فجر إيبيرية
(التاريخ الحاضر الغائب)
د. وليد عويد حسين
تعد الرواية التاريخية واحدة من مرتكزات العمل السردي التي تقوم على وقائع مبنية على معطيات التاريخ، يقوم الراوي بنسج أحداثها بقالب تشويقي يوضح من خلاله أحداث حقبة من حقب الزمن المنصرم بأسلوب يبتعد عن (مهام المؤرخ وسجلاته المعروفة)، والرواية تعد تاريخية عندما تقدم سردًا عن وقائع أو أشخاص حقيقيين، وقد ذهب (ستودارد) إلى أن الرواية التاريخية تمثل سجلاً لحياة بعض الظروف التاريخية.
عمل صاحب رواية (فجر إيبيرية) الدكتور محمود ماهر مدة ليست بالقصيرة في تحبير هذا المنجز القيم، حتى خرج بهذه الحلية القشيبة، ومن تصفحها أدرك مبلغ الجهد الذي كابده الكاتب، فضلاً عن جهد العناية في إدراك تقصي الحقائق، وعمد الكاتب إلى تصوير ما هو جوهري وجدلي في بعض الأحيان من خلال العلاقة القائمة بين الإنسان والزمان والمكان فضلا عن الحدث، تلك العناصر التي لا يمكن لأي منجز روائي القيام دونها …
تدور أحداث فجر إيبيرية في إطار تاريخي مشوق حول حقبة فتح بلاد الأندلس التي بدأت سنة 92هـ الموافقة لسنة 711م على يد القائدين الكبيرين موسى بن نصير وطارق بن زياد ضد مملكة القوط الغربيين التي كانت تحكم شبه الجزيرة الإيبيرية .
تجسد هذه الرواية جوانب تلك الحقبة العظيمة -وما سبقها في الشمال الأفريقي- التي سطّرت انجازاتها في كتب التاريخ، تلك الانجازات والأحداث التي شملت إسبانيا والبرتغال وجنوب فرنسا حيث قرقشونة وأربونة… واستطاع هذا المنجز الروائي أن يعرض المشاهد التي ضمها بين طياته بصور سينمائية عالية الدقة، حيث الانجذاب والتشويق.
سلّطت الرواية الأضواء على معارك وشخصيات وأحداث ربما لم يسمع عنها الكثير إلا من ذوي التخصص الذين سبروا أغوار تلك الأحداث، ومن جملة الأحداث التي سُلّطَ الضوء عليها بحرفية الكاتب المتمكن، حملة العبادلة، التي سميت بهذا الاسم لأنها كانت تضم من تبدأ أسماؤهم ب(عبد الله) أمثال ( عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر) وغيرهم، وهي الحملة التي نظمت من أجل فتح سبيطلة التي تقع على بعد 12 كم اثني عشر كيلو مترا جنوب غرب القيروان لاستكمال فتح الشمال الإفريقي- الممهد لفتح بلاد الأندلس فيما بعد – الذي يضم الأقاليم الممتدة من برقة إلى المحيط الأطلسي غربًا كما ورد في إحدى نظريات الجغرافيين المختصين بالمغرب، وكان لهذه المعركة الدور الكبير والفاعل في إخضاع المدن الأخرى.
ومن جملة الأحداث في فجر إيبيرية كذلك الوقوف على زعيم قبائل أوربة وصنهاجة الأمازيغية (كسيلة بن لمزم) الذي فصل فيه الكاتب الكثير مما يتعلق بشخصيته، فضلا عن المعارك التي دارت رحاها بينه وبين جيش المسلمين، والتي منها ما كان سببًا في استشهاد القائد عقبة بن نافع الفهري بعد معركة فجائية خاضها ضده قرب وادي الأبيوض، وينتقل الروائي إلى مشاهد وأحداث نقل لواء التمرد من كسيلة بعد مقتله إلى الكاهنة (ديهيا) التي كانت إحدى محطات هذه الرواية، التي اجتمع البربر تحت لوائها بعد مقتل زعيمهم، إذ استطاعت ديهيا هزم جيش المسلمين في أول لقاءٍ بينهم عند نهر (نيني) الذي أطلق عليه المسلمون فيما بعد بنهر (البلاء)، وتم قتل ديهيا بمعركة بئر الكاهنة بعد محق جيشها على يد القائد حسان بن النعمان الغساني الذي أعطى فيما بعد ابن الكاهنة ولاية جبل أوراس بعد الوثوق من طاعته، واستطاع الكاتب الوقوف على هذه الأحداث وغيرها بشيء من التفصيل القائم على حرفنة الصياغة السردية وجمالها، وجمعت الرواية في طياتها من الأحداث والآراء التي تتقاطع مع بعض الروايات في المصادر التاريخية من مثل الشخصيتين آنفتي الذكر وما دار حولهما من آراء، فضلا عن حادثة حرق السفن من قبل طارق بن زياد، وحادثة مقتل ملك القوط لوذريق على يده التي تذهب بعض المصادر إلى أنه قتل على يد أبناء الملك السابق غيطشة، والاختلاف في كيفية ترتيب فتح المدن الأندلسية، و كذا اختلاف المسميات في بعض المعارك وغيرها …
منح الروائي القرّاء من خلال أعماله الروائية مشاهد وأحداث تبعث الغبطة تارة، والحزن لمجد تليد ضائع تارة أخرى، ونجح الكاتب في هذه الرواية وفي غيرها من أعماله الروائية السابقة كخريف شجرة الرمان، وجارة الوادي، وربيع الأندلس، من أن يمنح القارئ دراية شبه متكاملة حول حقبة زمنية تعد من أهم الحقب في تاريخ العرب والمسلمين في الشمال الأفريقي وأوروبا، فقد تمكن الروائي من استقطاب جمهور ليس بالقليل إلى قراءة رواية كهذه، وربما نعزو هذا الأمر إلى كون العالم الروائي أكثر جذبًا وتشويقًا وسهولة وسلاسة من كتب التأريخ الخاصة التي يعزف عنها القارئ البدائي أو المتذوق للقص الحكائي دون القرّاء المهتمين من ذوي التخصص الدقيق، فضلا عن اسلوب الكاتب الذي تحلى بقدرة كبيرة على حسن الصياغة المتشبعة بقيم التاريخ الإسلامي المجيد…