لا أدري كيف أُسمّي عماء وإسراف مّمن يُعرفون بِ ( أئمّة المفسرين ) وتعسّفهم في تفسير آيات القرآن أو بعض ما ورد به من كلمات وليّهم للحقائق لكي يؤكّدواأنَّ القرآن كتاب مقدّس نزل من السماء على محمد وحياً بواسطة المَلَك جبريل لذا لا يأتيه الباطل من أية جهة كانت ولا مكان فيه لأي خطأ أو إنحراف عن اللغة العربية القياسية نحواً وإعراباً واشتقاقاً ومعانياً. لذا صاروا يُبررون ويتفيقهون ويشتطون ويشرّقون ويُغرّبون ولا يملّون مما اقترفوا من هلوسات ودجل ومخالفات لوقائع الأمور. أضرب أمثلة ومصدري هو :
( نظرية اللغة في النقد العربي / عبد الحكيم راضي. المجلس الأعلى للثقافة الطبعة الأولى 2003 م ).
1ـ ورد في الصفحة 229 ما يلي :
… وبالرغم من هذه المكانة التي نُسبت إلى ظاهرة الإعراب لم تسلمْ علاماته ـ هي الأخرى ـ من عمليات كثيرة من الإنتهاك، أمّا النُحاة فقد راحوا يُعللونها غالباً بإغناء القرائن عن العلامات في توضيح المعنى. وأما البلاغيون فكان لهم مسلكٌ آخر في تخريج هذه الإنتهاكات، وأشهرها نصب الكلمة في سياق يستدعي خلاف النصب أو بالعكس برفعها في سياق يستدعي خلاف الرفع. وذهب الزجّاج ( ت 311 ) إلى إمكان النصب والرفع على المدح في قوله تعالى ـ الفاتحة ـ 1 [ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين ] بنصب ربّ ورفعها ـ فقال : إنَّ مَن نصبه ” فإنما ينصبه لأنه ثناءٌ على الله جلَّ وعزَّ، فقولهُ [ ربَّ العالمين ] كأنه قال : [ أُذكرْ ربَّ العالمين ] وإذا قال [ ربُّ العالمين ] بالرفع فهو على قولك : [ هو ربُّ العالمين ]. يا ناس ! لماذا ينصبون أو يرفعون المجرور ولأيّما غاية ومن كلّفهم بإتيان ذلك ؟ يبررون حالة النصب بأنه ثناء على الله! هل طلب الله ذلك منهم ثمَّ أما في حمد الله كفاية { الحمدُ للهِ } ؟ إخجلوا يا ناس. إستحِ يا الزجّاج أنت وأمثالك. الآية واضحة وبسيطة وكافية وافية بشكلها الذي وردت فيه مُتسقة مع قواعد اللغة العربية ولا عِوَج فيها : الحمدُ للهِ ربِّ العالمين … ربِّ بدل من الله والله مجرور بالإضافة.
2ـ مثال آخر على الصفحة 230 : ( .. وذهب إبن جنّي إلى نحوٍ من هذا في البسملة حيث يجوز [ بسمُ وبسمِ الله الرحمنُ الرحيمُ ] برفع الصفتين جميعاً على المدح. ويجوز [ الرحمنَ الرحيمَ ] بنصبها جميعاً عليه ، ويجوز [ الرحمنَ الرحيمُ ] بنصب الأول ورفع الثاني كل ذلك على وجه المدح ). لك الخزي يا ابن جنّي ! أما يكفيك ما فيك وفي أصلك من جنون حتى تعتوَ وتُسئَ إلى القرآن والدين واللغة العربية وإلى قراء القرآن ؟
3ـ وإلى مثل ما قال إبن جني في الفقرة السالفة نقرأ في الصفحة 231 ما يلي : ( وهذا هو المعنى الذي دار حوله الشريف المرتضى في أماليه في سياق حديثه عن بعض مواضع النصب ومواضع الرفع ـ حيثُ يقتضي الإعرابُ خلافهما ـ في آية البقرة 177 … إذْ يُصرِّح بأنَّ النعتَ إذا طال رُفِع بعضه ونُصبَ بعضه على المدح). مصيبة يا ناس ! يخالف المدح والذم إذا طالا قواعد اللغة العربية فأية قوة سحرية يمتلكان ولماذا هما مُستثنيان ومتميزان ولأية ضرورة وكيف تكون علامة النصب دليلاً على التعظيم ؟ أرى العكس إذْ أنَّ علامة الرفع أنسب لتعظيم الممدوح مثلاً لأنَّ فيه مغزى الإرتفاع وعلوّ المكانة والشموخ. في الصفحة 232 نقرأ كلاماً منسوباً لإن جنّي يقول ” إنَّ العربَ قد تحمل على ألفاظها لمعانيها حتى تُفسِدَ الإعراب لصحّة المعنى ” ! لا يذكر هؤلاء المفسرون مصادرهم لما يدّعون إنما ديدنهم الإحتماء وراء إدعاءات غامضة من قبيل { قالت العرب أو قيل كذا وكذا أو معروف عن العرب وهكذا }. كيف يُعظَّمُ رجلٌ بكسر قواعد اللغة التي يُخاطب بها وكيف يرضى بذلك ؟ ألا بئسَ هذا النوع من التعظيم وبئسَ مَنْ قد عظّموا. نواصل ..
