الظروف السياسية وتقلبات الزمان ثم حركة المصالح وإتجاهات الريح ؟ لم يُقدّم الأستاذ الذي زرته في بيته إلاّ ربع قدح من مشروب الميراندا ( نعم ، رُبْع كلاص ! ) أعقبه ستكان شاي واحد فقط لم يعرض غيره ! صرت ساعتها أردد قول المتنبي :
صَحِبَ الناسُ قبلنا ذا الزمانا
وعناهمْ من أمرهِ ما عنانا
لا ينسى رجلٌ مثلي من أمثالك يا فتاة وسيّدة نفسها وتصرفاتها فهل هي التربية الشخصية أم التربية العائلية أو كلتاهما معاً ؟
3 ـ وفاء الكُتّاب ورجال الفكر والثقافة
زارني في بيتي ولمرتين الإنسان والمفكّر والكاتب الرائع الأستاذ وجيه عبّاس الموسوي ، أبو علي . كان اللقاءان مثل خطفة خيال ! أهذا هو وجيه عبّاس نفسه الذي واكبتُ مطالعَ كتاباته الأولى وما كان الرجل يومذاك معروفاً إلاّ للقلّة القليلة من الناس ؟ كتبتُ له يومذاك معرباً عن إعجابي بكتاباته وشجعته على المضيّ قُدُما في نهجه وأسلوبه في الكتابة . ردَّ على رسالتي فوراً شاكراً وكان رده في غاية الأدب والتواضع مع ثقة عالية بالنفس والمستقبل . إتفقنا على أنْ نلتقي في شارع معين أمام مخزن معين في حي أور وكان اللقاء الأول إذْ شخّصته على الفور فوجهه هو هو كما هو معروف في الكثير من وسائل الإعلام لا تُخطئه عينُ الرائي أبداً . كان اللقاء الأول في بيت أقاربي قصيراً مختصراً شرب فيه فنجان قهوة لا أكثر لكنه قدّم لي كتابيه الضخمين الأول بعنوان ( عولمة بالدهن الحُر / 1040 صفحة ) الذي نشره تباعاً على شكل حلقات قرأت أغلبها أو جميعها في العديد من المواقع . كتابه الثاني بعنوان ( هكذا تكلّمَ بابُ فاطمة / 575 صفحة ) جديدٌ عليَّ جلُّ ما فيه. تصفحته في بعض الأماسي في البيت وقرأتُ منه ما تيسّر وما سنحت لي به ظروف البيت والصحة . يعرض الأستاذ وجيه في هذا الكتاب نظريات أو فرضيات أو وجهات نظر جديدة جريئة في مسائل قديمة خاض فيها كثيرون قبله فيما يخص خلافات مستعصية وجدت لها المناخات الملائمة بعد وفاة نبي الإسلام محمد بن عبد الله . الجديد هو تفسيرات أبو علي الأكثر من جريئة وقد قلت له في اللقاء الثاني إنها تفسيرات ووجهات نظر قابلة للنقاش والجدل . في لقائنا الثاني جاءنا تحت قيادته سيارة فورد جميلة رباعية الدفع . في هذا اللقاء كان أبو علي أكثر إنفتاحاً فتناقشنا في أمور شتّى والحديث معه مُغرٍ لا يُملُّ . عرض لي مشروعاً ثورياً غير مسبوق يتناول فيه قضيه إكتشافه لوزن أو بحر أو تفعيلة جديدة تنتظم آي السور القرآنية قال إنه بصدد نشر تفاصيل هذا الكشف وإني شخصياً أنتظر ما سينشر الأستاذ وجيه بفارغ الصبر لأني مهتمٌّ بمسألة موازين الشعر وإيقاعاته الوزنية وغير الوزنية . وجدتُ أبا علي بحراً ووجدته موسوعة ثقافية متعددة الجوانب ثم وجدته شاباً خجولاً كثير التواضع لا يمتُّ بأيّما صلة لموضوعات ما ينشر على الملأ من صرخات وفضائح وشتائم محسوبة وتعبيرات [ سوقية فيها سباب وفشار فاضح ] . إذا ساعدتني الظروف اللعينة المتقلبة فلسوف أكتب عن بعض ما ورد من مقالات في كتابه الثاني ( هكذا تكلم باب فاطمة ) . وجيه عباس عالم متفرّد وإنسكلوبيديا يفتخر العراق بها وبأمثالها .
