التضامن مع اللاجئين السوريين وعمال المناجم المهمشين دعوة المخرج ” كين لوتش” في فيلمه الأخير (البلوط القديم)
علي المسعود
“البلوط القديم” الحانة الوحيدة في القرية الواقعة في مقاطعة دورهام شمالي شرق إنجلترا والمساحة الوحيدة المتبقية وتمثل مركزاً للقاء الأهالي وتبادل الأحاديث حول أوضاع القرية . يديرها “تي جيه بالانتين” (ديف تيرنر) الرجل الطيب والهادئ الذي يتشارك مع رواد الحانة همومهم و شكواهم من الحالة الاقتصادية المتدهورة للمدينة وأهلها الذين كانوا يعملون بالمناجم ولم يعد لديهم مصدراً آخر للدخل ، إضافة الى الإنخفاض الكبير في قيمة بيوتهم مع دخول شركات استثمارية واستغلالها في شراء البيوت بأسعار زهيدة . في فيلم ( البلوط القديم ) ينظر المخرج إلى المشكلة من وجهة نظر العائلات السورية التي جاءت إلى إنجلترا للعثور على ملاذ آمن. يقدم المخرج الأنكليزي “كين لوتش” في ختام مسيرته الأخراجية قصة عن بلدة صغيرة تعاني من البطالة والفقر ، وبساعد وصول وجبة من اللاجئين السوريين في الشعور العنصري والاستياء من الدولة. تستقبل المدينة حافلة تنقل لاجئين سوريين ومن بينهم الشابة “يارا” (إيبلا مرعي) تحمل في يدها كاميرا توثق اللحظات الفارقة في حياتها وحياة مواطنيها المذعورين . لكن يصدمها تصرف أحد الرجال العنصريين الرافضين وجودهم في القرية حين يخطف الكاميرا منها ويكسرها وبعدها يشتبك معها ويشتمها .
بعد وصول اللاجئين السوريين، يزداد الجدل داخل الحانة حول طبيعة الوافدين الجُدد ؛ فتُطرح إشكاليات عِدة حول جدوى وجودهم وتأثيرهم على القرية المُحافظة ذات المجتمع الناقم على الحكومة البريطانية وسياستها بعد إغلاق المنجم ، كذالك معاناة السكان من أزمة اقتصادية خانقة دفعت العديد من الشباب للرحيل عن القرية بحثًا عن الرزق ، فيما يشعر الباقون بالغضب تجاه حكومتهم التي “تخلّت عنهم”، ويضعون اللوم على اللاجئين باعتبارهم أحد أسباب الأزمة الاقتصادية ويرفضون وجودهم ، الوحيد المرحب بهم والمتعاطف معهم كان صاحب الحانة “تي جيه”. تطلب اللاجئة السورية (يارا) منه أن يدلها على الرجل الذي كسر الكاميرا ليتحمل قيمة إصلاحها. يلاحظ “تي چيه بالانتين” أنها تتحدث الإنكليزية بطلاقة ولباقة ويعجب بشخصيتها واعتزازها بنفسها . تخبره بقيمة الكاميرة بالنسبة لها حين ساعدتها على تحمل الرحلة القاسية بعد فرارها مع أسرتها من الجحيم تاركة والدها المعتقل، ولا زالت العائلة تترقب خبراً عن والدها المحتجز في سجون النظام السوري . تنشأ علاقة إنسانية بين الشابة السورية وصاحب الحانة ، كلاهما يعاني مرارة الفقد والغربة .
تزور “يارا” (المسلمة) برفقة صاحب الحانة كاتدرائية دورهام لغرض مساعدة اللاجئين . تتأثر عندما تسمع أن هذا المبنى الأثري عمره ألف عام ، فتعلق بحزن “لن يرى أبنائي أبدا معبد تدمر الذي بناه الرومان ودمرته الدولة الإسلامية عام 2015”. وفي أكثر المواقف المؤثرة حين تشاهد ” يارا” صوراً توثق إضراب العمال في الثمانينيات على جدران مخزن “تي جيه”، تلمع في ذهنها فكرة تقديم وجبات مجانية لكسر الحاجز ودمج اللاجئين مع السكان ، يوافق صاحب الحانة الطيب بلا تردد، ويفتح مخزنه ويقوم بإصلاحه؛ ويتناول الجميع الطعام الذي أعدته السوريات البارعات في الطهي وهكذا يتم التعارف واللقاء ويذوب الجليد . في حواراً تحدث المخرج البريطاني كين لوتش قائلاً : “لم أكن أعرف شيئاً عن السوريين حقاً، قبل أن أبدأ هذا الفيلم، لكنني اكتشفت كل شيء أثناء إخراجه، لحظات الكرم الصغيرة التي لا تُقدر والتي لم تكن موجودة في النص، إنهم الأشخاص الذين يفاجئونك بمحبتهم وكرمهم “. في مشاهد عديدة يبرز المخرج لوتش كرم السوريين وحسن ضيافتهم، وكان تأثره بكرم الضيوف العرب واضحاً جداً في الفيلم الذي كان ختاماً راقٍياً لمسيرة عظيمة كان فيها الى جانب الفقراء والمهمشين والطبقة العاملة. وفي نفس الوقت ، ينتقد العنصرية الأنكليزية إزاء اللاجئين القادمين حين يصور التحامل وسوء المعاملة التي يلقاها اللاجئون السوريون في بريطانيا على يد الفقراء من الطبقة العاملة الذين يرون في القادمين تهديدا لثقافتهم ولدخلهم القليل .