4ـ نقرأ في الصفحة 470 ما يلي : والواقع أنَّ القول ببلاغة مثل هذه المواضع يندرج تحت مبدأ عام أكثر شمولاً هو بلاغة كل ما جاء في القرآن من ظواهر الإستخدام اللغوي وأساليبه، حتى ما بدا منها مُخالِفاً للمألوف في النظام النمطي للغة. وليس أدل على ذلك من هذا التخريج الذي حَظيتْ به المواضع التي خولِفَ فيها الشكل الإعرابي المعهود. ففي آية النساء [ لكنْ الراسخونَ في العلمِ والمؤمنونَ يؤمنون بما أُنزِلَ إليكَ وما أُنزِلَ من قبلكَ والمقيمين الصلاةَ والمؤتون الزكاةَ ]، وفي آية البقرة [ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضرّاء ] نجد إلى جانب الأقوال الكثيرة، مّما سبقت الإشارة إليه، والتي حاولت إيجاد وجه مشروع في إطار الشكل الإعرابي لتخريج النصب في كلمتي { المقيمين } في الآية الأولى و { الصابرين } في الآية الأخرى نجد محاولة لتخريج النصب على محمل فنّي. وسجّل سيبويه أُولى المحاولات المدوّنة في هذا الصدد فتحدث فيما أطلق عليه { باب ما يُنتصب في التعظيم والمدح } وجعل من ذلك قولهم { الحمدُ لله أهلَ الحمد } و { الحمدُ للهِ الحميدَ هو } ثم قال ” ومثل ذلك قول الله عزَّ وجلَّ { لكنْ الراسخون في العلم … والمقيمين الصلاةَ .. }. وجاء في شرح السيرافي بهامش الكتاب أنه { في إعراب المقيمين وجهان أحدهما أنْ يكون منصوباً على المدح. وذكر ابن قُتيبة قوله تعالى { لكنْ الراسخون … والمقيمين } وكذلك آية البقرة { والموفون بعهدهم … والصابرين } ثم قال ” وقالوا في نصب المقيمين بأقاويل … قال بعضهم هو نصب على المدح. واعتلَّ أصحابُ النحو للحرف فقال بعضهم : هو نصبٌ عل المدح والعربُ تنصب على المدح والذم كأنهم ينوون إفراد الممدوح بمدح مُجدِد غير متّبعٍ لأول الكلام، كذلك قال الفرّاء “.لو أمعنا النظر في كل هذه الأقوال وما أتت به من تخريجات وتفسيرات وتبريرات لرأينا أنَّ الذين برروا الأخطاء اللغوية يُنسبون أقوالهم إلى جهات مجهولة لا يذكرونها لأنهم لا يعرفونها من قبيل [ قال بعضهم ] و [ وقالوا في نصب المقيمين أقاويل ] و [ وجعل من ذلك قولهم الحمدُ لله أهلَ الحمد ]. تُرى من هم هؤلاء الذين قالوا أو قوِّلوا ؟ أجيبوا يا عُتاة ويا علماء لغة وأئمّة تفسير أجيبوا لأنكم قد أسئتم للغة العربية والدين وقرّائكم.
ما منعهم من أنْ يقولوا إنَّ ما ورد في القرآن من إنحرافات عن الأنماط الإعرابية الثابتة هي أخطاء إقترفها ( كتّاب الوحي ) مثلاً من باب السهو أو أنَّ دور نشر القرآن هي التي أخطأت في كتابة بعض آيات القرآن. منعهم إيمانهم الأعمى أنَّ القرآن كتاب مقدّس أُنزلَ على محمد من السماء وأنه كلام الله والله لا يُخطئ !
