قراءة في كتاب الخيار الآخر
أ.د. سناء عبد القادر مصطفى
اسم الكتاب: الخيار الآخر.
المؤلف: مازن الحسوني
الناشر: مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع العراق – محافظة بابل – الحلة – شارع أربعين جوال: 009647831010190
ISBN:978-9922-736-31-0.
الطبعة الأولى 2024
البريد الالكتروني: info@ebjed.com
عدد الصفحات: 454 صفحة
يتميز كتاب الخيار الآخر لمؤلفه مازن الحسوني بأنه كتاب عن موضوع مهم في الوقت الحاضر ألا وهو موضوع السير العائلية، إذ قلما تجد كتاب من هذا النوع يتحدث بصدق عن سيرة لعائلة مرت بظروف صعبة منذ بداية تأسيسها وارتباط الزوجين برباط عائلي قائم على الحب والتفاهم والثقة المتبادلة التي تشكل الحجر الأساس لبناء أسرة سعيدة وقوية تقف بوجه عاديات الزمن التي لا يمكن التنبؤ بها منذ نعومة أظافر هذا الحب إذا سمح لنا باستخدام هذا التعبير. فنظرة الاعجاب الأولى لا تكفي لإثبات صدق هذا الحب وحتى المواعيد الغرامية لا يمكنها أن تبرهن على صدق العاطفة ولكن الوقوف بوجه الظروف الصعبة التي تواجه المحبين والثبات على صدق العلاقة وتطورها بشكل إيجابي هو الدليل القوي على نضج المحبين. وهذا الذي نجده في سيرة حياة باسم وليلى وما لاقوه وتعرضا له من مصاعب أثبتوا أن الحب الأول لابد أن ينجح ويتكلل ببناء عش الزوجية، وعلى الرغم من أنه توجد إحصائية قديمة في ستينيات القرن الماضي ملخصها أن الحب الأول يفشل بنسبة 60% ولا ينجح في مواجهة المصاعب التي يمر بها المحبين حتى وإن كانوا مخطوبين لبعض وباتفاق عائلتي الطرفين، وبالنتيجة فسخ الخطوبة وكل منهما يذهب في طريقه. كما يتميز الكتاب بأسلوب سلس ولا يوجد فيه اطناب وهذا ما اضفى عليه مسحة جميلة وحيوية التنقل من فكرة الى اخرى. باسم هو أحد أبطال هذه السيرة عمل في مفرزة الطريق من ضمن تشكيلات حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في كوردستان العراق: وكانوا ” مسؤولين عن تمرير شحنات الأسلحة والملتحقين عبر الحدود وبطرق خاصة يعاونهم عليها بعض الأكراد من كوردستان تركيا، بوصفهم أدلاء مؤتمنين . ص 41″.
كان باسم يسكن في بيت مع رفاق آخرين يؤدون نفس المهمة وهم يسكنون في مدينة صغيرة بعيدة عن العاصمة دمشق وكثيرا ما تتبدل الوجوه ولكن بطل الرواية مع قليل من الرفاق لا يتبدلون في هذه السرية الأنصارية. وعلى الرغم من ظروف العمل السرية وقع باسم في حب بنت الجيران. وتمكن من الزواج منها، زواج رسمي في المحكمة في العاصمة دمشق ولكن بوثائق لا يوجد فيها دليل على شخصيته الحقيقية. جواز سفر يمني جنوبي و بإسم بهجت جواد حسين (ص65). وكذلك “وكيل العروس الذي هو صديق باسم وهو رجل مسيحي بإسم محمد ويحمل كذلك وثيقة يمنية وزوج اختها الأكبر منها” ص 65.
بعد الاحتفال الصغير بزواج باسم وليلى في بيت محمد المسيحي الذي كان غنيا ودسما بكرم ونبل الزوجين اللذين وجد فرحتهما تفوق فرحتهم كما يصفه باسم في صفحة 66 من الكتاب. أجمل عبارات وجمل وجدتها في الصفحة 67 تعكس درجة وعي باسم وحبه الحقيقي لزوجته ليلى التي تحملت معظم وخطورة أوزار هذه الخطوة الجريئة أمام عائلتها المتمسكة بالتقاليد الإسلامية والعربية:” قضينا يوم عسل، إنما بلا اختراق الحاجز الأخير الفارق بين البنت والزوجة. أردته زواجا صوريا ليتحول بعد إجبار الأب على الموافقة الى عرس حقيقي”(ص67).
