رحيل تمثال الحريّة إلى غزّة
بقلم: علي فضيل العربي
تمثال الحريّة – الموجود في جزيرة الحريّة بمدخل ميناء مدينة نيويورك (يورك الجديدة) – الذي صمّمه المهندس الفرنسي فريدريك بارتولدي، عمل فنّي قدّمه الشعب الفرنسي هديّة إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة يوم 28 أكتوبر / تشرين الأول عام 1886 م كتذكار لتوثيق الصداقة بين البلدين بمناسبة الذكرى المئويّة للثورة الأمريكيّة (1775 – 1783). والغريب في الأمر، أنّ هذا التمثال الفرنسي المولد والأمريكي المنشأ، الذي رُحّل وشُحن عبر سفينة إلى مدينة نيويوك يوم 17 يونيو / حزيران عام 1885م، وافتتحه الرئيس الأمريكي غروفر كليفلاند يوم 28 أكتوبر / تشرين الأول 1886 م، قد عبّر من خلال ملامحه الخارجيّة عن التحرّر من العبوديّة والقهر واستبداد الحكّام. كما جسّد سيّدة بالروب الروماني الأخضر، وهي تمسك شعلة الحريّة بيدها اليمنى، وكتابا بيدها اليسرى نُقش عليه بأحرف لاتينية (رابع يوليو 1776 م) تاريخ إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكيّة، بينما تضع على رأسها تاجا يرمز إلى البحار السبعة أو القارات السبع في العالم. وقد نصبت دول غربية على منواله تماثيل للحريّة من نسل التمثال الأم في نيويورك، من بينها: فرنسا وألمانيا وإيطاليا والنمسا واليابان وغيرها. ألا ما أغرب فلسفة الغرب، وما أغبى ساسته وعساكره. لقد صدق قاشد ملحمة ديان بيان فو، الجنرال الفيتناميي جياب، حين وصف الاستعمار (الاستدمار) بأنّه (تلميذ غبيّ). هل كان المهندس الفرنسي فريدريك بارتولدي الذي صمّم تمثال الحريّة، يدرك أنّ عمله الفنّي – الذي رمز به إلى (الحريّة تضيء العالم) – سيفقد معناه بمرور الزمن، في بلد تمارس الظلم والاضطهاد وتفرض سياستها بقوّة الحديد والنار على الشعوب المستضعفة، وتعطّل بحق (الفيتو) قرارات مجلس الأمن لوقف الإبادة الجماعيّة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزّة أمام أعين العالم، وتسفّه أحكام محكمة العدل الدوليّة، التي أدانت تلك الجرائم البشعة في قطاعي غزّة والضفة الغربيّة ؟ هل كان السيّد المهندس الفرنسي، على علم بأنّ نصب تمثاله كان في المكان الخطأ كما كان في الزمان الخطأ ؟ ماذا سيكون موقفه وردّ فعله وهو يشاهد تحفته الفنيّة في قبضة دولة مارقة، بينها وبين الحريّة بضع سنين ضوئيّة ؟ إنّ الحريّة لا تُخلّد في ألفاظ بديعة وعبارات رومانسيّة وتماثيل من رخام أو مرمر أو فضّة أو ذهب، تُوهَب لشعب دون آخر أو أمّة دون أمّة أخرى، بل هي حقّ فطريّ وإنسانيّ. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا).
لقد أهدت فرنسا الاستعماريّة تمثال الحريّة في الوقت الذي كانت فيه قواتها المتوحّشة تبيد الشعب الجزائري في عقر داره، وترتكب أبشع الجرائم في الجزائر، وتدكّ مدافعها مئات القرى الآهلة بالسكان، ولم ينج من وحشيتها الحيوان والشجرو الحجر. أجل، لقد كانت فرنسا الاستعماريّة تعلم أنّ (الولايات المتحدة الأمريكيّة)، قامت على دماء الهنود الحمر والعبوديّة والتمييز العنصري ضد الأفارقة المهجّرين في سفن العبيد عنوة وقهرا.
