فيلم ( قتلني عمر) يفضح عنصرية النظام القضائي الفرنسي
علي المسعود
في 25 يونيو 1991 ، انقلبت حياة المهاجر المغربي عمر رداد الذي يعمل بستانياً رأسا على عقب أتهامه بجريمة قتل ، وتصدر أسمه عناوين الصحف بعد اتهامه بقتل صاحبة العمل بوحشية السيدة جوسيلين مارشال التي تبلغ من العمر 65 عاما والتي طعنت في فيلتها في بلدة موجان قرب نيس الفرنسية . في مسرح الجريمة وجدت الشرطة نقش مكتوب بدم الضحية ” عمر قتلني ” في إشارة إلى عمر الرداد الذي كان يعمل بستانيا لديها آنذاك، وعمره لا يتجاوز السابعة والعشرين.اكتشفت جثة القتيلة بعد تحريات لرجال الشرطة الذين تلقوا تنبيها من جيران القتيلة بعد مُلاحظتهم غيابها وليتم العثور على جيزلين جثة هامدة غارقة في دمائها بقبو فيلتها . بسرعة كبيرة ودون تردد وُجهت التهمة إلى المهاجر المغربي، تصدرت قضية عمر رداد عناوين الصحف في تسعينيات القرن العشرين ، في 2 شباط/فبراير 1994 حكمت محكمة الجنايات في ألب ماريتيم على عمر رداد بالسجن لمدة ثمانية عشر عاما بتهمة قتل السيدة جيزيلين مارشال، وقضى سبع سنوات في السجن قبل أن يتدخّل العاهل المغربي الأسبق شخصياً ( الملك الحسن الثاني)، أُطلق سراح عمر الردّاد بعفو خاص من جاك شيراك رئيس الجمهوريّة الفرنسي آنذاك. (لا أريد عفو الرئيس ، أريد أن أثبت براءتي) هذا ما قاله عمر الرداد لمحاميه الشهير جاك فرجيس الذي تولّى الدفاع عن المناضلة الجزائريّة جميلة بوحيرد خلال حرب التحرير ثم تزوّجها. لكن القضاء رفض كل الطلبات التي تقدّم بها البستاني المغربي على مدى السنوات العشر الأخيرة لفتح الملف مجدّدا ومراجعة الحكم الصادر بحقه واعادة الاعتبار إليه .
فيلم (عمر قتلني) من إخراج رشدي زام يستعيد قصة البستاني المغربي عمر الردّاد ( يقوم بدوره الممثل الفرنسي – التونسي سامي بوعجيلة) الذي اتهم بقتل مشغّلته العجوز الفرنسية الثرية. ولأنه مهاجراّ وبسبب العنصرية ضد المهاجرين العرب سوف يجد القضاة العنصريون فرصتهم للتعبير عن حقدهم الدفين على المهاجرين ، وكان دليل الإدانة الوحيد جملة كُتبت بدم الضحيّة (عمر قتلني) قرب جثّتها التي وجدت في المرأب . لكن تلك الجملة تضمنت خطأ لغوياً فاضحاً من المستحيل أن ترتكبه سيّدة متعلّمة مثل جوسيلين مارشال . ومن هذه القرينة انطلق المحامي جاك فرجيس (الممثل الفرنسي موريس بينيشو)، ليحوّل المسألة إلى قضية رأي عام ويسلّط الضوء على منطق مشبوه يستريح لإلصاق التهمة ببستاني بسيط لمجرّد كونه (عربيّاً) مستغلاّ جهله بالقوانين واللغة الفرنسية ، ما يجعل الأمر غريبًا أن عمر رداد أثناء التحقيق لم يكن يفهم شيء بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ . لم يستطع عمر الرداد وقت وقوع الجريمة الدفاع عن نفسه أمام المحققين الفرنسيين، خاصة أنه كان أمياً ولا يجيد اللغة الفرنسية، ناهيك عن رفض المحققين توفير مترجم له . من ضمن الأسباب التي تجعل من عمر رداد مذنبًا بسبب أرتيادة نوادي القمار والدعارة قبل ارتكابه لجريمته ، وكما هو معروف ، هذه الأماكن لا تجعل من الشخص سويًا، في النهاية يظل مشبوهًا ومتوقع منه فعل أي شيء.
أعتمد المخرج المغربي رشدي زام على كتاب جان ماري روار (عمر الردّاد: اصناعة متَّهم) (1994)، إضافةً إلى سيرة الرداد التي كتبها بعد خروجه من السجن. هكذا يجد المشاهد نفسه أمام قصتين. قصة اعتقال الرداد التي شابتها الكثير من اللحظات العصيبة من إضرابه عن الطعام ومحاولته الانتحار، واللحظات المشرقة التي كانت تؤكد براءته قبل أن تتحول إلى كوابيس . إضافة إلى قصة مستوحاة من الكاتب الفرنسي (جان ماري روار) الذي آمن ببراءة الرداد، فاستقر في مدينة نيس (مسرح الجريمة) ليجري تحقيقاته الخاصة في القضية، كتاب يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول تفاصيل الجريمة ويقدّم أدلّة على براءة الردّاد . لم تكد تمر أسابيع على نزول الفيلم إلى الصالات، حتّى أعلنت لجنة مراجعة المحاكمات قبول طلب الردّاد بإجراء فحص جينيات لتحليل آثار الحامض نووي ذكوري عُثر عليها عام 2002 مختلطة بدم الضحية الذي كُتبت به جملة «عمر قتلني». وقد بيّنت الفحوص أن تلك الآثار لا تطابق الحمض النووي للردّاد… ما يعني أنه ليس الجاني الحقيقي!، وبالتالي، يُرجّح أن تمهد هذه القرائن لإعادة فتح التحقيق وإقامة محاكمة جديدة لتبرئة الردّاد الشاب المغربي .
