العنصرية في المجتمع الألماني يكشفها فيلم ” صالة المدرسين”
علي المسعود
المدرسة فضاء مثالي استخدمته السينما لمناقشة الكثير من الأفكار منها العلمي والنفسي والاجتماعي، وغاصت في خفايا هذا المجتمع المصغر من زوايا مختلفة، ويأتي فيلم ” صالة المدرسين ” ليضيف نظرة أخرى مختلفة إلى تلك الأفلام، من خلال اعتماده على المدرسة كصورة مصغرة لمجتمع ينخره التناقض والتميزوالتسلط وغيرها . الفيلم للمخرج الألماني إيلكرتشاتاك و يبدأ من متابعة الكاميرا للمدرسة كارلا نوفاك (ليوني بينيش) وهي تخطو بشكل واثق في أول يوم عمل لها إلى المدرسة تشق طريقها إلى غرفة المدرسين قبل التوجه إلى الفصل الدراسي . كارلا مدرسة الصف السابع في مدرسة ألمانية ملتزمة وحساسة وتقف إلى جانب الطلاب .هناك توتر متزايد في المدرسة بسبب السرقات التي تحصل فيها بعد أن وقع الطلاب والمدرسون والمدرسات ضحايا لتلك السرقات .
في مشهد مبكر من الفيلم، يقتحم توماس وميلوش وهما من أعضاء الهيئة التدريسية فصل المدرسة كارلا دون سابق إنذار ويأمرا الفتيات بالخروج من الفصل ثم يقومان بتفتيش محافظ الأولاد في الفصل . وبعد العثور على مبلغ كبير في محفظة طالب يدعى علي يلماز (يلعبه كان رودنبوستل) يتم إخراجه من الفصل واستجوابه . ينفي الطالب علي بشدة أن الأموال قد سرقت وينفي أن تكون له أي علاقة بالسرقات في المدرسة . تستدعي المدرسة والدي علي (أوزغور كارادينيز وأويجار تامر) لإجتماع يضم الطالب ومديرة المدرسة الدكتورة بيتينا بوم (آن كاثرين جوميتش)، تطالب والدة علي بمعرفة سبب إختيار إبنهم باعتباره الطالب الأكثر شبهة، عندها تخبرهم مديرة المدرسة السبب المبلغ الكبير الذي وجد في محفظته . يشرح والدا علي أنهما أعطياه المال حتى يتمكن من شراء هدية عيد ميلاد لابن عمه . هناك نغمة عرقية وعنصرية لهذه المحادثة، لأن والدي علي مهاجران تركيان و شعرا بالإهانة من الاتهام الكاذب وتميزه لأنه أحد الطلاب المسلمين في الصف السابع . تعتقد المعلمة كارلا أن الطالب كان مستهدفا بشكل غير عادل ولا تخشى قول ذلك عندما تتحدث مع الأدارة وأعضاء هيئة التدريسية. كارلا غاضبة من الطريقة التي تم بها التعامل في التحقيق مع الطالب (علي) . وتعتقد من غير اللائق لتوماس وميلوش مقاطعة فصلها لتفتيش محافظ الطلاب . تؤدي محاولات الإدارة والمعلمين للتعرف على اللص أولا إلى انتهاكات لحقوق التلاميذ . بعد هذه الحادثة تتخذ المعلمة كارلا قرارا مصيريا يغير مسار القصة حين تتعمد وضع فخ مراقبة بالفيديو . وتنقذ الخطة في تركها لجهاز الكمبيوتر الخاص بها مفتوحا مع تشغيل الكاميرا الموجه مباشرة إلى سترتها حيث تركت فيها محفظتها وفيها أوراق نقدية داخل صالة المعلمين. وعندما تعود بعد الانتهاء من حصتها التدريسية تكتشف سرقة النقود من المحفظة التي تركتها في محفظتها . بعد مراجعة تسجيل الفيديو على اللاب توب تكشف يد السارق ولكن وجه اللص غير مرئي، تظهر البلوزة المميزة التي يرتديها واضحة في الإطار فقط . وسرعان ما تتعرف كارلا على صاحبة البلوزة. وتكون السكرتيرة كون (إيفا لوباو) . وعند مواجهتها بهذه الادعاءات والفيديو تنفي كون بشدة وترفض الاتهام بغطرسة . يتم إخبار المديرة بوم التي تقرر إيقاف السيدة كون عن العمل وانتظار تحقيق الشرطة . ومما زاد في تعقيد الأمور ، الطالب أوسكار (ليونارد ستيتنيش) إبن السارقة كون هو أحد طلاب المعلمة كارلا .