لم ألتقِ الأستاذ وجيه قبلاً فما تفسير ميله للقاء بي في بغداد ؟ كان دائم السؤال عني عن طريق إبنتي قرطبة والسلام عليَّ ثم فاجأني ذات مساء الأستاذ وفاق الجصّاني بأنْ بلّغني سلامَ وجيه عبّاس . نعم ، الحديث عن وجيه عباس حديث ذو نغمة ومذاق خاصين لذا عاهدتُ نفسي أنْ أكرّسَ القدر غير اليسير من جهدي للكتابة عن بعض مقالات وأطروحات كتابه الثاني ( هكذا تلكم بابُ فاطمة ) .
4 ـ كرمُ كرامِ النفوس ووفاءُ كريماتهم
ذكرت في بعض الحلقات السابقة أنَّ مَرَضي المُفاجئ حالَ دون تلبيتي لدعوة على الغداء تفضّلت بها عليَّ إحدى العوائل الحلاوية العريقة . قبلت الدعوة إبتداءً وكنتُ مسروراً أني سأتشرف بالتعرف عن كثب على ربِّ هذه العائلة وأبنائه وبناته وإني سأفتخر وسأفاخر ما حييتُ أني كنتُ ضيف هذه الأسرة الكريمة . تبادلنا الأحاديث التلفونية واتفقنا أنْ أزورهم يوم جمعة فالجمعة عطلة لا دوامَ رسمياً فيها . ثم رتبّت برنامج السفرة للحلة أنْ أصلها بعد ظهر الخميس كما نسّقت مع بعض أقاربي هناك أمر مبيتي وأنْ ألتقي مضيفيَّ نهار الجمعة على أنْ أغادر الحلة صباح السبت . لكن … تجري الرياحُ … سقطتُ فجأةً مريضاً في أشدِّ حالات المرض ألماً ومعاناةٍ فاتصلت بهذه العائلة معتذراً أني لا أستطيعُ تنفيد مشروع زيارتهم في الحلة فتأسفوا وتفهّموا ظرفي وحراجة حالي . ألمْ أقلْ إنَّ الناسَ مختلفون باختلاف طبائعهم وتربة نشأتهم والمحيط العائلي الذي تربوا فيه ؟ لماذا حرصت هذه العائلة الأكرم من كل كرم أنْ تستضيفني وأنْ أجرّب طعامهم وأن يروا إنساناً مثلهم حلاوي الأصل ترك الحلة في آب عام 1962 ؟ إنه الدم النبيل يجري في عروقهم الأصيلة حاملاً أقوى وأنقى الجينات فلهم مني التقدير والتبجيل والشكر الجزيل .
كنتُ في بغداد (9)
بغداد اليقظى ـ النائمة
( تشرين الثاني ـ كانون الأول 2011 )
د. عدنان الظاهر
ليتني وجدتها يقظى / نائمة ، ليتني ثم ليتني ! وجدتها كائناً يحاول النهوض نافضاً تراب القبر عن أكفانه . رأيتها امرأةً مُعفّرة من رميم منفوشة الشعر نصفها يتنفس ورأيتُ النصف الآخر ميّتاً مكتوم الأنفاس . رأيتها نُصباً تذكاريّاً ما أنْ يقومَ حتى يتهاوى فيسقط على أمِّ رأسه . جثة تحاول العودة للحياة تتنفس من خلال فتحات مُشبّك حديد قاسٍ بارد لا روحَ فيهِ. رأيتُ الحياة والموتَ يتزامنان ويتعايشان في صراع ظاهر ـ خفيٍّ شرسِ يُحسّه الرائي لكنه لا يدرك كنهه ولا يقف على حقيقة أبعاده . هل ستنتصرُ الحياةُ فيها على عناصر الفناء ومتى ؟ هذا هو السؤال الحيوي الشاخص أمام العيون .
