المسلسل السوري ” أغمض عينيك … لتراني ”
دراما تحمل معاني نبيلة وقيم إنسانية
علي المسعود
إضطراب طيف (التوحد) حالة عصبية تستمر مدى الحياة تظهر في مرحلة الطفولة المبكرة، تؤثر هذه الحالة العصبية بشكلٍ كبير على تطور وظائف العقل في ثلاث مجالات أساسية : التواصل واللغة ، المهارات الاجتماعية والقدرة على التخيل . الدراما والسينما العالمية حفلت بأعمال أحتفت بأصحاب اضطرابات طيف التوحد وقدمت جوانب كثيرة من حياتهم وألقت الضوء على مدى اختلاف كل حالة عن الأخرى، منها فيلم ( رجل المطر ) بطولة الممثل داستن هوفمان مع توم كروز عام 1988، وكذالك الفيلم الهندي ( أسمي خان) ، من بطولة شاروخان في عام 2010 ، رزوان خان مسلم هندى يعاني من مرض التوحد، بعد وفاة أمه ينتقل إلى الولايات المتحدة ليقيم عند أخيه ذاكر، تناول الفيلم المطبات التي يقع فيها البطل جراء براءته الشديدة والتي أوصلته في النهاية إلى أن بات متهماً بالإرهاب ويكافح طوال العمل ليثبت تعرضه للظلم بسبب عدم تمكنه من الدفاع عن نفسه، نظراً إلى العوائق التي تواجهه في الحديث والحركة والاستيعاب وغيرها من الأعمال السينمائية ، وانسحب على الدراما التلفزيونية بطبيعة الحال التي اهتمت بتناول الأمراض العضوية بصورة معمقة في حين كان الجانب النفسي بعيداً . كانت هناك أيضاً محاولات أخرى جادة لتقديم معاناة ذوي الحاجات الخاصة من خلال الدراما، إذ تم التركيز عليهم في المسلسل السوري “وراء الشمس” 2010، وجسد الفنان بسام كوسا شخصية مريض التوحد بصورة مقنعة ومؤثرة في العمل الذي أخرجه سمير حسين وكتبه محمد العاص، وكانت معاناته ذات أبعاد عدة بينها نظرة المجتمع وصعوبات التعامل وكذلك أنه من أسرة فقيرة لديها تحديات اقتصادية، فضلاً عن أزمة مرضه الذي يحتاج إلى رعاية واهتمام من نوع خاص . وأخرها المسلسل المصري( حالة خاصة ) عام 2024 بطولة الممثل الشاب ( طه الدسوقي ) الذي جسد شخصية نديم ، وهو شاب مصاب بالتوحد ويمتلك قدرات ذهنية ومهارات خاصة ولكنه يعاني صعوبة في التواصل مع الآخرين .
مسلسل أغمض عينيك تراني” عرض في رمضان 2024 ، هذا العمل من تأليف : أحمد الملا و لؤي النوري وسيناريو وحوار فادي المنفي ومن إخراج ( مؤمن الملا ) ، وشارك في المسلسل أبزر النجوم السوريين، ومنهم : عبدالمنعم عمايري، أمل عرفة، فايز قزق، أحمد الأحمد، وفاء موصلي، محمد حداقي، حلا رجب والطفل زيد البيروتي . والأهم أعاد هذا العمل الفنانة منى واصف إلى الدراما السورية بعد 5 سنوات من الغياب، بعد أن انشغلت في السنوات الخمس الماضية في المشاركة بأعمال عربية وأخرى مشتركة . المسلسل دراما اجتماعية مجسدة للواقع السوري والعربي بشكل عام ، وتدور أحداث العمل حول طفل يصارع مرضه وما يترتب على ذلك من تبعات عائلية ومحاولة والدته تأمين حياة طبيعية ومستقرة له ، بالإضافة إلى مجموعة من القصص والأحداث الاجتماعية المشوقة والتي تتقاطع مع حياة الأسرة في ظروف مختلفة . المسلسل يتطرق الى حالة الطفل جود ابن حياة التي جسدت الشخصية باقتدار الممثلة ( أمل عرفة) ، يعاني الطفل من اضطراب طيف التوحد . تحاول والدته دعمه ومساندته كي يتغلب على المشكلات التي تواجهه في التعامل مع من حوله مع غياب الأب . وتدور أحداث العمل خلال فترتين زمنيتين، لنرى خلال المرحلة الثانية كيف تتغير مصائر الشخصيات في دراما إنسانية تسلط الضوء على جوانب من حياة السوريين تحت تأثير ظروف اجتماعية ضاغطة .