في البداية يبدو مرتبكا وخائفا على والدته ، لكنه يتغير ويصبح كئيبا وعدائيا ويبدأ في مضايقة المدرسة وعدم الاستماع إليها والتمرد عليها ويصبح سلوكه أكثر تقلبا وعنفا في محاولة لحملها على التراجع عن الحقيقة . تبدأ كارلا في فقدان السيطرة على فصلها الدراسي . وكما يشعر زملاؤها المدرسون بالامتعاض لأنها انتهكت خصوصيتهم بعد تسجيل الفيديو في غرفتهم التي يعتبرونها مكانا آمنا . المدرسون غاضبون لأن زميلتهم تسجل حركاتهم دون إذن وتخترق خصوصيتهم، والطلاب منزعجون من المضايقات المستمرة للمعلمين ، وأولياء الأمور الذين يضغطون – بحق – على المدرسين الذين لا يعرفون كيفية وضع النظام وحتى الطلاب الذين ينظمون صحيفة مدرسية يطالبون بإجابات واضحة . يتعرض الطالب أوسكار للتخويف باعتباره ” ابن أم مجرمة ” وكرد فعل بقوم بسرقة الكمبيوتر المحمول الخاص بمعلمته كارلا المخزون فيه دليل إدانة والدته، وحين تحاول المعلمة اللحاق به يضربها على وجهها ويهرب، ويرمي اللاب توب أخيرًا في النهر. على الرغم من منع الطالب أوسكار من الحضور إلى المدرسة، إلا أنه يصر على الدوام ويرفض مغادرة الفصل الدراسي طوعا ويتم تنفيذ القرار على يد ضابطي شرطة . في النهاية، يتم إخراج أوسكار من مبنى المدرسة وهو جالس على كرسيه من قبل ضباط الشرطة مثل ملكا متربعاً على عرشه .
تقوم المعلمة الشابة كارلا نوفاك (ليوني بينيش) بتدريس الرياضة والرياضيات ، وهي حديثة التعين ولم تكن على دراية بعادات المدرسة ، وبالتالي فهي مصدومة لما يحدث في داخل المدرسة من تجاوزات . يقوم المخرج الألماني ذي الأصول التركية إيلكر تشاتاك بعمل رائع في نقل التوتر والعذاب الداخلي الذي تعاني منه كارلا وهي تواجه عواقب الغضب وعدم الاحترام وعدم الأمانة من قبل أولئك الذين يلومونها على أزمة المدرسة. ولكن يمكن اعتبار هذه القصة أكثر من مجرد مشكلة تواجهها مدرسة لوحدها . هنا المدرسة هي صورة مصغرة للمجتمع ككل حيث يتم تخريب الحقوق الفردية (في هذه الحالة الطلاب الأطفال) من قبل من هم في السلطة ( تمثلها المدرسة ) . تتراوح الردود من انعدام الثقة على نطاق واسع إلى السلوك غير القانوني في استخدام كاميرات المراقبة وقمع حرية التعبير، ونشر الأخبار المزيفة. تتفوق الممثلة ليوني بينيش في رسم صورة المرأة الشجاعة التي ترفض الاستسلام للفوضى من حولها .