الحركة في بغداد قائمة على ساق وقدم . شوارعها مزدحمة بالبشر والسيارات وباعة الفاكهة والخُضرة والحلوى واللبلبي والتكة والسمك المشوي ثم بالشرطة والجنود والسيطرات ومطبات الشوارع وعثراتها . وفي شوارع وسوح بغداد تسرح الخرافُ وتمرح في مجموعات صغيرة وأعلافها وماؤها معها معروضة للبيع بل وللذبح والسلخ على قارعة الطريق . على أرصفة بعض شوارع بغداد يُشوى السمك حول الحطب شيّاً دائرياً جماعياً كما كان الشأن سابقاً على رمال دجلة في منطقة أبي نؤاس . كل شيء يوحي بالحياة ويبشّرُ بها ويدعو لها ولكنْ … هل الحياة شرطةٌ وعسكرٌ وكاسرات السرعة في عرض الشوارع وسيارات كيّا وهايونداي وحلوى وذباب ولبلبي وسمك مسكوف ؟ كلاّ ! أرى فيها جميعاً الوجه الآخر للحياة : الموت ! الموت لدى السيطرات وفي زحام الشوارع وفيما تحمل حلوى ولحوم الشوارع من أتربة ومايكروبات وأوساخ وعلل وأوجاع . الموت في الحياة والحياة في الموت . هذه هي المعادلة التي تتحكم في كينونة أهل بغداد خاصةً وفي العراقيين على وجه العموم . قبلوا إحتمالات الموت من أجل الشعور بأنهم ما زالوا على قيد الحياة بعد كل الذي جرى من إستبداد سياسي وتحكّم بالأرزاق والمستقبل وحروب وغزو وحصار . بغداد تحاول النهوض من رمادها وركامها وأوجاعها وعلاّتها لتشغل نفسها عمّا هي اليوم فيه من كوارث ومآسِ وأخطار . بغداد تعاني اليومَ واحداً من أقسى أنواع الإنفصام الشيزو فريني فهي المتقدمة ـ المرتدّة وهي الناهضة ـ الساقطة وهي المنتعشة ـ المتآكلة الفانية . خليط مزدوج لا ينفصم إلى أين سيُفضي ومتى تتوحدُ بغداد وتتحدُ ؟ ترى هذا الإنفصام في كل ظاهرة وكل ملموس ومحسوس . ففي عالم السياسة هناك شيزوفرينيا المحاصصات الدينية ـ الطائفية والقومية والمذهبية والعرقية . وفي الجغرافيا هناك مناطق مقفلة للشيعة وأخرى للسُنّة وهناك مناطق مختلطة يُشار إليها بتحفظٍ وعلى استحياء ! وفي بغداد مناطق شعبية فقيرة مترامية الأطراف وفي وسطها منطقة تُسمّى خضراء هي مركز السلطة والسلطان والثروة والنعيم والرخاء والسلاح ثم السفارة الأمريكية المحصّنة الحصينة . هنا السلطة التشريعية والتنفيذية ( الحكومة ) وهنا رئاسة الجمهورية ونائباها وتوابعها ومستشاروها ومستشارو مستشاريها ولكلٍ أفواجُ حمايتهِ المدججة بالسلاح . عالم عجيب غريب يتشكل كدائرةٍ الجنّةُ في مركزها والجحيم على المحيط في أطرافها . كانت ولم تزل بغدادُ بغداد ألف ليلةٍ وألف ألف ليلة . لياليها طويلة في الشتاء ونهاراتها قصيرة . الظلامُ فيها سريعٌ وبزوغ نور فجرها بطئ . زحامٌ زحامٌ وإختناقات في الساحات والشوارع والتقاطعات وبغداد تظلٌّ مصبوغة بالأصفر يختلط في شوارعها النظام بالفوضى ، المغامرة بالحياة وإحتمالات الموت بعبوّة لاصقة ناسفة أو بحزانم مُفخخ أو بسيارة ملغومة . لا يمنع الموتُ الحياةَ في بغدادَ وباقي أنحاء