الشك في الجملة الشهيرة
بعد سنوات من الاعتراف بجملة” عمر قتلني كدليل إثبات على جريمة الشاب المغربي (عمر الرداد ) تمكن بعض خبراء الخطوط ضمن فريق الدفاع من إثبات كون هذا الخط لايعود للقتيلة بسبب وجود الخطأ الأملائي في الجملة ، ذلك الخطأ لم يكن متوقعاً من السيدة المثقفة، ولا يمكن للمتهم كتابة الجملة لأنه لا يعرف الفرنسية قراءة وكتابة ، وهذا يعني أن شخص ثالث قد ارتكب تلك الجريمة وأراد توريط عمر بالجريمة. ومما زاد من حدة الانتقادات وجود أدلة تُؤكد أن اتجاه كتابة العبارتين يتناقض والوضع الذي وجدت فيه الجثة ملقاة داخلَ القبو . إضافة إلى أن وجود أدلة أخرى أثبتت أن ثلثي حروف العبارتين لا تتسقان وخط المجني عليها . كما استغرب الرافضون للحكم القضائي سلامة الحروف واستقامتها ما دفعهم للتساؤل عما إذا كانت امرأة في سكرات الموت بعد تعرضها لطعنات قاتلة ستكتب تلك العبارة بحروف كبيرة مستقيمة . وذهب أصحاب هذا التوجه إلى القول بأن المرأة إذا كانت قادرة على الوقوف والكتابة، فلماذا لم تفكر في البحث عن النجدة وإنقاذ نفسها، وليس تضييع الوقت في الكتابة على الحائط . ورغم عدم وجود قطرة دم الضحية في لباس المتهم، إلى جانب عدم إيجاد سلاح الجريمة، إلا أن الاتهامات انصبت في وجهة واحدة صوب والمغربي المهاجر عمر الرداد الذي كان أبعد من ذلك .اضافة الى ظهور ثغرة في سير التحقيقات حيث لوحظ تضارب بين تقارير الشرطة والطبيب الشرعي حول تاريخ وقوع الجريمة. جاء في أوراق التحقيق أنها وقعت بتاريخ 24 (يونيو) 1991، بينما قال الطبيب الشرعي إنّ الجريمة ارتُكبت في صباح اليوم التالي . وكان هذا التفصيل بالغ الأهمية، لأنّ 24 حزيران كان يوم أحد وقد قضاه عمر عند والديه في مارسيليا ، وبالتالي لم يكن موجوداً في موجان ساعة وقوع الجريمة . تسلم المحامي جاك فرجيس القضية واستطاع سريعاً استمالة الإعلام إلى خندق موكله. ورجّحت أغلب الصحف أن يكون الجاني الحقيقي هو الذي كتب الجملة التي تتهم الردّاد بدم الضحية بعد قتلها، ما يفسر ذلك الخطأ اللغوي. أو ربما أرغم الجاني الضحية على كتابة تلك الجملة، فتعمدتْ أن تدسّ فيها ذلك الخطأ بهدف إثارة الانتباه . وكان الأدعاء عنصري حين تسرّعوا في إغلاق التحقيق حين أغفلوا شهادات وقرائن كان يمكن أن تثبت العكس . عشية مثول عمر الردّاد أمام محكمة نيس خريف 1994، كان الرأي العام الفرنسي يرجّح براءته، خصوصاً بعدما انبرى للدفاع عنه مثقفون بارزون، ئولكن قبل ذلك في عام 1994 ونتيجة عدم اقتناعه بالحكم مع متابعته لملابسات القضية يقرر الروائي الفرنسي ” جان ماري روار” أن يقوم بعملية تقصي حقائق صحافية متتبعا خيوط القضية كي يُخرج عنها في النهاية كتابا ضخما يمثل المادة التي اعتمدوا عليها كتاب السيناريو في تقديم هذا الفيلم .