ونقرأ في نفس الصفحة العبارة التالية التي تعكس لهفة باسم ليكون أحد أعضاء عائلة الحاج أبو ليلى.: ” متى يفتح لي هذا الباب بحب بدل الخوف “.
والطريف في الأمر أن كلا العروسين باسم وليلى لا يعرفان ولا يتوقعان سير الإجراءات الرسمية بعد عقد القران في دائرة الأحوال الشخصية والنفوس التي يجب أن تجرى بعد إجراءات الزواج. انكشف امرهما وعلمت عائلة ليلى بذلك بعد ثلاثة أيام من الحدث السعيد. تم اشعار بلدة القامشلي بذلك وذلك بعد استلامها نسخة من عقد الزواج لأجل تغيير قيد نفوس ليلى من عازبة الى متزوجة (ص 68). وصل الخبر الى عائلة ليلى بواسطة جارهم الذي يعمل في دائرة نفوس القامشلي. قرر باسم أن يذهب الى أهل ليلى ويتحدث معهم حول علاقته بليلى وخصوصا مع والدها. طرق الباب فخرج له الحاج أبو ليلى مكفهر الوجه ولا تعلو وجهه ابتسامة ترحاب ولم يرد على تحية باسم. ” قال باسم أنا بهجت اليمني، هل تريد أن نتحدث أمام الباب …؟ قال كمن أسقط في يده: تفضل ” (ص 70). وبعد الجواب على أسئلة الحجي المختلفة، قال باسم حجي ..! قبل أن أقول لك أي شيِء … بنتك ما زالت بنت. سحب له نفساً (يعني تنفس الصعداء)” (ص71).
وبعد نقاش طويل طلب الحجي من باسم أن يطلق ليلى. رفض باسم هذا الحل وغادر المكان. تعرضت ليلى لضغوط عائلية كبيرة وفي مقدمتهم الأب وتعرضت للضرب المبرح عدة مرات وحتى التهديد بالقتل إن أصرت على رفض الطلاق ولكنها صمدت ولا فائدة من التهديد والوعيد. بعد مرور وقت طويل تكلم معها والدها في الغرفة المحجوزة فيها وتحدث معها بصوت مبحوح: دعه يطلقك أولا ومن ثم يأتي ليخطبك مني أمام الناس.. أعدك أني سأوافق عليه (ص72).
قابل باسم ليلى في بيتهم بطلب من والدها وعلم بخطة والدها وشعر بأن والدها سوف لا يبر بوعده وهذا الذي حصل بعد الطلاق. دخلت ليلى في الإقامة الجبرية المشددة، بما فيها عدم الذهاب الى دمشق لتكملة دراستها الجامعية. ولهذا لم يتمكن باسم من رؤيتها لا على سطح البيت ولا في خارج الدار. وكذلك بعد انتشار خبر العلاقة بين زواج وطلاق اعتبر شخصا غير مرغوب به من قبل الحزب وأرسل الى دمشق بانتظار حصوله على زمالة دراسية لإكمال دراسته الجامعية.
تمكن باسم من الحصول على عمل بتخصصه الهندسي في دمشق بانتظار الزمالة الدراسية. انقطعت وسائل الاتصال مع ليلى لعدة شهور الى ان حصلت على سماح من أهلها لمواصلة دراستها في العاصمة دمشق (74). تمكن باسم من لقاء ليلى في دمشق واخبرته بأن والدها وافق على قدومه الى القامشلي وخطبتها بشكل اصولي حسب الأعراف والتقاليد.
بعد مرور فترة من الزمن وقدوم أخيه الأكبر من المغرب سافرا معا الى القامشلي، وهناك تمكن بمساعدة عدد من الأصدقاء السوريين من وجوه المدينة المعروفين بتشكيل وفد والذهاب الى بيت أهل ليلى. كان في استقبالهم أخ ليلى الكبير الذي قال لهم بأن الحجي مريض ولا يتمكن من مقابلتهم. لم يفي الحجي بوعده وهذا الذي توقعه باسم. طلب أخوها الكبير شروطا تعجيزية من باسم ولهذا لم يوفق باسم من خطبة ليلى (ص76).