العراق . في الموت قوة دفعٍ خارقة لمواصلة الحياة وفي الحياة ـ كظاهرة طبيعية بايولوجية ـ قوّة ” شفط ” مركّبة هائلة تخترق الممكن والمستحيل تدافع عن نفسها وعمّن أنتجت وأنجبت وتقاتلُ ضد قوانين الفناء . صراع بين نور ظاهر وظلام خفيٍّ عنيد قوي . بغداد تشكيلة الضدين الرئيسين وباقي الفروع . رأيتُ على واجهة أحد فروع الحزب الشيوعي العراقي في بغداد بوستراً يقول : يُعزّي الحزب الشيوعي العراقي العراقيين والمسلمين بمناسبة إستشهاد أبي الشهداء الحُسين . هذا وجه آخر لبغداد المتناقضات، وجه عصري فاعلٌ ودينامي إستحسنته وفرحتُ به . في بغداد الإسلام السياسي رأيتُ تمثالاً لرأس سلام عادل الزعيم الشيوعي الذي قتله بعثيو إنقلاب شباط 1963 وقطّعوه إِرباً إربا … رأيته في إحدى زوايا ساحة الأندلس أمام مقر الحزب . بغداد تنهض ولكنَّ بغداد ما أنْ تنهض حتى تكبو وتسقط على الجبين . ففي المحاصصة تخلّفٌ وسقوط . وفي الشيزوفرينيا السياسية عناصر وبذرات التكسّر والتشرذم فالسقوط في الهاوية وما أدراك ما الهاوية . بغداد غولٌ خرافي لكنه مَهيضُ الجناحين مكسور الإرادة مشلول العزم والعزيمة رأسه في الكرخ وباقيه مُبعّثرٌ في أنحاء الرُصافة .
بغداد عروسٌ تبكي، بياضُ بدلة عُرسها في سوادِ كُحلِ عينيها . متى تتم مراسم هذا العُرس وأين اختفى العريس ؟ دجلة ضاقت بعد أنْ اتسّعت وغاضت بعد أنْ فاضت فيا ويل الأمّهات مما جرى لها ولهنَّ وما سيجري . يا حكومةُ ويا حكّامُ ويا مستوطنو الجنّة الخضراء أزيلوا الغُبار عن وجه بغداد أو اتركوها لغيركم فالغيرة على بغداد ليست فيكم وأنتم لستم منها ما كنتم وسوف لن تكونوا . بغداد تشكوكم وستظلُّ تشكو والويلُ لكم ممن يشكوكم إليكم والتأريخ قاضٍ عادلٌ قاسٍ لا يجامل ولا يرحم وأنتم زائلون عاجلاً أو آجلاً وكلُّ مَنْ عليها فانٍ كما تعلمون . أنتم الموتُ وفي بغدادَ جينات البقاء فالخلود .
الويلُ لكم من أمٍّ ثاكلٍ ومن سيّدة ترمّلت ومن طفلٍ تيتّمَ فتشرّدَ في الشوارع يبيع ما يُباعُ وما لا يُباعُ ! الويلُ لكم أينما ولّيتم فأنتم المُلاحقون المطاردون وأنتم المُتّهَمون في الدنيا وفي الآخرة .
بغداد آهٍ بغداد ! أأبيكِ أمْ أبكي نفسي ؟ أأبكي الموتَ في بقائكِ أم أبكي بقاءكِ في موتكِ بغداد ؟ إختفت من الأسواق أسماكُ دجلةَ الخير وغير الخير وغزتها أسماك البحيرات الإصطناعية والمستوردة فأين شبّوطُ الفراتِ وأين [ بِزُّ ] دجلة المعروف ؟ أين [ مكتوم ] الفرات الأوسط وأين برحي البصرة ؟
غلبكِ بغدادُ اللونُ الأصفرُ لونُ صفار البيض ( كائنٌ حيٌّ مخنوق سجين ) وطابع الشحوب وعلامة الإعتلال والمرض فمتى كنتِ كذلك وإلامَ ستظلين رهينة هذا اللون ؟ السيارت في شوارعك تجري كأنها في سباق محموم مع الموت فأيّهما سينتصر وأيهما في نهاية الأمر سيفوز ؟ حياتكِ في موتك وموتك في حياتك ، هذه هي جدلية الكون .
