ما يحدث منذ عقدين من الزمن في العراق، بلاد أرض السواد، كما كان يطلق عليها في عصور مضت لأن أرضها الممتدة بنخلها وحقولها الخضراء على طول مساحاتها الجغرافية تبدو وكأنها بساط أسود، من ظلم واحتقار للإنسان وقيمه ومستقبله، يجعل كل نص ثقافي أو قانوني أو فلسفي يتعثر أمام وطأة الغش والظلم والمآسي ومصائبها النفسية التي يتحملها الغالبية العظمى من العراقيين منذ عقود، أسوءها، منذ غزو بلادهم عام 2003 وتأسيس نظام حكم طائفي شعبوي .
ففي زمن مليء بالتحديات والتغيرات المجتمعية والانتهاكات الإنسانية، يتجلى واقع الإنسان العراقي في أشكال متعددة. فحياته ليس مجرد سائل يروي عطش الجسم، بل هي مرآة تعكس حالة النظام السياسي ومدى احتقاره للإنسان وقيمه. وسبيل الحياة أصبح للكثير جزء لا يتجزأ من ذلك الواقع. ولكن ما يثير القلق هو تحول هذا الواقع إلى مصدر مستمر للظلم والاحتقار وعدم المساواة. وفي الكثير من الأماكن يتم في بلاد الرافدين، استغلال الإنسان بطرق لا أخلاقية، حيث تحجب الفئات الأضعف وتحويلها إلى وسيلة لتحقيق مآرب شخصية لقلة على حساب الأكثرية. حيثما ينتشر الظلم ليروي عطش المتسلطين فيما تدمر حياة الملايين من الفقراء والجياع والمحرومين وأصحاب الدخل المحدود.
في هذا السياق والحال لاتزال كما هي عليه منذ ستة عقود، علينا أن نتساءل: هل بقي ثمة قيم إنسانية وأخلاقية تنقل العراق من مظاهر شيوع لبس السواد في إحيائه، إلى فضاءات مزدهرة ؟. بناء على ذلك، نجيز الدفع بالسؤال الأهم: هل هذا هو المستقبل الذي كنا ننتظره والأجيال القادمة من بعد سقوط نظام صدام الديكتاتوري؟. بالتأكيد لم يتوقع المجتمع العراقي أن يصل به الحال إلى هذا المنزلق السلطوي والسياسي الذي لم يشهده منذ تأسيس الدولة العراقية، لولا انبطاح الأغلبية الصامتة أمام المفسدين وانعدام ثقافة المساءلة.. إن قبول الأزمات وتحمل ثقل شدائدها، يشكل التناقض الصارخ في كيفية التعامل الجمعي مع طبيعة الحكم، وانهيار المقدرة على التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي أو تحقيق التوازن السياسي والاستقرار. الأمر الذي نتج عنه استئثار العناصر الفاسدة بالسلطة والدفع بهم إلى الواجهة السياسية لهدم الدولة وكل أسس تحقيق العدالة وسلطة القانون…
في مجتمع يفترض أن يكون فيه القادة والأحزاب السياسية نموذجا للنزاهة والشفافية إنما في بلد كالعراق، فهذه المنظومة لا تمتلك أية قيم تحسن إدارة شؤون الدولة أو تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة أو ضمان حقوق المواطنين العامة ومحاربة الفساد. همها المثير للجدل، فقط، هو البقاء في السلطة باي ثمن. لأجل ذلك تمارس كل أنواع الكذب والنفاق السياسي كما وتطلق الوعود والتصريحات الزائفة التي لم تعد تنطلي على أحد ولا تتماشى وحقيقة أفعالها. إذ إنها، تدرك جيدا بأن واقع حالها لا يستطيع تحقيق إلا ما يتماشى مع أهداف ومصالح أحزابها الفئوية والعقائدية. بمعنى آخر، إن وعود هذه المنظومة، قد يبدو واقع مألوفا، لكنه في علم السياسة ليس سوى نوع من المكر لما وراء الأوهام ولعبة روليت من النفاق لتحقيق مآرب سياسية، عندما يتحول الكذب إلى سلاح يستخدم لخداع المواطنين وجعلهم يؤيدون أجندات لا تحقق شيئا ولا تخدم إلا القلة الحاكمة بعيدا عن المصالح الوطنية للدولة والعامة من الشعب…
إن تغيير واقع الحكم من شيء سيئ والانتقال إلى حكم أفضل، يتطلب النظر في عدة جوانب سياسية وفكرية، والأهم، تعزيز ثقافة المشاركة الجمعية للقوى المدنية. أيضا ابتكار خطط مركزة المساعي لتنشيط الذاكرة التوعوية وتشجيع الوعي لإدراك أهمية الدفاع عن الحرية وحق كل إنسان في الوصول إليها بشكل عادل ومتساو. فالحرية ليست فقط موردا استراتيجيا، بل هي حق أساسي يجب أن يكون مضمونا لكل إنسان، بغض النظر عن خلفيته العقائدية أو مكانته الاجتماعية. وفي النهاية، يجب على جميع قوى ومؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية بما في ذلك الأغلبية الصامتة داخل أوساط المجتمع العراقي المتعدد الثقافات، أن تسعى حقا لتغيير البوصلة السياسية بما يؤسس لوحدة التضامن والهدف، حيث تتدفق المساعي بحرية كمصدر للحياة وليس وسيلة لتحقيق مكاسب نفعية ضيقة، بما يسمح ذلك توفير بيئة حاضنة للابتكار والريادة لتحقيق تطلعات المجتمع. عندئذ سيشكل مبدأ احترام حرية الإنسان والقيم الأخلاقية والقانونية أساس بناء مجتمع يعتبر فيه العدل موردا مقدسا يجب حمايته وتوزيعه بشكل عادل، لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة…