فيلم “أنا كوبا” وثيقة تاريخية لفترة محورية في التاريخ الكوبي
علي المسعود
في أعقاب أزمة الصواريخ ذهب المخرج السوفيتي ميخائيل كالاتوزوف إلى كوبا لعمل فيلم يوثق فيه نضال الشعب الكوبي و كان حريصا على الاحتفاء بالثقافة الكوبية والمساهمة في تطويرها . جاء على متن الطائرة لتفيذ فيلم ” أنا كوبا ” مستصحباً معه الشاعر السوفيتي”يفغيني يفتوشينكو” في كتابة القصة الذي سبق له العمل لفترة في كوبا كمراسل لصحيفة برافدا السوفيتية .
“أنا كوبا ” فيلم دعائي سوفيتي / كوبي مذهل من عام 1964 من إخراج ميخائيل كالازاتوف . تم صنعه للاحتفال بالثورة الكوبية. لم يعجب الكوبيون لأنهم اعتقدوا أنه شوه ثورتهم . تم إنتاج هذا الإنتاج الروسي الكوبي المشترك في ذروة الحرب الباردة ، وكان المقصود منه أن يكون ترنيمة سينمائية لمدح الشيوعية ، أعاد المخرج ميخائيل كالاتوزيف إحياء القمع والفقر والاستغلال الذي عانى منه الكوبيون في ظل نظام باتيستا. تم تصويره بشكل مبهر بالأبيض والأسود ولا يزال عملا مميزاً في التألق البصري بالإضافة إلى إعتباره قطعة من الحماس السياسي الثوري. الفيلم يستكشف جوانب مختلفة من المجتمع الكوبي والثورة . يتبع حياة شخصيات مختلفة ويعرض التغييرات السياسية والاجتماعية التي تحدث في كوبا خلال خمسينيات القرن العشرين . على الرغم من أن الفيلم لا يستند تحديدا إلى قصة حقيقية، إلا أنه يعكس المناخ الاجتماعي والسياسي لكوبا خلال تلك الفترة الزمنية . التصوير السينمائي الرائد وتقنيات الكاميرا المبتكرة ورواية القصص بشكل شعري يجعل فيلم ” أنا كوبا” فريدأ من نوعه .
يبدأ هذا الفيلم المدهش بمشاهد باذخة لهافانا ماقبل فيدل كاسترو، حيث تحوم كاميرا ذكية ما بين السابحات الفاتنات على سطح أحد الفنادق الراقية ثم نزولا عموديا لبركة السباحة ، تتجول الكاميرا في البار وتتابع نادلة توزع المشروبات على السياح ، وتسير معها لبركة السباحة حتى تغطس بنا لداخل المياه ، ثم نرى البحارة الأمريكان يتجولون وهم سكارى ، يغنون بحثا عن النساء بشوارع هافانا . الفيلم تسرد حبكته إمرأة نسمع صوتها وتمثل “صوت كوبا”، الفيلم موزع على أساس أربع قصص قصيرة يفصل بينها الزمان والمكان ويتمحورعن المعاناة الجماعية للسكان في السياق التاريخي للثورة الكوبية وديكتاتورية فولجنسيو باتيستا. كل حكاية تركزعلى جانب من جوانب كوبا ما قبل الثورة وتتجسد في شخصية نموذجية . في الأولى ، يظهر هامش الفقر الواسع الذي يختبئ في أحياء هافانا من منظور أمرأة غير سعيدة الشابة ماريا (لوز ماريا كولازو) التي تعيش حياة مزدوجة وتتردد على كازينو يرتادها الأجانب. يتناول المخرج في هذا الجزء قضية النساء اللواتي يجبرن على ممارسة الدعارة على أيدي زوار كوبا من الامريكيين الذين يروها جزيرة ملاهي ومواخير للدعارة وكازينوهات للقمار . القصة الأولى عن فتاة تواعد بائع فواكه وغير قادرة على إعطائه حتى قبلة لكنها في المساء تبيع نفسها للأجانب الوقحين الذين يعتقدون أن كل شيء معروض للبيع . تنتهي هذه القصة بالأمريكي جيم المرتبك بتعرضه لهجوم من قبل سكان الأحياء الفقيرة ، أطفال فقراء يتوسلون للحصول على القليل من المال . ويصور المخرج ذالك المشهد ببراعة بحيث يبدو كما لو أنك تسمع كوبا تبكي وترى روح الجزيرة تمزق أشلاء، توضح القصة الأولى التناقض بين الظروف المعدمة للمواطنين الكوبيين مقارنة بنمط الحياة الفخم والغريب للأمريكيين من الطبقة العليا الذين يسكنون الحانات والنوادي في البلاد .