تمكن أهل ليلى من اقناعها بالسفر الى بلغاريا حيث يدرس أحد اخوانها على أمل أن تحصل على منحة دراسية هناك لتكملة دراستها. فرح باسم بهذا الخبر وقال لها هو موعود أيضا من قبل الحزب بمنحة دراسية ويتمنى أن تكون في بلغاريا أيضا حيث يمكنهم من الزواج هناك ولن يستطيع أحد من يوقفهم. فرحت ليلى بهذه الخطة (ص 76). ولكن كما يقول المثل العربي: تهب الرياح بما لا تشتهي السفن، وهذا الذي حدث: لم تتمكن ليلى من الحصول على المنحة الدراسية، وكل الذي حصلت عليه هي سنة لدراسة اللغة البلغارية في صيف العام 1987. أما باسم فقد حصل على منحة دراسية في الاتحاد السوفيتي في صيف العام 1988، وبهذا انقطعت اخبارهم عن بعض لمدة سنة كاملة (ص77).
تمكن باسم من العثور على رقم هاتف السكن الطلابي حيث يقيم صديقه القديم محمود مع زوجته وبعد جهد كبير بسبب صعوبة الاتصال تمكن من الحديث معه ورجاه بأن يبحثا هو وزوجته عن ليلى. تكللت جهودهما بالنجاح وعثر محمود على ليلى. وبعد فاصل طويل من المزاح من قبل محمود أخبره الأخير بأن ليلى متزوجة وزوجها معها هنا (ص80). أ صاب باسم الذهول ولكن محمود أخبره بأن ليلى لا زالت تحبه وفرحت كثيرا بوجوده. اتفق باسم مع محمود على التواصل مع ليلى كما حدد موعد لمكالمة هاتفية معها.
ظل باسم يفكر كثيرا في السبب الذي دعا ليلى الى الزواج من شخص آخر إلى حين حلول موعد المكالمة الهاتفية. ” كانت أول جملة قالتها ليلى حتى قبل التحية: حبيبي باسم ..أهلي فرضوه عليً ..وظروفي فرضته… لا أطيقه… ولم أكن أعرف شيئاً عنك …أنت الانسان الوحيد الذي يجعلني أتنفس….أرجوك افعل شيئا…! لا أريد العودة الى سوريا …افعل شيئا أرجوك ” (ص81). “هددوها بالعودة الى سوريا. ولما رفضت قالوا ليكن زواجا على الورق لمجرد الحصول على الإقامة “(ص82). حصلت ليلى على إقامة لمدة سنة حتى تتمكن من دراسة اللغة البلغارية بعد أن تزوجت شخص من معارف العائلة مقيم في بلغاريا ويتودد لها كثيرا، لعلها تنسى العراقي الذي (لا نعرف قرعة أبوه من وين)(ص83)، وهذا هو الزواج الثاني اتفق الاثنان باسم وليلى على ان يأتي الى بلغاريا في العطلة الصيفية لأنه حسب الأنظمة الدراسية في الاتحاد السوفيتي وقتذاك لا يحق للطالب الأجنبي أن يسافر خارج الاتحاد السوفيتي إلا في العطلة الصيفية والشتوية.
كان شرط باسم هو أن تتطلق من زوجها وهذا الذي حصل حسب القانون البلغاري إذ يحق لأي من الزوجين التقدم للمحكمة للطلاق أو الاثنان. قدمت هي الطلب ولم يحضر الزوج رغم تبليغه فحصلت على الطلاق وهذا هو الطلاق الثاني لهذه البنت دون أن تتذوق حلاوة الزواج أصلا (ص84). تمكنت ليلى من الحصول على منحة دراسية في كلية التمريض بمساعدة الأصدقاء بعد اكمالها سنة دراسة اللغة البلغارية. استمرت زيارات باسم الى بلغاريا في جميع العطل الدراسية بالشتاء وبالصيف. ويذكر باسم في الصفحة 86 من الكتاب ما يلي: ” كنت معها العاشق الولهان الجائع الذي لا يشبع مهما قدم له من لذائذ الحب. أيام عسل قليلة نقضيها معاً، يعقبها فراق وشوق والتياع نخفف من وطأته باتصالات متقطعة بين حين وآخر”.