و ها هو التاريخ الدموي الأمريكي والفرنسي والنازي والفاشستي يتجدّد – اليوم – في فلسطين، ويتّبع الأخلاف دروب الأسلاف. وتنفّذ الصهيونية العالميّة ما جاء في بروتوكولاتها المجنونة، القائمة على العنف والإرهاب والمكر والحرب، الهادفة لغزو العالم والقضاء على النصرانيّة والإسلام وكلّ القيّم الإنسانيّة.متى يستيقظ العالم ويدرك أنّ الفلسفة الصهيونيّة خطر داهم، ما بعد خطر، على اليهود والنصارى والمسلمين.
كنت، فيما مضى، أعتقد، إلى حدّ اليقين، بأنّ المدنيّة الغربيّة ستنقذ البشريّة وتحميها من الكوارث والجوائح المدمّرة والحروب الفتّاكة والنزاعات الرعناء، في ظلّ الفتوحات العلميّة الباهرة، والتطوّر التكنولوجي العارم. لكنّ ظنّي خاب، وسقطت أمنياتي في وحل الواقع المرّ. وكنت أظنّ، أن مأساة البشريّة في القرون المنصرمة، بل ومنذ فجر التاريخ، سببها المباشر غلبة الجهل على العلم، غير أنّ مأساة غزّة أبانت لنا عن حقيقة، كنّا من قبل نشكّ في مصداقيتها، ألا وهي أن العلم وحده، ودون القيّم الأخلاقيّة، لا يمكن أن يحلّ الأزمات ويحقّق الأمن والرفاهيّة للإنسان المعاصر. لقد أباد الغرب المتصهين عشرات الآلاف من الفلسطينيين، مستخدما أبشع الوسائل الحريّة التي توصّلت إليها مخابره العلميّة المتطوّرة. وها هو الغرب ينفق على البحوث العلميّة المميتة أضعاف ما ينفقه على المشاريع السلميّة. إنّ ما ألقته الولايات المتحدة الأمريكيّة وو ما ألقاه الكيان الصهيوني المصطنع من قنابل مدمّرة على أهل غزّة،
و كان أملي، ونحن في القرن الواحد والعشرين، وقد بلغ الإنسان المعاصر سنّ الرشد القانوني، واستطاع أن يُوجِد لنفسه منابر سياسيّة راشدة، ويؤسّس مجالس أمميّة لفضّ النزاعات بين الدوّل والأمم، ويطوي الصحائف السود من تاريخ البشريّة إلى الأبد، ويعيش هذا الإنسان المعاصر في كنف السلم والتعاون والتكافل وحماية الضعفاء من غطرسة الأقوياء وحماقاتهم. لكنّ، شتّان بين الآمال المعسولة وسواد الواقع الذي نعيشه، والذي فرضته أمم رفعت شعارات، الحريّة والأخوّة والمساواة، ادّعت أنّها حارسة حقوق الإنسان والحيوان.
ما يجري في غزّة، من إبادة جماعيّة ممنهجة ومقصودة عن سبق إصرار وترصّد، تعجز الألسنة الحرّة عن توصيفه وتصنيفه وتبريره. جرائم هوجاء، بشعة، برعاية الولايات المتحدة الأمريكيّة وبطانتها من العجم المتصهينين وثلّة من الأعراب المطبّعين. لقد جمعوا لأهل غزّة الأبرياء، المسالمين، من النساء والأطفال والصبيان الخدّج والمرضى، كلّ وسائل القتل والإبادة، وأوقدوا لهم محرقة صهيونيّة، نازيّة، فاقت محارق التاريخ كلّها. يبدو أنّ الصهاينة هم خير خلف للنازيين. هم تلاميذتهم المجدّون، منهم تعلّموا فنون حرق الأبرياء وإبادتهم بشتى الوسائل الجهنّميّة، البربريّة.