في الحكاية الثانية ينتقل الفيلم إلى الريف ويركز على فلاح أرمل ( خوسيه غالاردو) حيث يرعى حقله الصغير يزرع قصب السكر بمساعدة ابنه وابنته . ولكن عندما يبدأ في الحصاد ، يصل مالك الأرض ليخبر الرجل العجوز أنه باع الأرض لشركة أمريكية إحتكارية ( شركة الفاكهة المتحدة وهي نفس الشركة التي اوعزت لوكالة المخابرات المركزية في الاطاحة بحكومة غواتيمالا الديمقراطية في عام 1954) ، في إشارة واضحة للتدخل السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة في كوبا. وتم إلغاء حق الرجل العجوز في العمل في الأرض . قبل الحصاد مباشرة ، يعطي ابنه المراهق وابنته آخر بيزو له ويرسلهما إلى القرية. بينما يشربون الكولا بسعادة ويعزفون الألحان على صندوق موسيقي ، يكون الفلاح في حالة من اليأس يحرق المحصول ويشعل النار في حقله ويموت .
في الحكاية الثالثة ، يعود المخرج الى المدينة ويعرض نضال الشباب الذين هم جزء من حركة طلابية وهم يطبعون منشورات ، يتمردون ضد قمع عملاء الشرطة الذين يقتلون الطلاب بلا رحمة في ساحة جامعة هافانا. تظهر لنا الأعمال الثورية لمجموعة من الطلاب وستبلغ ذروتها في حمام دم على أيدي شرطة نظام باتيستا ، وبعد مقتل الطالب اليساري إنريكي (راؤول غارسيا) تنضم مجموعة من الطلاب إلى المقاومة وتنفجر البلاد في أحتجاجات واسعة ويقتل طالب برصاص قائد شرطة فاسد . طلاب شجعان يتعرضون لخراطيم المياه، ثوارعندما سئلوا : “كتاب من هذا؟” (عن أعمال لينين – الدولة والثورة ) ، يلقون بجرأة في وجه الشرطة : “من لم يقرأ هذا الكتاب فهو جاهل” . يتوج هذا في اللقطة الأكثر جرأة في الفيلم ، حيث تتنافس تقنية الكاميرا مع الحركة لجذب انتباه الجمهور. يلفت المصور العبقري أوروسيفسكي الانتباه ويخاطر بإخراج المشاهد من اللحظة الدرامية ، وتقودنا الكاميرا الساحرة لمشاهد المقاومة الباسلة في شوارع هافانا ومقاومة الطلبة وطريقة توزيعهم للمنشورات الثورية ، ثم نرى أحدهم يسقط متضرجا بدمائه بعد ان يقًدم قائد الشرطة البدين “الكريه” على استهدافه بدم بارد مستمتعا بقنصه، فيما نرى نفس الشاب المقاوم يتردد في قنص نفس هذا الضابط عندما تتاح له الفرصة، متاثرا بحالته كأب يحتضن طفليه ويتناول الفطور على شرفة منزله بصحبة عائلته !! .
وفي مشهد غاية في الروعة في التصوير حين يهتف الطالب اليساري انريكي بعد مقتل رفيقه على يد شرطة الديكتاتور ” هناك طريقان للبشر حين يولدون ، طريق العبودية الذي سيتداعى وينتهي ، وطريق النجوم الذي يضئ لكنه يقتل ، هذه كلمات قالها الشاعر الكوبي ( خوزيه مارتي ) ، ونحن سوف نختار طريق النجوم الذي سوف يكون معبدا بالدماء والتضحيات ، ولكن في سبيل العدالة ، عندما نضحي برجل واحد فأن الآلاف سوف ينهضون ، وعندما لايكون هناك بشر أخرون ، عندها سينهض الحجر ، عندما يولد الرجال هناك طريقان وأنتم ستختارون طريق النجوم وسيكون منضباً بالدماء، ” ثم يحمل انريكي حمامة بيضاء قتلت برصاص الجيش عند تفريق المتظاهرين يتقدم المسيرة وسط اصوات المحتجين يرددون النشيد الكوبي ورافعين الاعلام الكوبية . سيتم تذكر الحكاية الثالثة ، التي تركز على شخصية الثوري الشاب إنريكي ، لاحتوائها على أكثر اللقطات استثنائية في تاريخ المصور السينمائي ، حين تتبع فيها الكاميرا مسيرة الجنازة تكريما لبطل الرواية ، بعد مقتل أحد الطلبة الثوار في الشارع يرفع جسد الطالب الميت وحمله بعيدا ، تتراجع الكاميرا قليلا وتبدأ فجأة في الارتفاع إلى جانب المبنى ، مما يفتح الإطار تدريجيا أمام رؤية أكثر اتساعا للحشد ، متحدين الآن حول الطالب القتيل . حتى تصل الكاميرا إلى ممر عبر الشارع وتتحرك بشكل