بعد ثلاثة سنوات أنهت ليلى دراستها في كلية التمريض عمل لها باسم دعوة رسمية لزيارة الاتحاد السوفيتي وسافر هو الى هناك لاصطحابها معه الى موسكو. كان في توديعهم ئاشتي صديق باسم من أيام العمل في كردستان الذي أهدى لهم ساعته اليدوية ويعتبرها باسم أغلى هدية على قلوبهم (ص 87). بعد وصولهم الى موسكو قاما بتسجيل زواجهم في الجامع بحضور شهود وبأسمائهم الحقيقية. احتفل العروسان مع الأصدقاء المقربون بهذا الحدث السعيد وقاموا بتسجيل الحفل في فيلم فيديوساعدهم فيما بعد بتثبيت زواجهم وفق الأصول في المؤسسات السويدية وكذلك عند أهل ليلى(ص88).
بدأت مرحلة جديدة في حياة باسم وليلى ابتداء من الفصل السادس: التبني.
بدأوا بمراجعة المؤسسات السويدية الحكومية وغير الحكومية للتزود بالمعلومات القانونية وما تحتاجه عملية التبني من شروط فيما إذا كانت متوفرة فيهم أو غير متوفرة. وعليهم تقديم أنفسهم من حيث مكان عملهم وخبرتهم ورغبتهم في تبني طفلا بغض النظر عن العرق واللون والدين والجنس. وكذلك عمر الطفل،” كلما كان صغيرا كان أفضل لأجل التأقلم وبناء العلاقة بشكل سريع وأقوى معه” (ص92)..في جوابهم على أسئلة مالين الموظفة في مؤسسة الرعاية الاجتماعية .
وبعد فترة قصيرة اتصلت مالين بليلى وأخبرتها بالحصول على الموافقة الأولية للمؤسسة لطلب التبني. مع سؤالها : ” هل سنتدبر بأنفسنا عملية التبني ضمن الضوابط القانونية السويدية أو لنترك الأمر للمؤسسة بتولي هذه القضية من صلاتها مع العديد من الدول التي تعتبر مصدرا للأطفال المعروضين للتبني؟” (ص 93).
بعد تشاور ليلى مع باسم اتفقوا على أن يتبنوا طفلا من سوريا. وكان عليهم حضور جلسات مع عوائل أخرى ترغب في التبني حتى تساعدهم على الاستعداد بشكل أفضل وهذا ما فعلوه (ص94).
وفي دمشق اتضح لهم بأنه لا يمكنهم تبني طفل سوري لأن تعليمات وزارة الشؤون الاجتماعية السورية تنص على ان يكون الزوجين الراغبين بالتبني أن يكونا من حاملي الجنسية السورية ولا يكفي أن تكون الزوجة سورية ” (ص102). وبسبب هذا الشرط لم يتمكنا من تبني طفل سوري لأن باسم عراقي وليلى سورية.
ان تجربة تبني طفل عراقي اسمه أحمد موجود في السويد باءت بالفشل على الرغم من تهيئة كافة الظروف المناسبة له في البيت من غرفة وملابس وأدوات رياضية وبإشراف كارين من مؤسسة الرعاية الاجتماعية لأن والد أحمد طلب أن يلتحق به في دولة أخرى كما أن عمره ليس 11 سنة كما هو موجود في الوثائق الرسمية السويدية وإنما تبين لهم من خلال تصرفاته وصوته أن عمرة 15 سنة. (ص 103-126).
في الفصل الثامن (ص 127-145) يتوجه باسم الى النشاط الاجتماعي الذي يأخذ جل وقت فراغه بعد عمله معلم رياضة في احدى المدارس السويدية ، ينشط في مجال فضح النظام السياسي في العراق من خلال إقامة الندوات والاجتماعات السياسية والمظاهرات السلمية وكذلك المشاركة في الندوات التي تقيمها الأحزاب اليسارية السويدية وخصوصا قبل العدوان الأمريكي الأوروبي على العراق في ربيع العام 2003. كل هذا ساهم في اصابته بوعكة صحية خطيرة أدت الى اجراء فحوصات طبية عديدة للدماغ والرأس ” مع هذه التطورات السريعة داخلني إحساس مزدوج، كازدواج أوجاع رأسي بين الشقيقة وتصلب عضلات الدماغ ، يلح بالسؤال المهمل من سنين طويلة، يا ترى ما هو مشروعي الشخصي والبلد قد فتح على آخره، لم تعد هناك حدود ولا سدود، لا حراس حدود ولا حتى حراس سيطرات الطرق الداخلية “(ص139). قرر باسم السفر الى العراق في نهاية شهر تموز 2003. وقع الخبر كالصاعقة على ليلى.
