بداية، لا نريد إجراء نقاش قانوني حول ما إذا كان وجود الولايات المتحدة كقوة احتلال في العراق، مرغوب فيه أم لا. الأمر الحاسم هو أن الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها دولة محتلة. ومن الحقائق أيضا أن أكثر من ألفين وخمسمائة جندي أمريكي ما زالوا يستهدفون العراقيين تحت ذريعة الدفاع عن المصالح الأمريكية “الحيوية” في العراق. علاوة على ذلك، لا يزال العراق بشكل وآخر تحت إشراف الأمم المتحدة و/ أو الولايات المتحدة، وبالتالي فهو لا يتمتع بالسيادة المطلقة. بناءً على ذلك، نترك الحكم على حروب الولايات المتحدة الهمجية في العراق وأضرارها المادية والنفسية الجسيمة للمؤرخين.
لقد حكم الحاضر بالفعل، وسيحكم المستقبل بقسوة أكبر على ما فعلته الولايات المتحدة إلى جانب الآثار النفسية والمعنوية التي لا زال المواطن العراقي يتحملها. حجم الخراب والتدمير للبنى التحتية والاقتصادية والصناعية والأخطر تخريب النسيج المجتمعي وتداعياته لتدمير الهوية الوطنية.
فهل من الصعب أن نشك الآن رغبة الولايات المتحدة إرسال العراق إلى العصر الحجري؟. أليس من المفهوم أن الضحايا، لديهم أسباب لرفض وجود قوات الاحتلال الأمريكية على أراضي بلدهم؟، وهم يشاهدون اليوم، كيف تستهدف الماكنة العسكرية الصهيونية أبناء “غزة” يقتلون في أبشع حرب إبادة جماعية لم يشهدها التاريخ تحت غطاء وإمداد عسكري أمريكي أوروبي. بيد ان هؤلاء السادة، دعاة “الديمقراطية المزيفة”، يستكثرون على الشعب العربي العيش، حتى اصبح بسبب عقائدهم العنصرية واطماعهم الاستعمارية على أعتاب حقبة تاريخية خطيرة. فالناس يطالبون بحقوقهم الأساسية المشروعة، التي يطالب بها الغرب، والعرب من حقهم ذلك قطعا.
الأخطر، ما يتبين من وسائل الإعلام الامريكية والأوروبية، مدى زيف ادعاءات هؤلاء، بانهم ملتزمون بالسلام العالمي والمهام الاجتماعية. ايضا، كيف يزورون الحقائق التاريخية ويناقشون في بلدانهم نظرية تقسيم المواطنين من خارج محيطهم الجغرافي والجنسي إلى مجموعات عرقية قاصرة تستحق الإستباحة والقتل.
منذ اندلاع الحرب العدوانية الاسرائيلية في الثامن عشر من اكتوبر 2023 على غزة، صعدت ما يسمى بحركات المقاومة العراقية الموالية لايران في العراق ضرباتها بالطائرات المسيرة والصواريخ على القواعد الامريكية في العراق وسوريا، ردت الولايات المتحدة بضربة مضادة شاملة بالقاذفات الستراتيجية على أهداف في العراق، وجاء بعد ذلك المزيد من الضربات العسكرية. ادت الى سقوط العديد من الضحايا من المدنيين بما في ذلك أفراد من الميليشيات. ادعى المتحدث باسم مجلس الامن القومي الامريكي بأنها تستند إلى أدلة لا يمكن دحضها، على أن الأهداف كانت مرتبطة بهجمات على أفراد أمريكيين. وحذر من أن الهجمات الأمريكية تشكل تهديدا “سيجر العراق والمنطقة إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها، وستكون عواقبها وخيمة على الأمن والاستقرار في العراق والمنطقة”.
وبحسب المتحدث باسم القوات المسلحة العراقية جاء: إن الهجوم الامريكي وقع في منطقة سكنية دون أي اعتبار ” لحياة المدنيين أو القانون الدولي”. والأمر الأكثر إثارة للقلق تأكيده: بأن التحالف انحرف عن “أسباب وأهداف وجوده” الفعلية في العراق. ووصف وجود التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بأنه “عامل عدم استقرار”. الأمر الذي يجبر العراقيين أكثر للضغط على الحكومة لإنهاء عمل هذا التحالف، خوفا من خطر أن ينجر العراق إلى “دوامة الصراع”.
إن ما يتعرض له المواطنون الفلسطينيون الأبرياء في غزة المحاصرة والضفة الغربية على يد قوات الاحتلال الصهيوني والمستوطنين العنصريين. سيتجه نحو تصفية الشعب الفلسطيني وقضيته ما لم تكن هناك مساع رسمية حقيقية لنصرته وإيقاف نزيف الدم فورا. لكن على ما يبدو أن الحكومة برئاسة السوداني، تجد نفسها، بسبب تعدد صناعة قرار السلم والحرب، بين مؤسسة الدولة وقوى اللادولة، محرجة أمام مسؤولياتها في قضية خطيرة هي من اختصاص الدولة حصرا. أيضا، بسبب ارتباط العراق بمعاهدات ثنائية ملزمة، مع الأمم المتحدة من جانب، وأخرى فيها الكثير من التعقيدات السرية مع الجانب الأمريكي، والتي تهدد أمن العراق الاقتصادي والوطني وتجعلها غير قادرة على حسم الأمور.
لا يُسمع إلا القليل، أو لا شيء، عن حقيقة الالتزامات التي جاءت بها المعاهدة، عن الولايات المتحدة باعتبارها قوة احتلال مسؤولة كشريك استراتيجي مستقبلي، وكأنها غير معنية بالأحداث الدامية في العراق. وعلى الرغم من مرور أكثر من اثني عشر عاما على تلك الاتفاقية، لم تكن الحكومات المتعاقبة قادرة على العمل، ولن تتمكن أي حكومة بسبب تنوع مجتمعاته من النجاح في المستقبل لتحقيق ما يحتاجه العراق بشدة: برلمانا لجميع المواطنين. باختصار، النظام العراقي الحالي لا ينتج إلا الفوضى الدموية والكوارث. ومن المؤكد أنها ليست نموذجا يحتذى به للشعوب المجاورة. مما يؤشر بأن العراق يخطو مرة أخرى خطوات كبيرة نحو الدكتاتورية، وكأن شيئا لم يتعلمه في العقود القليلة الماضية.
السؤال: إذا ما كانت الولايات المتحدة تريد خلق فوضى “خلاقة” بشكل دائم وترك العراق للذئاب؟، فلا يسعنا إلا أن نهنئها، فقد حققت أهدافها، خلافا لما كان يزعم في كثير من الأحيان بسذاجة، أن الولايات المتحدة أرادت تحويل العراق إلى دولة مدنية دستورية حديثة. ألا يحين الوقت بعد؟.
لكنها إذا كانت تريد حقا سحب قواتها القتالية وترك العراق مستقرا، فيجب على الولايات المتحدة في الأشهر المتبقية تغيير سياساتها السابقة بشكل جذري. بالمقابل، إن العراق بحاجة خلال فترة انتقالية، إلى حكومة تكنوقراط من الخبراء الذين يتمتعون بالنزاهة والوطنية وفن السياسة. لمراجعة جميع الملفات بشكل شامل وجعل صناعة القرار بيد الدولة حصرا. ذلك لن يتحقق ما لم تتم محاربة الفساد والقضاء على السلاح المنفلت. عندها فقط ، يمكن إنقاذ العراق من الهبوط نحو الأسفل وتأمين مستقبل أجياله.