هناك في بغداد اليوم جسورٌ وطرقٌ بممر واحد للحركة . أليس في هذا خرقٌ للقانون العام للحياة ؟ للحياة ممران وللحياة بوّابتان تفضي إحداهما لعالم الموت والأخرى لملكوت الحياة.
الغُربةُ في بغداد /
كل شيء غريبٌ لي وعنّي في بغداد . المدينة غريبة وأنا غريبٌ في أمكنة غريبة . غريبٌ في غربتي وغريبٌ عمّا أشعرُ به من غُرية . غُربة في غربة في غربة . الشعور بالغربة كبيرٌ متسّعٌ متشعّب . الشوارع غريبة وسائقو سيارات التاكسي والسيارات نفسها غرباء عنّي لا أفهمهم ولا يفهموني . دوائر الحكومة ظلامٌ غريبٌ وغُربة حالكة السواد . الموظفون أرقام غريبة غامضة شفراتها عسيرة على الفك والإستيعاب . الأقاربُ أغارب والأقاربُ [ عقاربٌ لاسعات حشايْ / أغنية للكبنجي ] . مذا تبّقى لي ولأمثالي في بغداد وما ينتظر الغريبُ من الغريبة ؟ إليكِ يا بغدادُ عنّي / فلستُ منكِ ولستِ منّي [ لشاعر أجهل إسمه ] .
بغدادُ يا بلدَ الرشيدِ
ومنارةَ المجدِ التليدِ
؟؟!!
لم أرَ الرشيدَ في بغداد ولا منارةً ولا مجداً تليداً أو غير تليد ! رأيتُ بؤساً وعانيتُ من ذُلٍّ وهوان أثناءَ متابعاتي لمعاملاتي في دوائر الدولة العراقية . لا يهمّني ما قال زيدٌ أو عمرٌ في مديح الوضع السياسي القائم اليوم في بغداد ( العملية السياسية ) ولا البخور المدفوع الثمن الذي أحرقه البعض في تزكية ومديح المالكي وغير المالكي إنما أضع أمام العراقيين في الخارج والداخل تجربتي العملية ومعايشتي اليومية لما رأيتُ وما لاقيتُ وما لحقني من أذىً وعَنَت وسوء معاملة . لا هيبةَ لدولة لا تحترمُ مواطنيها ولا مكانَ لها بين الدول والأمم. لا هيبةَ لحكومة تأتمنُ الجهلةَ وأنصاف الأميين والمرتشين والفاسدين بفرضهم موظفين في هذه الدائرة أو تلك حسب منطق وآليات المحاصصة الطائفية والقومية والعشائرية والإثنية . كنتُ غريباً وعنصراً طارئاً في بغداد وفي عموم العراق وطن آبائي وأجداد أجدادي . ماذا تعني كلمة غريب وما هي مستحقاتها وعواقبها وخواتمها ؟ كارثة ! أجلْ إنها كارثة الكوارث .
أستودعُ اللهَ في بغدادَ لي قَمَراً
بالكرخِ من فَلَكِ الأزرارِ مطلعُهُ
ودّعتهُ وبودي لو يودّعني
صفوَ الحياةِ وإني لا أودّعهُ
( لإبن زُريق البغدادي ) .
كمْ قمراً حيّاً وميّتاً ودّعتُ في بغدادَ والحلةَ والنجف ؟ أجيبي يا نجاة أجيبي يا فريدة أجيبي يا فائدة أجيبي يا إبتهاج أجيبي يا نورة أجيبي يا بغداد !