” – الى العراق .. وأنت مريض ؟
أشعر أن السفر سيساعدني على الأقل نفسياً
ما زالت عندك علاجات ومواعيد مع الأطباء ؟
لا يهم” (ص141). لم تستطع ليلى من ثني باسم عن قراره بالسفر الى العراق على الرغم من عدم وجود خطوط طيران الى هناك. جاوبها سأدبر حالي. ثم بادرها بالسؤال : ” ألا تريدين طفل زغيرون …هيك قد الكمشة تضعينه في حضنك تناغيه ويخرمش خدودك..؟ “(ص142). اقتنعت ليلى بحجج باسم بعد حوار طويل.
الفصل التاسع: ” العودة الى الجذور” (ص146) اسم له وقع وتأثير عاطفي على أي انسان وخصوصا الذي غادر الوطن مرغما لفترة طويلة ومتلهف لزيارة مرابع الطفولة والصبا والشباب. شد باسم الرحال الى العراق عبر سوريا، أولا دمشق ومن ثم مدينة الذكريات الأليمة والسعيدة القامشلي.
” لي في المدينة في كل شارع وزاوية ذكرى، علامة، حكاية. حتى الهواء فيها يبدو لي مختلفا عن كل المدن الأخرى التي مررت وعشت فيها. إنها المكان الذي عرفت فيه ليلى زوجتي: . في هذا المكان نبض ولأول مرة عدادي العاطفي. العداد الذي حسبته لسنين أن تروسه قد صدئت ولم تعد قادرة على الدوران. في هذه المدينة النائية بالنسبة للعاصمة دمشق ، هي بالنسبة لي، الخارج من بلده بلا أمل العودة ، تتساوى الأمكنة بين النائي والقريب ، كلها نائية “(ص153).
بعد مناقشة أمر خطورة سفر باسم الى العراق في شهر تموز العام 2003 مع الحاج أبو ليلى
بوصوله سالما الى أهله في مدينة البصرة ثغر العراق الباسم .
في صباح اليوم الثالث من وصول باسم الى القامشلي خرج الى مرأب السيارات المتوجهة الى مدينة اليعربية على الحدود السورية العراقية. استقل سيارة من النوع الذي يسع عشرة نفرات. كان ركاب السيارة سوريين وعراقي واحد. فضل باسم عدم الحديث معهم قدر الإمكان ولكن الظرف وأسئلة السوريين الملحة اضطرته الى الإجابة على أسئلتهم باختصار
وعرف أن من بينهم من كان في العراق مشاركا ضمن (المتطوعين العرب) الذين كانت الفضائيات العالمية تنشر أفلاما عن تدريباتهم واستعدادهم للدفاع عن العراق. أما العراقي فكان كما بدا له من تجار الشنطة كما يقول المصريون، يعني تجار ما خف وزنه وغلى ثمنه.
” وصلنا الحدود السورية ، تبعت العراقي الى المخفر السوري المتكون من بناية حجرية متهالكة بطابق واحد تتوفر بداخلها غرفتان واسعتان ، كل غرفة مقسمة الى كابينات بشبابيك زجاجية. والشيء نفسه ينطبق على النقطة الأخرى العراقية غير البعيدة عنها “(ص163).
تجاوز باسم المخفر بسهولة بسبب التنظيم والمسافرون ملتزمون بالنظام. أما المخفر العراقي
فحدث ولا حرج من حيث عدم التنظيم والالتزام بالطابور على الرغم من وجود العسكريين الأمريكان في هذه النقطة الحدودية. بعد تفتيش الحقائب عبر سقيفة بالهواء الطلق وتحت اشعة شمس شهر تموز اللاهبة (تموز اللي ينشف المي في الكوز كما يقول العراقيون) فالوضع المزري وتصبب العرق على وجه الموظفين وتذمرهم واصل الى مدياته القصوى مصحوبا بالشتائم الثقيلة العيار وعدم التزام المسافرين بالطابور تسبب في إطالة وقت الانتظار(ص164).