لا نجد مثل هذه الإشكاليات في كتب اليهود والمسيحيين وأصحابها كذلك يدّعون أنها كتب مقدّسة أُنزلت أو أوحيت لأنبيائهم موسى وعيسى.
5ـ وثَمّةَ مسألة أخرى تُثير العجب والسخرية حيث صال المفسرون وجالوا وشرّقوا وغرّبوا والأمر لا يتطلب كل هذا التشريق والتغريب. أقصد آية صغيرة بسيطة واضحة لا لبس فيها ولا تعقيد ولا إعضال فما الذي حدا بهؤلاء ( الأئمة والفطاحل ) إلى حيثُ أسرفوا وأوّلوا وزادوا وحذفوا وأنقصوا بعض الحروف وبعض الكلمات وأضافوا تفسيرات لا علاقة لها بظاهر ولا بجوهر ولا الهدف الرئيس من هذه الآية. الآية هي الزُخُرف ـ81ـ [ قُلْ إنْ كانَ للرحمنِ ولدٌ فأنا أوّلُ العابدين ]. هل في هذه الآية غموض أو تعقيد أو شئ غريب يستوجب وضع تفسيرات لا علاقة لها بموضوع وهدف هذه الآية ؟ النبي محمد طبعاً كان يعرف إعتقاد المسيحيين أتباع عيسى بن مريم بأنَّ عيسى هو ابنُ الله وقد ورد ذكر ذلك أكثَر من مرّةٍ في القرآن ونفاه القرآن بآيات وصيغ شتّى منها في سورة البقرة الآية 163 [ وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلاّ هوَ الرحمنُ الرحيمُ ] وفي سورة المائدة الآية 17 [ لقد كفرَ الذينَ قالوا إنَّ اللهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ قُلْ فمن يملكُ من اللهِ شيئاً إنْ أرادَ أنْ يُهلكَ المسيحَ ابنَ مريمَ وأُمَّهُ ومن في الأرضِ جميعاً وللهِ مُلْكُ السماواتِ والأرضِ وما بينهما يخلُقُ ما يشاءُ واللهُ على كلِّ شئٍ قديرٌ ]. وفي سورة المائدة الآية 72 [ لقد كفرَ الذين قالوا إنَّ اللهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ وقال المسيحُ … ]. وفي سورة التوبة الآية 30 [ وقالت اليهودُ عُزيرُ ابنُ اللهِ وقالت النصارى المسيحُ ابنُ اللهِ ذلكَ قولُهُم بأفواههم …. ]. في آية ساءلت المسيح بما يشبه المحاكمة بوضعه موضع المتهم إذْ نُسب إليه قوله إنه ابن الله أو إنه ثالث ثلاثة فينفي ذلك بصريح القول ، سورة المائدة، الآية 116 [ وإذْ قال اللهُ يا عيسى ابنَ مريمَ ءأنتَ قُلتَ للناسِ اتخذوني وأُمّي إلهينِ من دون اللهِ قال سُبحانكَ ما يكونُ لي أنْ أقولَ ما ليسَ لي بحقٍّ إنْ كنتُ قُلته فقد عَلِمتُهُ تعلمُ ما في نفسي ولا أعلمُ ما في نفسكَ إنكَ أنتَ علاّمُ الغيوب ]. أخيراً … هل أُذكّر بسورة الإخلاص التي حفظناها صغاراً عن ظهر قلب [ قُلْ هو اللهُ أَحَد. الله الصمد. لم يلدْ ولم يولدْ. ولم يكنْ له كفواً أحد ] ؟ لم يلدْ ولم يولدْ.