كنتُ في بغداد (10)
أريحيات أهل بغداد
كانون الثاني 2012
د. عدنان الظاهر
إستأجرتُ أول سيارة تاكسي صباح اليوم الثاني لوصولي بغداد. إتفقتُ والسائق الشاب على مبلغ أجرته. تحركت السيارة تتعثر بين حفر الشوارع ومصدات السرعة ثم السيطرات. رأيت بعض الجند حاملاً جهازاً أسودَ بحجم مسدس أطفال من البلاستك له أنف أو خرطوم بطول 6ـ7 سنتيمترات. فهمتُ أنه السونار كشّاف الألغام والمتفجرات والعبوات ثم … الغيوب! لا مشكلة لدى السيطرات والجند فيها مؤدّبون حرفيون يجيبون السائل برحابة صدر. كنت كالغائب عن وعيه لا أعرف أين أنا أجهل ما حولي وفي أي إتجاه تسير السيارة. لازمت الصمت حسب توصية أقاربي فلا سؤال ولا تعليق ولا لسان يتحرك ( صاموط لاموط … ). فجأة توقف سير السيارات في الشارع ، أي شارع ؟ لا أدري. علّق السائق بالقول إنها الفلكة تأتي بعدها مباشرةً نقطة سيطرة. تكررت هذه الظاهرة مراراً والوقت يجري سريعاً ولديَّ موعد مع قريب ينتظرني أمام بيته في ساعة حددناها وأنا أجهل أوضاع السير والمرور في شوارع بغداد. أكثرتُ وأطلت النظر في ساعة يدي خوف أنْ لا أصل المكان في الوقت المحدد والوعد المضروب. لم يتوقف المُسجّل من قراءة المقتل وبعض الآيات القرآنية ودعاء لا أعرف عنوانه. جلست في المقعد الأمامي كالجرذ الخائف من أفعى تتربصُ به الدوائر. بل الجرذ أفضل حالاً مني لأنه يستطيع تحريك أذنيه أو بوزه أما المسكين أنا عدنان فأذنايَ ليستا معي أما البوز فجامد ساكن ميّت. وصلت بالطبع متأخراً كثيراً لكنَّي وجدتُ صاحبي مُسمّراً على الرصيف المترب ما زال في إنتظاري. مددتُ يدي في جيبي لأعطي سائق التاكسي حقه فبادرني بالقول : لا واللهِ ما يصير … خليها على حسابي. أعرف أنه كاذب لكنها حميّة المجاملة الكاذبة. لا واللهِ ما يصير … خليها على حسابي تكررت وكنتُ أسمعها عدة مراتٍ في اليوم الواحد في التاكسيات وفي المقهى وفي المطعم وفي بعض المحلات. أضحكني رجلٌ ذات يوم يسمونه ” المُعتَمد ” أي الرجل الذي يحمل البريد من دائرة لأخرى. أعطيته بعض النقود ليعجّل في نقل معاملتي من دائرة لأخرى. وجد عطيتي كبيرة فمسكني من رسغ يدي بقوة ثم قال : هيّا نأكل كباب! كان مطعم الكباب قريباً منا. ضحكتُ وضحكتُ . يدعوني على كباب من نقودي. على أية حال إنها أريحية وكانت دعوة هذا المُعتمَد دعوةً صادقة خرجت من لبِّ قلبه. هل كنتُ سأدعه يدفع حساب الكباب فيما لو جاملته وقبلت دعوته؟ مستحيل. أحببتُ سائقي التاكسيات أحببت فيهم البساطة والوضوح ثم الصراحة في التعبير عن شكاواهم مما يعانون. كانت نسبة كبيرة منهم من خريجي الجامعات العراقية ولا أملَ لهم في وظيفة لأنهم بلا سَنَد من أحدٍ ذي نفوذ والغالبية الكبيرة منهم متزوجون مع عدد من الأطفال. كنتُ أتضامن معهم قلبياً فهم بمثابة طلبتي في الجامعات وهم عائلون ومسؤولون عن أزواج وأطفال.