بعد التي واللتا كما يقول العراقيون والتكلم مع العسكري الأمريكي بالإنكليزي حينما شاهد الجواز السويدي والى أين هو ذاهب .. الى البصرة ، تمكن باسم من الحصول على ختم جواز السفر وتأشيرة الدخول (ص170).
ومن عنوان الفصل العاشر ” البصرة تلوح لي ” نفهم أنه سوف يبدأ فصل جديد في حياة باسم حيث قطع طريقا طويلا من اليعربية الى الموصل ومن ثم الى بغداد . كان حذرا جدا من الكلام مع المسافرين اللذين كانوا معه في وسائط النقل حتى وصل الى بغداد حيث قضى ليلة واحدة في فندق يقع في الكرادة. وفي صباح اليوم التالي توجه الى ساحة النهضة حيث ركب في سيارة (ج ام سي) الامريكية التي تسع سبعة ركاب متوجهة الى البصرة. أول منظر لفت انتباهه بعد وصوله الى مرأب سعد في البصرة هو ” يغلب على الناس ما يشبه الزي الموحد، دشاديش متسخة ولحى طويلة غير مشذبة مع سمنة ظاهرة. أما النساء فلا تشاهد غير كائنات سائرة على قدمين ملفوفة بالسواد الحائل لونه الى الأملح لكثرة القدم. المباني لا تختلف عن حال ساكنيها مبنية من البلوك، الطين، صفائح معدنية، تشكو العوز والفقر وما خلفته سياسات الحصار الخارجي منها والداخلي. طرق السير للعجلات وللناس عشوائية، الأزبال في كل مكان ولا أحد يهتم بها ” (ص197).
لم يود باسم أن يخبر أهله بموعد وصوله الى البصرة حتى لا يقلقون في حالة تأخره عن الموعد. اعتمد على ذاكرته لعنوان بيتهم في شارع مقابل شركة النفط، ولما وصل وجد هناك عدة فروع مقابل شركة النفط. سأل أحد المارة عن بيتهم باسم أبيه الذي توفى قبل عدة سنوات فلم يعرف الاسم ولكن يعرف بيت شخص آخر بنفس الاسم وهو بيت أبو سامر، قال نعم أنه أخي الصغير.
بدأ البيت يستقبل الأهل والأقارب اللذين سمعوا بقدوم باسم وهم غير مصدقين بوجوده بينهم. انتهى الأسبوع الأول وباسم سجين البيت وسجين حكايات الحاجة أمه عن كل ما حصل لهم.
” – حجية خليني هسه أشبع من شوفتكم وأريد أشوف المدينة بعدين “(ص204).
بعد القيام بجولة في سيارة أخيه أبو سامر في مدينة البصرة واطلاعه ومشاهدة ما حل بها.
فاتح أهله حول الغرض من زيارته في اليوم السابع من مكوثه بينهم ، حيث صدمهم برغبته المشتعلة في تبني طفلا من البصرة، طفلا يكون له تذكارا لمدينة يحبها ومستعد للتضحية بنفسه من أجلها ( ص 207-208).
بعد مداولة موضوع التبني بإسهاب اقتنع الأهل بالفكرة وبدأ باسم مع أخيه أبو سامر بالبحث عن طفل رضيع بأيامه الأولى للتبني في المستشفى. بعد أخذ المعلومات من طبيب قسم الولادات عن وجود طفل يمكن أن يتبناه باسم. اصطدم باسم بشرط حضور الزوجين عند تقديم طلب التبني وهو مهم جدا مع توفر عقد زواج رسمي للعائلة المتبنية بالإضافة الى أن تكون العائلة أو فقط الأب عراقيا، جودة الحالة الاجتماعية للزوجين، عدم محكومية، وثائق رسمية تثبت هوية العائلة، الحالة المادية الجيدة (ص214). هاتف باسم في نفس اليوم زوجته ليلى في السويد وشرح لها الموضوع، وهكذا تم تأجيل تبني طفل الى السنة القادمة.