كلّما أطلقت العنان للبصر ناحيّة الغرب، وعبرت نظراتي أهوال المحيط الأطلنطي، وأبصرت تمثال الحريّة هناك، منتصب القامة، مرفوع الهامة، يده ممدودة بشعلة الحريّة، انتابني إحساس بالأسى، وغمرني شعور مرارتها علقم، ورددت في همس ممزوج بطعم المرارة: أليس من الغباء والقرف والنفاق والعبثيّة والسخريّة والخديعة، أن يكون موضع هذا التمثال البريء هنا ؟
من العار والشنار أن يُنصب تمثال الحريّة على أرض مغتصبة بقوّة الحديد والنار، أرض ارتوت بدماء أهلها وأبنائها الحقيقيين. أولئك الهنود الحمر، الذين نُفّذت فيهم أبشع إبادة جماعيّة عبر التاريخ المنصرم والحقب المظلمة. من الزور والمخادعة أن تدّعي الولايات المتحدة الأمريكيّة بأنّها حارسة الحريّة وحقوق الإنسان، ويمنحها العالم المخدوع شرف احتضان تمثال الحريّة ومقرّات المجالس الأمميّة، كمجلس الأمن، الذي لم يعد راعيا للأمن العالمي، بقدر رعايته لمنطق الظلم والحرب والدمار.
أليس من أولى الأولويات أن يرّحل تمثال الحريّة من المكان الخطأ، إلى المكان المناسب. ولا أرى، اليوم، مكانا أفضل له من غزّة الأبيّة. إنّ غزّة – التي تجري هذه الأيام دماء أبنائها ودموعهم أنهارا – تستحقّ احتضان تمثال للحريّة الحمراء، تشعّ منه أنوار الصبر السلام. تمثال يذكّر الأجيال القادمة بهمجيّة الصهاينة العنصريين، الدمويين، الذين داسوا على كلّ القيّم الإنسانيّة والدينيّة والشرائع السماويّة التي بشّر بها أنبياء الله وسله ؛ إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
إنّ بقاءه في الولايات المتحدة الأمريكيّة عار ما بعده عار. فلو نطق، واستُمِع لرأيه، لرحّل اليوم قبل الغد. إنّه يشعر بأنّه سجين وأسير وغريب الوجه واليد واللسان. إنّه يقول: إنّ وجودي هنا غربة أبشع من غربة المسيح بين اليهود.
ما معنى أن يُنصّب تمثال الحريّة في بلد يعادي حريّة الشعوب، جهارا، نهارا، سرّا وعلنا، ويدعم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ويتاجر، سياسيا واقتصاديا، بالقيّم الإنسانيّة ؟ أليس من المفارقات العجيبة أن تحتضن الولايات المتحدة الأمريكيّة مجلس الأمن، وتُمنح حقّ النقض (الفيتو) إلى جانب الدول الأربعة الأخرى، وهي التي أبادت شعوبا وقبائل ودمّرت مدنا وقرى عن بكرة أبيها ؛ في اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق، وهاهي اليوم تبيد غزّة العزّة ؟ فعلا، إنّها لمفارقة عجيبة، أن يُلبس المجرم جبّة القاضي، ويُنتظر منه تحقيق العدل بين الجاني والمجني عليه.
لقد آن الأوان أن ينتفض العالم الحرّ انتفاضة عنقائيّة، قبل أن يدمّر المجانين كوكب الأرض، ويبيدوا البشريّة، وينقذ تمثال الحريّة من أسره، وينصف المؤمنين بالحريّة قولا وفعلا. وينهي مسرحيّة الزيف والنفاق والكيل بمكيالين ويسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقيّة، ويضع الأمور في نصابها، فمن الحكمة وضع الأشياء في مواضعها. إنّ أحرار العالم ينتظرون – بشغف – ترحيل تمثال الحريّة من خليج نيويورك إلى مدينة غزّة، لتفنيد الأكذوبة الأمريكيّة حول الحريّة.
***
روائي وناقد جزائري