كبدة وطنية أم كبدة مستوردة ؟
أنهكتني ذات يوم مراجعات الدوائر الحكومية فقررتُ أنْ أرتاحَ وأنْ أتناول شيئاً من الطعام البغدادي. تمشيتُ قليلاً وحقيبتي الجلدية في يدي أتداولها يمنةً ويَسرةً فقد غدت عبئاً ثقيلاً عليَّ لكنْ لا بُدَّ منها ففيها كافة الوثائق والمستندات والصور والكتب الرسمية القديمة التي تعود لحقبة سبعينيات القرن الماضي. رأيت مطعماً تغطي واجهته الزجاجية الأمامية صورٌ لما يقدّم من أطباق الطعام. كانت الكبدة المشوية [ معلاك ] من بين المعروض من أكلات. إستقبلني رجلٌ ملتحٍ مُتّشحٍ بالسواد من يافوخه حتى أخمص قدميه. سألته هل تقدمون كبدة مشوية قال أجلْ. سألته أهي كبدة غنم أم بقر ؟ قال كما تحب : لدينا كبدة عجل عراقية ولدينا كبدة خراف مستوردة لكنها غالية. جاءتني الكبدة فأكلتها ولا أدري أهي كبدة بقر أم غنم؟ شربتُ الشاي واتجهتُ نحو الرجل المتشح بالسواد لأعطيه ثمن ما أكلتُ. رفع صوته : لا واللهِ ما يصير… خليها على حسابنا. شكرته بحرارة وصدق على دعوة منه كاذبة. خليها على حسابي! لا يشذُّ عن هذه القاعدة أو التقليد إلا باعة الخُضرة والفاكهة والقصابون من بين آخرين سواهم. لم أسمع من بائع فاكهة ( فكهاني بالمصرية ) جملة خليها على حسابي ولا من جزّار. خرجتُ مرةً من ديوان وزارة الصناعة والمعادن وقد هدّني التعبُ والجوع. سألت أحد العسكر من جماعة السيطرة وتفتيش المراجعين ألا من مطعم قريب فأنا جوعان؟ تبسّم الرجل الشهمُ وقال تفضّل معي وشاركني غدائي. شعرتُ حينئذٍ بنوع من الفخر والسمو الإنساني أنْ لم يزل في دنيانا رجالٌ خيّرون. وددتُ لو أعطي هذا العسكري البسيط والرشاشة على كتفه كل ما معي من نقود. تأسرني إنسانية الإنسان بل وتجعلني عبداً لمن يُحسنُ إليَّ. كانت تلك دعوة حقيقية أعرفها لدى رجال قبائل الفرات الأوسط وفقراء المزارعين والفلاحين. لا والله ما يصير … خليها على حسابي . لا تفارقني هذه الجملة وسوف لن تفارقني أجد فيها نكهة خاصة وأثراً خاصاً وبقايا تأريخ أفتقده بين حين وآخر ذاك لأنني أُضطررتُ على مغادرة بلدي وأهلي وبيتي ونبيل العادات وراسخ التقاليد.
درجَ بعض سوّاق التاكسيات على إعطائي أرقام تلفوناتهم لأناديهم في حال الحاجة لسيارة تاكسي فتراكمت عندي وريقات كثيرة لم أفدْ من أيٍّ منها لأسباب أمنية حسب إشارة الأقارب. أضحكني مرةُ سائق تاكسي شاب وسيم أنيق حملني من بوابة مجمع الجادرية حيث رئاسة جامعة بغداد وعدد من الكليات ثم وزارة العلوم والتكنولوجيا. حدس أن لي صلة أو علاقة ببعض هذه المؤسسات فسألني هل أنا مغترب وجئتُ أطالب بحقوق ضاعت مني أو ضُيّعت عليَّ ؟ راوغتُ وناورت ولم أقلْ الحقيقة. لم ييأس هذا الشاب فعاد يسأل ويطيل ويقترب شيئاً فشيئاً من واقع وضعي وكان حاد الذكاء. أذعنت أخيراً واعترفت له أنْ نعمْ، أنا متغرّب ولي حقوق. فاجأني بقوله إنه مستعد لمساعدتي في أي أمر أشاء. سألته بتحفظ ومن تكون حضرتك حتى تعرض مساعدتك عليَّ؟ جاءت المفاجأة عالية الصوت. قال إنه عسكري يخدم في حمايات كبار المسؤولين في الدولة العراقية وإنه بهذا قادر على الوصول لأيِّ مسؤول في الحكومة. هل أصدّق ما قال أم أشكره وألوذ بالصمت؟ زاد فقدّم لي إسمه ورقم تلفونه المحمول. جندي حماية يعرض خدماته على رجل مثلي لم يسبق وأنْ تعارفا ثم هل كان عرضه لوجه الله أم مقابل هبة أو أعطية أو رشوة ؟ لم أسأله لأني أساساً ما كنت معنيّا بما قال ولا مُصدّقاً لما قال. أي زمان هذا يا بغداد هرون الرشيد ومنارة المجد التليد؟ لا واللهِ ما يصير… خليها على حسابي ! قالها ، أجل قالها هذا السائق العسكري الوسيم وقد بلغ بي باب بيت أقاربي لحظة أعطيته الأجر المتفق عليه. تتوقع هذه الفئة من الناس الطيبين أنَّ مَنْ تعرض عليه هذا العرض المجاني السخي سيزيد من مقدار الأجر المتفق عليه بل ويبالغ في الدفع وهذا ما يقع في حالات غير قليلة معي ومع غيري.