قدّم المخرج جنبا إلى جنب مع الكاتب المشارك يوهانس دنكر رؤية مثالية ناضجة وعميقة في فيلمه الذي يسرد فيه قصة مدرسة كنموذج مصغر للمجتمع ليس في الشكل التربوي . كثيرا ما تحدث إلكر تشاتاك عن كيفية تصادم القانون مع الواقع، وعن حقيقة أنه لا توجد أبدا أي حلول سهلة بين الناس. لذلك تدخل المديرة الحازمة فصلا دراسيا مع اثنين من المعلمين كتعزيزات. في البداية يتم إرسال جميع الفتيات خارج الغرفة، ثم يتبع الإعلان ” كل من لا يزال هنا يستمع بعناية، نود أن نلقي نظرة على محافظكم “، وتتابع المديرة: ” إنه أمر طوعي، بالطبع، ولكن إذا لم يكن لديك أي شيء تخفيه، فلا داعي للقلق “. تشير المديرة بفتور. أولئك الأبرياء يلمحون ضمنا إلى أنهم لا يحتاجون إلى الاعتراض والعكس صحيح، أي شخص يعترض أو يطالب بحقوقه يجعل نفسه موضع شك. نلمح وجوه الأطفال مضطربة بشكل واضح، لكن الحدث الحقيقي في هذا المشهد هو ليوني بينيش التي تلعب دور المعلمة الشابة كارلا نوفاك، التي تم اقتحام فصل الرياضيات الخاص بها من قبل وفد محاكم التفتيش المدرسية . يمكن قراءة سيمفونية كاملة من المشاعر المتناقضة على وجهها، مزيج متقلب من الرعب وضبط النفس، والغضب من زملائها المسيئين والتعاطف مع الأطفال الذين هم تحت رحمتهم . يستكشف هذا الفيلم أيضا ثقافة الإلغاء والعنصرية المؤسسية وحقوق الخصوصية وحتى الرقابة . يبدو أن فكرة الفيلم مستوحاة من أحداث حقيقية، ينجح المخرج وكاتب السيناريو المشارك إلكر تشاتاك في إنشاء صورة مدرسية رائعة ونقدية للمجتمع الألماني بشكل عام . يشد المخرج المسمار الأخلاقي، دعنا نسميها، ويراقب كارلا وهي تضيع أكثر فأكثر وتحاول فعل الشيء الصحيح، لكنها لم تعد قادرة على تلبية معاييرها الأخلاقية . وتصوير سينمائي دقيق يعمل بوسائل سينمائية بسيطة، ولكنه يسمح لنا بالنظر بفعالية هائلة في نفسية شخصيته الرئيسية . تشعر المدرسة كارلا بالصراعات المتزايدة والضغوطات عليها ونجدها ممزقة بين مثلها العليا وواقع المدرسة المتناقض . في أمسية لقاء مجلس الآباء والأمهات مع إدارة المدرسة ، تنتابها نوبة من انهيار عصبي لشعورها بأن سمعتها بين الزملاء والطلاب وأولياء الأمور تنحدر عندما ترفض الاعتذار علنا . على الجانب الآخر، يتأزم الوضع حين يقوم أوسكار الذي يعاني من تنمر زملائه في الفصل ويسرق كمبيوترها المحمول ويرميه في النهر بعد ضربها على رأسها، ورغم ذلك تواصل حمايته والدفاع عنه .
يتمحور هذا الفيلم حول موضوعات هامة وحديثة، المثالية، التحيز، التواصل، العدالة، العنصرية، ثقافة النقاش . بالنسبة إلى المخرج وكاتب السيناريو المشارك، تمثل المدرسة نظاما و “انعكاسا لمجتمعنا”. هدف المخرج في “صالة المعلمين” ليس التشكيك في المدرسة كنظام، بل استخدامها كانعكاس لمجتمع مصغر، الهياكل الهرمية، والمزيج المتعدد الثقافات من الطلاب والطالبات والكادر التدريسي، وأخيرا المعايير الأخلاقية العالية التي تضغط على أعضاء هيئة التدريس. حتى أدنى تجاوز يمكن أن يؤدي إلى سخرية الطلبة على وسائل التواصل الاجتماعي . المدرسة في الفيلم صورة عن المجتمع حيث يتم تخريب الحقوق الفردية للمواطنين (الطلاب) من قبل من هم في السلطة . ويشير الفيلم إلى ثقافتنا في