تطل في بداية الحلقات أمل عرفة بدور الأم، تسعى إلى تحسين أوضاعها المادية بقصد رعاية ابنها الوحيد الذي يعاني من اضطراب طيف التوحّد ، في أحد المشاهد ، في بداية الحلقات من المسلسل ، يضيع ابنها في أحد الأسواق، تركض حياة كالمجنونة تبحث عن ابنها المصاب بطيف التوحد حين يتوه عنها بمشهد عالي الإحساس، كانت بسيطة عفوية أوصلت الفكرة ومشاعرها كما يجب أن تكون، لا عويل ولا لطم على الخدود ولاتهريج . حياة (أمل عرفة ) تتورط عن غير قصد في قضية تهريب أدوية مخدرة، تتمكن “حياة” من الهروب برفقة “سليم” الذي يؤدي دوره محمد حداقي إلى بيروت، بعد أن كشفت السلطات الأمنية وجود أعمال”غير مشروعة” في الشركة التي يعملان بها. وبعد القبض عليها تودع السجن ويُحكم عليها بالحبس لمدة 15 عاماً ، بعدها يتغير مصير طفلها ( جود) ، وحين يصطحب عبد المنعم عمايري “مؤنس” جود ابن حياة إلى بيت جده بناء على طلب “حياة” لحين معرفة مصيرها ، يواجه يرفض استقبال جود أو قبوله من قبل الجد ( أبو رجا) الذي يؤدي دوره الفنان القدير فايز قزق ، بل يمنع جدته ( منى واصف ) من التواصل او حتى السؤال عنه . لذا يصبح الطفل في مسؤولية المدرس المتقاعد مؤنس ويقوم بدوره الفنان القدير (عبد المنعم عمايري) الذي أصبح وحيدا بعد فقدانه زوجته وابنه الصغير في حادث سيارة ، وتقع هذه المهمة الشاقة على عاتق “مؤنس” الرجل الخمسيني الذي يعمل أستاذ رياضيات وتتّسم سلوكياته باللطافة والمسالمة والودّ نحو الجميع، يتشكّل بين جود ومؤنس رابط قوي ، ويصبح الطفل جود بعهدة المدرس مؤنس بعد رفضه من قبل جده فايز قزق ( أبو رجا) رغم تعلق جدته به منى واصف التي تدفع ثمن هذا التعاطف مع الحفيد بعد سجنها وحبسها في البيت من قبل الجد الرافض للبنت اولا والطفل جود ، في احد المشاهد تطلب منه الجدة ان يحن على هذا الطفل البرئ وتطلب منه أن يغمض عينيه ليراه في قلبه وسوف يجده جميلا وبريئاً مثل النسمة .
إيقاع المسلسل يذكرنا بابداع الدراما السورية ، ايام الراحل حاتم علي ورائعته ( زمن الفصول الأربعة ) أو مسلسل ( طريق النحل ) أو (عصي الدمع ) أو ( أشواك ناعمة ) أو ( زمن العار ) ، وغيرها من الاعمال السورية المطبوعة في ذاكرة المشاهد العربي . سيطرت التلقائية في الأداء على الممثلين ، وبالطبع كانت الممثلة المجتهدة ( أمل عرفة) متميزة في أداءها لشخصية (حياة ) كانت الأم لطفل يعاني من طيف التوحد ذاك المرض الذي يحتاج لرعاية خاصة جداً جداً والذي لعبه الطفل ( زيد بيروتي )، بمنتهى الإبداع وتبشر بولادة نجم من نجوم المستقبل . عبدالمنعم عمايري استعادة الحضور الغائب ، هذا النجم ذو التاريخ الطويل المتنوع بالأدوار الجميلة ، غاب عن الشاشة بمثل هكذا أدوار لكنه عوّض ذلك الغياب بحضور آسر تشد له العيون . السنديانة منى واصف الزوجة المنكسرة والأم الفاقدة للبنت والحفيد التي تتمنى عودتهم الى احضانها من دون أن تقل من هيبة الرجل ، تبقى مكتوية بنار الغياب و تحاول التواصل مع إبنتها عند سرقة الحديث من خلال الهاتف المحمول معها . فايز قزق الحاضر دائماً بخبرة السنين الطوال بالقوة و الجبروت لكن هذه المرة أبو رجا القاسي و النافي لأولاده الرافض أبنته ( حياة ) والابن جود، دون أن يرف جفنه أو يطيب له خاطر ، ولعل شخصية ( سلام) التي قامت بادائها الفنانة (حلا رجب ) تميزت في الهدوء الذي يخفي وراءه ضجيجاً واسعاً من الأفكار المشتتة الناتج عن النشوء في عائلة غير متزنة والدتها ( وفاء موصلي ) المريضة نفسياُ ، لتقدم حلا شخصيتها تلك بانفعالات مدروسة لا جموح مبالغاً فيها بل صمتاً مستفزاً وتعابير عينين مقروءة جيداً للمشاهدين وصلت لقلوبهم بسلاسة . رغم أنانيتها التي إنكشفت حين ضحت بحبيها الصادق يامن ( جابر جوخدار ) من أجل المنحة الدراسية . أحمد الأحمد الذي شاهدناه في هذا الموسم ( االمقدم رياض ) في مسلسل كسر عظم 2 ، نشاهده في هذا المسلسل يلعب شخصية جديدة يلعبها هذا النجم في شخصية ( زوربا) المرادفة لبطل رواية الكاتب اليوناني ( نيكوس كوزانتاكيس) الذي يحب الحياة ويجيد فن عيشها. الممثل جابر جوخداريؤدي في العمل شخصية “يامن” العقلاني المتوازن والمحب للآخرين، إذ يتمتع بمشاعر وجدانية عميقة تجعله يحمّل نفسه مسؤولية تحقيق أحلام الأطفال المصابين باضطراب “طيف التوحد “. جابر جوخدار وحلا رجب حلاوة الحكاية المرة ، ثنائي محبوب جمعهما الحب و رعاية الأطفال ، بالحب تصنع كل شيء، ثنائيتان جديدتان للمشاهد لكن نجومها من المحاربين المعروفين ببساطة الأداء و الحضور الجميل و اللطافة ولكن للأسف لم يكملا المشوار معاً .