يتذكر باسم في الفصل الثاني عشر – “آخرون أيضاً يبحثون عن طفل”، “في نهاية السبعينات جمعتني مع علي رفقة النضال في بعض معسكرات التدريب الفلسطينية، قرر حينها الحزب الشيوعي العراقي اللجوء الى الكفاح المسلح في التعامل مع نظام صدام حسين، باتخاذ الإمكانيات المتوفرة في المناطق الجبلية من كوردستان العراق. قدمت بعض الفصائل الفلسطينية (الجبهة الديمقراطية) و (الجبهة الشعبية)، (فتح) بعض المساعدة في هذا الأمر(ص228). ” دخلت الى العراق مع آخرين عبر مدينة القامشلي. جرى اختيارنا أنا وعلي مع آخرين للعمل في تلك المحطة اللوجستية التي تتكفل بنقل السلاح والملتحقين من سوريا وتركيا وباقي المنافي الى داخل العراق. أما سعاد فالتحقت في منتصف الثمانينات قادمة من الخارج بعد إكمال دراستها هناك. التقيا وتعارفا في القامشلي، ثم قررا الزواج” (ص229).
لم يتمكنا سعاد وعلي من إنجاب أطفال لأسباب قاهرة، ولهذا فهما يبحثان عن طفل يتبنوه. بدأ الجميع بالتخطيط للمشروع بجدية وهم يعرفون الى اين هم ذاهبون، ولهذا كانت الخطوة الأولى هو الطلب من المؤسسة المسؤولة عن التبني منحهم الموافقة للتبني من العراق، وهذا الذي حصل، على الرغم من استغراب المسؤولة السويدية التي ساعدتهم في هذا الطلب (ص234).
يضم الفصل الثالث عشر مفاجئات لم يتوقعها باسم وهي إلى البصرة من جديد .. الزواج الثالث. قرر الأربعة (باسم وليلى وعلي وسعاد) السفر الى العراق في شهر كانون الأول لأسباب تتعلق بالعمل وصعوبة الحصول على إجازة ليس أكثر من ثلاثة أسابيع وخصوصا بالنسبة الى ليلى (ص235).
سافرعلي وسعاد بواسطة الطائرة من ستوكهولم الى عمان ومن هناك بالسيارة الى بغداد. أما باسم و ليلى فكان لابد من زيارة أهل ليلى في القامشلي. ولهذا السبب سوف يمرون الى العراق عبر معبر ربيعة. كان عبورهم المنطقة الحدودية سلسا بفضل وبمساعدة أحد أقارب ليلى لمعارفه الكثيرين في المخفر السوري وحتى العراقي ولأنه يعمل في التجارة عبر الحدود(ص237). وصل الاثنين بسلام الى بغداد في نفس اليوم ولكنهم منهكين لكثرة تبديل وسائط النقل. قضوا ليلتهم في أحد فنادق العاصمة وفي اليوم التالي توجهوا بالسيارة الى البصرة.
نجحت ليلى خلال اليومين الاولين بعد وصولهم الى البصرة في رسم صورة جميلة بعلاقتها مع الجميع وبالأخص مع والدة باسم وأنستها سؤالها الأزلي حول من هو السبب في عدم الانجاب ابنها أم ليلي. (ص243).
على مدى ثلاثة أيام توزع فريق البحث العائلي بين مستشفى الولادة ومستشفيات أخرى وعدد من المساجد، ولكن دون جدوى(ص247). في اليوم الرابع اتصلت سعاد على هاتف بيت أهل باسم وأخبرتهم بأنهم نجحوا في الحصول على طفل في الناصرية. بعد يوم اتصلت سعاد على هاتف باسم ” وكانت مستبشرة:
باسم … الحق بسرعة …! أنا الآن في المستشفى مع بنتي وهي مريضة – تقمصت سعاد دور الأم سريعا – إلى جانبي امرأة ستلد بعد يومين أخبرتني أنها لا ترغب في أخذ الطفل ستتركه بالمستشفى لأجل التبني …! جاوبها باسم:
سعاد نريد هذا الطفل ..أرجوك أعلمي المستشفى أننا قادمون وسنقوم بإعداد كل الأوراق اللازمة” (ص250-251).