النقاش في البحث عن الحقيقة، والبحث عن العدالة، وتشويه الحقيقة، يقول المخرج إلكر تشاتاك : “يتعلق الأمر بثقافة الإلغاء والتهميش ويتعلق الأمر بالطريقة التي تريد أن تفعل بها كل شيء بشكل صحيح كمدرس ومازلت تفعل بعض الأشياء الخاطئة “. ولكن حتى لو كانت حكاية “صالة المعلمين” تزيل الكثير من الشعور بالذنب الفردي عن أكتاف شخصياتها ، فهي ليست ميؤوسا منها تماما . على سبيل المثال، يتم عرض الافتقار إلى الشفافية تجاه الأطفال، وفقا لشعار “ما يحدث في غرفة المعلمين، يبقى في غرفة المعلمين ، كمشكلة رئيسية. الشيء المثير للسخرية والأكثر إحباطا في الأمر أن هذا بالضبط ما يتناقض مع النهج التربوي للسيدة نوفاك . إنه يوضح بعدم وجود نهج تربوي يعمل بشكل مثالي دون تغييرات كبيرة في النظام . حقيقة إن المسار الاستبدادي للعملية التربوية ببساطة لم يعد مناسبا ويبرز ذلك بشكل هامشي فقط في الفيلم. المدرسة هنا ليست أكثر من تمثيل لمجتمع، حيث يرمز المعلمون إلى السلطات والطلاب هم المواطنون الذين يطالبون بحقوقهم . تستخدم القصة المدرسة كنموذج مصغر للمجتمع الحديث، مع مجريات الأحداث وديناميكياتها المتغيرة والبحث الذي لا ينتهي عن الحقيقة. يصبح فحصا حادا للنوايا الحسنة مما يؤدي إلى سوء الفهم بطرق يمكن أن تؤدي في النهاية إلى تحطيم التواصل بين الأشخاص. ناهيك عندما يتعلق الأمر بالأطفال الذين ليسوا دائما مطلعين على عقلية الكبار . أحد الجوانب الرائعة في دراما المخرج الألماني هي الألفة المحددة بشكل غريب . إنه يوصلك مباشرة إلى ذاكرة حسية لغبار الطباشير والملل من الدروس، والتململ على مكتبك أو التحديق بشوق من خلال النوافذ الكبيرة، مرآة عاكسة لسلوك أفراد ومؤسّسات غربية إزاء الوافدين أو المهاجرين ، وأيضا تذكير صارخ من جانب المعلم والطالب والمعضلات الأخلاقية للمعلمين حين يحاصر الطلاب المعلم أو المعلمة، بما كانت عليه المدرسة بالفعل بالنسبة إلى الكثيرين منا،تجربتنا الأولى والأكثر تأسيسا في إضفاء الطابع المؤسسي أو الانضباطي. حيث ستكون لكل مشاهد وجهة نظره حول العنصرية غير المبررة، ودور المعلمين في تعليم اليوم، والحماية المفرطة للوالدين، وهذه بالطبع حقيقة لم يعد أحد يهتم بها، غرفة المعلمين تمثيل للمجتمع الألماني . إنه ليس بالضبط فيلما خارجا عن المألوف في إطار تلك الكليشيهات، لكنني أجده مثيرا للاهتمام بسبب الأسئلة التي يثيرها حول مهنة التدريس. منذ البداية، يبدو لي أنها دراما قوية يكثفها أداء رائع من قبل “ليوني بينيش” في ممارستها الأخلاقية للتربية ومواجهة الافتراءات، كذلك يستجوب الفيلم العنصرية وحالة المهاجرين في المجتمع الألماني المعاصر . تلعب مساحة الحرم المدرسي دورا راجحا يستخدمه المخرج تشاتاك لتمثيل واقع المدرسة والتعليم، من منظور معلمة تبدو كما لو كانت مسجونة تحت ظل واقع اجتماعي يتحاور حول التحيزات الاجتماعية ومحاولة إظهار غياب حرية التعبير والعنصرية المنهجية التي لا تزال تشكل تحديا للمجتمع والنظام التعليمي وللمؤسسات الألمانية وربما في أماكن أخرى من العالم يكون الأمر أشد، بالإضافة إلى التأكيد على السلطة البيروقراطية التي تراقب عن كثب خصوصية الآخرين من أجل حماية النظام القائم .