نقلني من باب الصُدفة المطلقة صاحب تاكسي مرتين قال إنه من طويريج [ قضاء الهندية ] آنسني بحلو أحاديثه وكان متحدثاً بارعاً ذا ثقافة واضحة ظل طوال الطريق الطويل يتحدث طارقاً شتى أشكال المواضيع كانت السياسة على رأسها وكان شديد التذمر من واقع الحال في العراق. بقيت حذراً سواء في ردودي أو تعليقاتي وأسئلتي. تنبّهتُ أنه ينبش ليعرف هدفاً معيناً فحواه مّنْ أنا ولماذا أنا في تلك المنطقة ؟ قال إنه لم يَرَني قبلاً والحيُّ حيّه. زاد من فضوله السرطاني رؤيته لحقيبتي اليدوية المنتفخة بالأوراق وربما أناقتي وما أرتدي من ملابس غريبة عليه وعلى بغداد. آنستني أحاديثه في البداية لكنها غدت مُملّة ثقيلة سمجة فيها الكثير من الفضول ومع تزايد وتائر فضوله كنتُ أزدادُ تحفظاً منه وانكماشاً بناءً على ما نصحني به الأقارب بالحذر فبعض سائقي التاكسيات أرهابيون وقتلة وسماسرة للإرهابيين وزمر الخطف إبتغاء الفدية وإلاّ القتل والتمثيل بجثة الضحية وتقطيعها إرباً إربا. حتى هذا الرجل الثرثارعالي الثقافة قالها بحرارة : لا واللهِ ما يصير … خليها عليَّ . معروف أنَّ في الدولة مخبرون رسميون مدرّبون فهل في أوساط سائقي التاكسيات عناصر منهم ؟ لِمَ لا يا رجل، الحكم هو الحكمُ والحكومات هي الحكومات منذ القِدم وقد كانت للسفاح الحجّاج بن يوسف الثقفي شرطة علنية وأخرى سريّة. مضى الحجّاجُ لكنَّ السريّة والأجهزة السريّة والعادات السرية والمنظومات السرية والدول المبنية على عناصر الأمن والشرطة السرية ظلت بعده باقية كأنها تُخلّد ذِكره الخبيث وتقيمُ النُصب العالية لتمجيد وتقديس سريّة الدول فبقاؤها في سريّتها وسريّتها حبلها السرّي الذي يضمن لها البقاء والديمومة . كان هذا شأن ثلاثة أنظمة عربية للحكم وثلاثة رؤساء عرب هم صدام حسين وزين العابدين بن علي ثم حسني مبارك . ما كان صدّام حُسيناً ولا كان التونسيُّ عابداً ولا زينةً للعابدين وأخيراً هل كان الرئيس المصري السابق مُباركاً وهل كان حَسِن السيرة والوطنية والسلوك ؟ ستقرر المحاكم المصرية مصيره قريباً وربما ستنكشف بعد ذلك سرقاته وفضائحه المالية للملأ .