ملأ الفرح قلبي باسم وليلى وحضنوا بعضيهما لفترة طويلة من الزمن وأم باسم وأخته الصغرى وأخوه أبو سامر وزوجته والأطفال يتفرجون عليهم ويضحكون كما لو أنهم يشاهدون فيلم مصري من أيام زمان…. نزلت دموع ليلى ..قبلها باسم من عيونها ووجهها(ص251).
ومن أجل إتمام تبني الطفل لابد من تسجيل زواج باسم وليلى في المحاكم العراقية عليهما ترجمة عقد زواجهما من اللغة السويدية الى العربية ومن ثم تصديقه ….الخ وهذا يحتاج وقتا طويلا. أحسن حل هو أن يعقد باسم على ليلى من جديد ، وهذا هو أحسن وأسرع حل لقضيتهما.
قاما بالفعل بعقد الزواج الثالث في نفس اليوم وبـأسرع وقت ممكن بمساعدة عماد معقب معاملات في المحكمة. ومن ثم قاما بتسجيل عقد الزواج واستنساخه. كما قاما بتسجيل عقد الزواج بنفس تاريخ زواجهم لدى السلطات السويدية حتى لا يتعارض مع اوراقهم السويدية الأخرى. وهذا الذي حصل وبمبلغ بسيط دفعه للموظف. وهكذا أصبحت كل الأوراق جاهزة وأصبحا زوجان حسب القانون العراقي والشرع الإسلامي. ولم ينس باسم من اكرام الصديق عماد بمبلغ جيد على الخدمة التي قدمها لهم، إذ لولاه لما تمكنا من إتمام تلك التفاصيل بتلك السرعة (ص257).
في الفصل الرابع عشر ولد ابننا…! تبدأ مرحلة أخرى من عملية التبني وليست بتلك السهولة لاسيما وأن الوقت ضايق باسم وليلى بسبب قرب انتهاء الاجازة وضرورة السفر الى السويد لأنه لا يمكن تمديد الاجازة ولا تغيير تاريخ تذكرة السفر الى ستوكهولم. كما أنه يجب استلام وثيقة رسمية من المستشفى مكتوب فيها ان الطفل مجهول النسب ويمكن تبنيه بعد اصدار الأوراق اللازمة. تمكنت سعاد من الحصول على هذه الوثيقة وارسلتها الى باسم بواسطة الهاتف على الشبكة السويدية لافتقار العراق الى شبكة انترنيت وقتذاك. في اليوم التالي توجه باسم مع أخيه أبو سامر الى المحكمة حيث كانا على موعد مع احد المحامين .
طلب المحامي احضار بطاقات الهوية ، عقد الزواج ، بيان ولادة الطفل، ورقة المستشفى، ورقة لا محكومية، بطاقة السكن، بطاقة التموين,, وغيرها الكثير من الوثائق التي كان بعضها معهم والبعض الأخر يجب تجهيزه. استمارة تبني طفل كانت تباع عند كتاب الطاولات المنتشرين خارج بناية المحكمة. بدأ الركض بين غرف بناية المحكمة الكبيرة من الساعة الثامنة والنصف صباحا الى الواحدة ظهرا (ص266). وصلنا برفقة المحامي الى غرفة نائبة القاضية التي كتبت نص قرار المحكمة الابتدائي كي يعرض على القاضية مسؤولة محكمة الاحداث لتوقعه. أخذ باسم وليلى القرار ودخلوا على القاضية التي كانت غرفتها مكتضة بالمحامين وهي نفسها التي رفضت طلب باسم لعدم وجود زوجته ليلى. ” تذكرت القاضية باسم وقالت الى المحامين الجالسين :
هذا الرجل جاءني بشهر تموز… هو يعيش في السويد ويريد أن يتبنى طفل من العراق، لم تكن زوجته معه لهذا رفضت طلبه. استمرت القاضية بالحديث حيث قالت رجعت الى بيتي وظلت قضيته عالقة في بالي لغرابتها بالنسبة لي. حكيتها لبنتي وهي بعمر 14 سنة .. تصوروا ماذا قالت اللعينة…؟ قالت: ماما ليش ما تحاولين تخلينه يتبناني وأروح وياه للسويد..!