جانبي عبر مدخل إلى مصنع السيجار الكوبي حيث يرفع أحد العمال علما مطويا ويمرره مرة أخرى من واحد إلى آخر بينما تتبعه الكاميرا ، العلم الثوري مرفوع ومعلق من النافذة بينما تمر الكاميرا فوقه وينجرف في الهواء عدة طوابق فوق الحشد ، ويطفو على طول الشارع بينما تحيط الحشود جسد الشهيد . هذه لقطة مميزة وأكثر إثارة للإعجاب بسبب البراعة التي تم تصورها وتنفيذها . بينما تدور أحداث الحكاية الرابعة في الجبال حيث يشن المقاتلون الحملة النهائية ضد قوات باتيستا. ويتحول التركيز نحو سييرا مايسترا السلسلة الجبلية حيث يختبئ فيدل كاسترو ورفاقه ، أنهم يقاتلون من أجل كوبا، ولكن ليس كل شخص قادر على التقاط بندقية. كثيرون ، مثل ذالك الفلاح الذي يعيش مع زوجته وأطفاله ، في نفس الوقت ، لن يتمكن أحد من الجلوس مكتوف الأيدي ، كل شيء في المرحلة التي تتحول فيها البندقية من وسيلة للحرب إلى وسيلة لإحلال السلام والحياة الكريمة. أنصار مخلصون في المستنقعات، يصل مقاتل منهك إلى مزرعة نائية حيث يقابله المزارع بعدم الثقة ، على الرغم من أن زوجة الرجل تقدم له الطعام. لا يرغب المزارع أي مشاركة في القتال ، رافضا تصديق أن الصراع مع السلطة له علاقة به وبعائلته . ولكن الوضع المأساوي لعائلة المزارع الذين بعد أن فقد أرضه ومنزله وزوجته وأحد أطفاله بعد هجوم شنته القوات الجوية لنظام باتيستا ضد مقاتلي كاسترو ، يقرر والد الأسرة بالانضمام إلى المقاتلين الذين يقاتلون بمدفع رشاش في الجبال حتى دخول العاصمة الكوبية منتصرين بانتصار الثورة التاريخي .
عرض ( أنا كوبا ) لفترة وجيزة في كوبا والاتحاد السوفيتي في عام 1964 وتسبب في غضب كل من كاسترو وخروتشوف و لم يتم عرضه مرة أخرى واختفى بالسرعة أو الأصح منع من العرض ، ولكن الفيلم اكتسب اعترافا وشعبية بعد عقود من صدوره حين ظهر الفيلم ، بدون ترجمة في مهرجان تيلورايد السينمائي (كولورادو) لعام 1992 تكريما للمخرج السوفياتي كالاتزوف قبل أشهر من وفاته. في العام التالي تم عرضه في مهرجان سان فرانسيسكو السينمائي الدولي بأشراف فرانسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي ، واكتسب اعترافا بعد عقود من إطلاقه الأولي بسبب تصويره السينمائي الرائد وموضوعاته الخالدة . وهذا دليل على القوة الهائلة للأفلام السينمائية ودليل على أن العمل الملهم يمكن أن يتجاوز الأيديولوجيات ويقف بمفرده كعمل فني .”أنا كوبا” هو فيلم مذهل بصريا يعرض جمال ونضالات كوبا قبل الثورة ، ويعتبر وثيقة خالدة لفترة محورية في التاريخ الكوبي .يقدم الفيلم لمحة عن الأناقة والأزياء والثقافة الكوبية في تلك الحقبة ، إضافة لتأثير الفيلم الكبير على صانعي الأفلام . واستشهد مخرجون مثل مارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا بالفيلم كمصدر إلهام لعملهم .
في الختام : يتجاوز استكشاف الفيلم للقضايا الاجتماعية والسياسية الزمن ويظل ذا صلة حتى يومنا هذا في موضوعات مثل ، عدم المساواة والقمع والثورة والكفاح من أجل الحرية التي يتردد صداها مع الجماهير على مستوى العالم . كذالك يعرض الفيلم التناقض الصارخ بين حياة الأغنياء والفقراء في كوبا . ويسلط الفيلم الضوء على التفاوت الطبقي والاقتصادي الذي كان موجودة الجزيرة قبل الثورة. كان الهدف من الفيلم في البداية أن يكون قطعة دعائية للثورة الكوبية. ومع ذلك ، قام المخرج ميخائيل كالاتوزوف بغرسه بعناصر فنية مما سمح له بتجاوز أصولها الدعائية . وكذالك ألهمت صور الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو الشعرية الذي كتب سيناريو الفيلم وتقديم جمالية المشاهد بصورة شعرية مبهرة .