ضجّت فرنسا بقضية شغلت الرأي العام، وجنّدت المثقفين والمجتمع المدني وانقسمت بشأنها الطبقة السياسية . صوّر الفيلم حكاية بستاني مغربي فقير يواجه عنصرية نظام قضائي ذا خلفيات كولونيالية! ، لذالك، حين صدر الحكم على الردّاد بالسجن 18 سنة استمرت حملة الدفاع عن الردّاد، لتبلغ أوجها مع صدور كتاب جان ماري روار بعنوان «عمر الردّاد: اختلاق متَّهَم). وانضم إلى حملة الدفاع عن الردّاد حقوقيون ومثقفون، على رأسهم الروائي المغربي الطاهر بن جلون الذي نقل تلك الحملة إلى الرأي العام المغربي في الضفة الأخرى للمتوسط . رّكز المخرج على ملامح الممثل سامي بوعجيلة الذي برع في أداء دوره ومن خلال إظهاره لقوة عمر وفي نفس الوقت هشاشته وحيرته أمام ما يحدث له ، من ملامح قوته أداء الممثل الفرنسي من أصول تونسية سامي بوعجيلة لدور الرداد وكان الشبه بين الشخصين كبير جداً، كما أظهر المخرج كيف تصرف عمر في السجن وكيف أخذت قضيته أبعادا طويلة المدى، من حالة انهيار زوجته لطيفة بعد سماعها للحكم ، أما والده فيردد أن هذا ظلم ، وهو الذي كان يؤمن بعدالة فرنسا . حين يدخل عمر في الإضراب عن الطعام، مما يؤدي به إلى المستشفى،وحينما يزوره والده في السجن يبكيان معا، وبعد إضرابه عن الطعام يقدم على محاولة الانتحار . شارك في كتابة سيناريو الفيلم إلى جانب المخرج رشدي زم ثلاثة سينمائين هما كاتبا السيناريو الفرنسيين اوليفي كراس وأوليفي لوريل بالأضافة إلى المخرج الجزائري رشيد بو شارب-صاحب”خارجون عن القانون” . أعتمد السيناريو على تحريات الكاتب الذي اعتنق القضية، وبدت له تستحق البحث من أجل إنقاذ حياة إنسان. بموازاة ذلك، اعتمد من جهة ثانية على تجسيد بعض الوقائع في الوقت المناسب ، كلحظة الاعتقال وجلسات المحكمة وأجواء العيش في السجن، بخاصة لحظة الإضراب على الطعام ومحاولة الانتحار ببلع شفرة حلاقة اللذين قام بهما عمر الرداد . في هذه الأثناء، يقبع عمر رداد في السجن، لذلك نراه يقاوم، من خلال الإضراب عن الطعام، ساخطا على الظلم الذي يعاني منه، ويستسلم لليأس ويحاول الانتحار. ويعاقب بالحبس الانفرادي ، ونراه رجل عار محبوس في زنزانة بلا نوافذ وفي الظلام لأنه أخطأ في محاولة الانتحار . ولجأ صناع الفيلم إلى اتخاذ شكل الفيلم الوثائقي الذي يعتمد فيه السيناريو على عناصر تسجيلية واضحة ، اهمها كتابة اسم المكان وتحديد التاريخ الذي جرت فيه الوقائع في “التحقيق” الأول ، يسرد رشدي زم جميع التناقضات وجميع مخالفات التحقيق وكل تناقضات الجريمة . لا أثر للدماء على عمر ولا آثار أقدام للبستاني في مسرح الجريمة ، وجثة تم حرقها بعد أيام قليلة من وقوعها وجداول زمنية لا تتطابق . في النهاية ، بعد إطلاق سراح عمر من السجن نتيجة عدم كفاية الأدلة وقد تحول عبر السنوات السبع التي استغرقتها القضية إلى وجه اعلامي وصحافي معروف ، رغم أجتماع شمله مع اسرته إلا أنه يشعر بتلك الحالة من الخواء وفقدان الذات خاصة في ذلك المشهد الرائع الذي يرى فيه ابنه الصغير لاول مرة وقد تركه وعمره شهور قليله وعاد وقد بلغ سبع سنوات فإذا بأبنه يقول لهم “هذا السيد احضر لي هدية ” مشيرا إلى اباه وفي اللقطة التالية نراه يعتصر قطعة من القماش في فمه كي لا يصرخ ألما من كلمة السيد بدلا من كلمة “بابا” التي كان ينتظرها من ابنه .
في فيلم “عمر قتلني “، اتهام مباشر لنظام العدالة الفرنسي من قبل الممثل الذي تحول إلى مخرج رشدي زم . يوجه المخرج زم تحقيقه الخاص لرسم صورة رداد ، وهو أب مغربي بالكاد يتحدث الفرنسية أدين بجريمة قتل لم يرتكبها . ويصور الفيلم كيف حاول عمر الردّاد أن يشرح للمحققين أنه بريء . المخرج يغوص في حياة كل من مدام مارشال وعمر الرداد. الأولى مثقفة معتدة بنفسها، من عائلة ثرية في مدينة صغيرة بورجوازية، تعيش في فيلا واسعة، ولها جذور عائلة تاريخية معروفة في سلك القضاء والسياسة. والثاني بستاني أمي ترق لحاله وتعطف على أمثاله الطيبين، له عائلة مغربية متواضعة ولا ينشد توفير لقمة العيش لعائلته. لكن الجريمة ستجعل الكل يكتشف أن مدام مارشال سيدة يسارية الفكر وذات أراء ليبرالية خاصة، وتحفظ أسراراً لا أحد سيكتشفها .