هل تكفي هذه البضاعة لأقناع كبار علماء اللغة والتفسير أنْ مواقفهم من آية الزخرف [ قُلْ إنْ كان للرحمنِ ولدٌ فأنا أولُ العابدين ] هي مواقف سطحية وغبيّة ومُسرفة غاية الإسراف فلنرَ ما قالوا وكيف فسّروا. نقرأ في الصفحتين من المصدر 429 و 430 ما يلي :
(( .. ويكشف حديثهم عن قوله تعالى ـ الزخرف ـ 81 ـ [ قُلْ إنْ كان للرحمنِ ولدٌ فأنا أوّلُ العابدين ] عن إستماتة في التخريج لظاهر النص القرآني بعيداً عن كل ما يبعثُ على الحَرَج ، وذلك بالتصرّف في دلالة اللفظ أو تركيبه وفقاً لما هو ممكن. فقال أبو عبيدة : ( إنْ ) في موضع ( ما ) في قول بعضهم ( ما كان للرحمن ولدٌ ) والفاء مجازها مجاز الواو ( ما كان للرحمن ولدٌ، وأنا أول العابدين ) .. وقال آخرون : مجازها ( إنْ كان في قولكم للرحمن ولد فأنا أول العابدين، أي الكافرين بذلك والجاحدين لما قلتم ) وهي من ( عَبدَ يَعْبَدُ عَبَداً ) { 85 / مجاز القرآن 2/ 206 , 207 }. وذهبَ أبو بكر السجستاني في كلمة ( العابدين ) إلى أنَّ معناها عند المفسرين ( الموحّدين ) وعند اللغويين ( الخاضعين الأذلاّء ) { 86، غريب القرآن المسمى نزهة القلوب 123 }. وقال النحاس .. ” إنْ جعَلتَ ( إنْ ) للشرط ف ( كان ) في موضع جزم، وإنْ جعلتها بمعنى ( ما ) فلا موضع لكان، وقد روى عليٌّ إبن طلحة عن ابن عبّاس في قوله تعالى ( قُلْ إنْ كان للرحمن ولدٌ ) قال : يقولُ ( لم يكنْ للرحمن ولدٌ )، قال أبو جعفر جعل ( إنْ ) بمعنى ( ما ) كما قال جلَّ وعزَّ ( إنْ الكافرون إلاّ في غرور ) أي ( ما الكافرون إلاّ في غرور ) { 87، إعراب القرآن المنسوب للزجّاج 1069 }، وذهب مكي إلى أنَّ ( إنْ ) بمعنى ( ما ) ـ والكلامُ على ظاهره ـ و ( العابدين ) من العبادة. وقيلَ ( إنْ ) للشرط، ويكونُ معنى ( العابدين ) الجاحدين لقولكم ( إنَّ له ولداً ). وقيل ( إنْ ) للشرط و ( العابدين ) على بابه، والمعنى : فأنا أول من عبده موحِّداً على أنه لا ولد له { 88، مُشكل إعراب القرآن 560 } .. )) إنتهت الإقتباسات وقد قلتُ رأيي في هذا الموضوع وسأقول رأيي في تفسير هذه الآية:
إبتداءً لا أرى أي إشكال في هذه الآية لا من حيث لغتها ولا من حيث معانيها ومضمونها مباشر وبسيط : يأمرُ اللهُ محمداً أنْ يقول لغير المسلمين من الطوائف الأخرى ولا سيّما طائفة المسيحيين أتباع عيسى والمشاغبين والمتصيدين في المياه العَكِرة أنْ ( لا إله إلاّ الله وأنَّ الله واحدٌ أحدٌ لا شريكَ له وأنه لم يلدْ ولم يولدْ ) وورد هذا الكلام وأمثاله كثيراً في القرآن. في القول ( قلْ إنْ كان للرحمنِ ولدٌ ) إنكار قوي مؤداه إستحالة أنْ يكون للرحمن ولد ( قلْ إنْ كان ) … أما إذا كان بالفعل له ولد فإني، محمد ، سأعبده كما أعبد الرحمن أباه ( فإني أولُ العابدين ). مَن يعبد الأب يعبد الإبن ولكن هيهات هيهات فمحال أنْ يكون للرحمن ولد وإنه صَمَدٌ وإنه لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ له كفواً أحد. لو كان لله ولدٌ لعبدتُ هذا الولد. قد تكون هذه مسألة خلافية دينياً غير مسبوقة بالنسبة للمسلمين ولكن شرطَ أنْ تُناقش هذه الآية كما هي بحروفها وكلماتها دون زيادة أو نقصان. أعني هل النبي محمد يعبد أبناءَ الله ؟ الجواب كلاّ. في القرآن نفي واستهجان شديد لمن يدعي ألوهية المسيح ومن أنه ثالث ثلاثة هم الله ومريم والروح القدس وإنه ابنُ الله ولقد ذكرتُ في الفقرات السابقة في أعلاه ما يكفي من آيات لمواقف محمد والقرآن الذي هو كلامُ الله المُنزل من هذه القضية.
الخُلاصة والعِبرة : علينا أنْ نُعيد النظر في الكثير مما قال الأولون من مفسرين وعلماء لغة ومجتهدين في العديد من المسائل التي تصدوا لها بالتفسير والشرح والإجتهاد فأساءوا للنصوص التي عالجوا كما أساءوا معاً للقرآن وللدين نفسه ولقرّائهم.