في المرحلة الأولى من العمل استطاع الطفل زيد البيروتي أن يخطف قلوب متابعي مسلسل “أغمض عينيك” ببساطة وعفوية أدائه، وكذلك أبدع الممثل الشاب (ورد عجيب ) في أداءه لدور “جود” في مرحلة المراهقة وأتقانه لحركة اليدين والعينين وعلاقاته مع زملاءه وزميلاته في الجامعة . خطف الممثل الطفل زيد البيروتي الأنظار في موسم دراما رمضان الحالي بموهبته التمثيلية، بعد ظهوره في مسلسلي ولاد بديعة و أغمض عينيك ، وقدم زيد دوراً مميزاً في مسلسل أغمض عينيك ، إذ أدى دور طفل مصاب بالتوحد ، وتسعى والدته أمل عرفة لتأمين حالة الاستقرار النفسي لديه . كان التفوق كبير للطفل زيد البيروتي بحضوره بشخصية “جود” في ” أغمض عينيك ” وتبنيه للحالة المرضية من حركة اليدين للاضطراب الجسدي والنباهة ودرجة التفاعل مع المحيط، وما أجمل من مشهد تردده في المسرحية قبل دخول أمه وندائها .
وأشير هنا الى مشهدين في المسلسل ، المشهد الاول ، عند زيارة الأم ( أم رجا ) الى السجن لمواجهة أبنتها حياة ( أمل عرفة ) وكان بحق درساُ كبيراً في الأداء من الممثلة القديرة منى واصف لما يحمله من صدق وأحساس عالي ، أم رجا” تفتح قلبها لابنتها، وتؤكد أنها لن تسكت على ظلم زوجها “أبو رجا”، وبعد عودتها إلى المنزل بدأت تهدد زوجها بعدم الاقتراب من حفيدها “جود”. منى واصف”ام رجا” ظهرت قوية في مواجهة زوجها، من أجل حفيدها وابنتها وقالت له مودعة “بخاطرك يا ضبع الخوف”، الأمر الذي تسبب بأزمة دماغية حادة تسببت بإدخاله العناية المركزة . المشهد الثاني ، عند لقاء الطفل “جود” بوالدته “حياة” أثناء اصطحابه “مؤنس” إلى السجن، وكان تصاعد الاداء وصدق المشاعر بين خبرة الفنانة امل عرفة والطفل ( المعجزة ) زيد بيروتي الذي أدى شخصية جود المصاب بطيف التوحد في مشهد مؤثر ومؤلم إذ يصعب السيطرة عليه وهو ممسكا بيديها، ويحاول “مؤنس” التدخل لكنه يتمالك نفسه ، ويبكي الطفل ويطلب منها عودتها الى البيت .
في النهاية : أرفع القبعة لجميع العاملين في هذا المسلسل ومن الكتابة الى التمثيل والى ألأخراج وصولا الى التصوير واختيار الموسيقى والمقدمة الجميلة لهذا العمل ، ولابد من الاشارة الى تنفيذ الشارة و صوت المطربة مايا زين الدين المرافق لشارة البداية للمسلسل الجميل الهادئ مع موسيقى مانو ، “أغمض عينيك تراني ” عمل متميز في هذا الموسم الرمضاني موجه للعائلة تماماً كما كانت عودتنا الاعمال السورية المتميزة ، بعيداً من عالم المخدرات والعنف والخيانة وعنتريات الحارة ، عمل يحمل عمقاً إنسانياً ويخاطب وجدان كل مشاهد في منزله، النص مكتوب بحرفية عالية . كما أن فكرة مسلسل “أغمض عينيك” تحمل معاني نبيلة وقيم إنسانية .
* كاتب عراقي
مقيم في المملكة المتحدة