المخرج” لوتش” كان رافضاً بشكل قاطع لسلوك هؤلاء العنصريين، يعلق لوتش على تلك الممارسات بإن أغلب الطبقة العاملة من الضحايا لطبيعة النظام الرأسمالي في بريطانيا، قهرهم يماثل ما يتعرض له اللاجئون من فقر وشظف في العيش ، هؤلاء الإنكليز الذين يعيش الكثير منهم على الكفاف لا يجدون متنفسا لمظالمهم إلا في اضطهاد من هم أقل منهم حظا وهم اللاجئون . الفيلم يكشف لنا دور الجمعيات الخيرية الكنائس في مساعدة دعم اللاجئين السوريين . القصة مكتوبة بتعاطف كبير مع محنة اللاجئين وسردها بشكل جميل الكاتب بول لافيرتي ، صور مكابدات اللاجئين السوريين وأهوالهم وصدمتهم المستمرة بحساسية وتعاطف الأخرين مع قضيتهم من خلال إبراز كرم الضيافة وأملهم في مواجهة نكبة النزوح . وصول اللاجئين السوريين إلى القرية الفقيرة تصبح هي اللحظة الكاشفة لجوهر الكثيرين من أهل القرية، وبالتالي تمنح المخرج لوتش الفرصة للإعراب عن رؤيته الأنسانية لمظالم الطبقة العاملة ومعاناة اللاجئين في آن واحد . يلتقط لوتش مشاهد للصراع الذي ينشأ عندما يرى أهل القرية كيف يتلقون اللاجئون السوريون المساعدات وهم يعانون من الأهمال والتجاهل ، في أحد مشاهد الفيلم، تحصل طفلة سورية لاجئة على دراجة مستعملة تبرع بها أحدهم، عندها يعلق صبي من أهل القرية وهو يراقب الطفلة بحسرة ، إنه كان على الدوام يأمل في الحصول على دراجة . نجح المخرج لوتش ببراعة الروابط والصراعات المختلفة والرغبة في خلق وتعزيز التواصل من خلال الطعام وهذا ما يجمع السوريين وأهالي القرية.
يتناول الفيلم الحرمان والاغتراب والإهمال من قبل السياسيين المحافظين لأهالي القرية ، ذكر المخرج لوتش “لقد عانى سكان تلك المناطق من إهمال على مدى السنوات ال 40 الماضية “. على الرغم من ذالك يؤكد المخرج على روح التضامن التي لاتزال موجودة عند عمال المناجم القدامى . إعتمدا الكاتب ( بول لافيرتي) والمخرج ( كين لوتش) في سرد القصة على عدة مصادر ، أولا : الاستماع لقصص اللاجئين السوريين بعد سنوات من البحث والتقصي من أجل الوصول إلى مجموعات من اللاجئين في الشمال الشرقي، وثانياً : المناقشات وألاحاديث مع المنظمات الانسانية والمتطوعين الذين يدعمون هذه المجتمعات . يضيف كاتب القصة” لأنها ثقافة مختلفة ولغة مختلفة، لذلك نحن نحترم بشدة المكان الذي جاؤا منه الأشخاص الذين لديهم وجهات نظر مختلفة “. يقدم كين لوتش حكاية اجتماعية أقل قسوة مما اعتدنا على رؤيته في أعماله السابقة. بالرغم من أن الموضوع يدين صعود اليمين المتطرف وزيادة الفقر في إنجلترا والدوافع الشعبوية للبعض لكنه يختار زاوية رؤية أقل صراعاً . العلاقة الجميلة التي تطورت بين الشابة السورية يارا وتي جي بالانتين متجذرة في شغف مشترك ، التصوير الفوتوغرافي يحاول المخرج تقارب المجتمعين ومزج الثقافات .
“البلوط القديم ” يحمل دلالات خاصة في التاريخ الإنجليزي في الأشارة الى الاستقرار والقوة والأمن. وهذا توصيف للحانة الوحيدة في القرية ، في ماضيها كانت غرفتها الخلفية مركز الترفيه والنشاطات ليلة الجمعة والسبت لكثير من الناس . وأصبحت الآن مجرد ملتقى للكبار السن لأجترار ماضيهم والتذمر من حاضرهم ولعن اسراب الجراد كما يصفون اللاجئون السوريون . يصف المخرج المخضرم كين لوتش فيلمه ” الفيلم يتعلق بنضال الأمل وكفاح الناس من أجل رؤية الأمل ، لا يمكننا أن نكون في وضع أكثر كارثية مع انهيار المجتمع المدني من حولنا ، الصحة والتعليم والإسكان وديون الطلاب والفقر والجوع وزيادة عدد المتشردين . كل جانب من جوانب حياتنا ينهار، مع الخطر الإضافي الناجم عن كارثة المناخ. إذن أين تجد الأمل ؟ هذا هو السؤال الكبير. الأمل ستجده في تصميم الناس على المقاومة وغريزتنا من أجل التضامن “. ألأسئلة التي طرحها المخرج في فيلمه كيف يرتبط هذان المجتمعان؟ وكيف يجدان طرقا للترابط ؟ وهل سيكون هناك عداء؟ كيف سيعيد تقليد التضامن القديم أيام التعدين ؟. يتجسد التضامن مع معاناة السكان المحليين الذين يعانون من الفقر في نهاية الفيلم ، بعد إقتراح من الشابة السورية اللاجئة (يارا) في تنظيم تناول وجبات الطعام السوري مع السكان المحليين ، مستوحية الفكرة من كلمات والد صاحب الحانة (بالانتاين) العامل النقابي “عندما تأكلون معا، تلتصقون ببعضكم البعض”، الكلمات تمثل تضامن إضراب عمال المناجم عام 1984 في أشارة للظروف التاريخية التي مر بها السكان المحليين . رسالة الفيلم حول التضامن مع عمال المناجم المهمشين واللاجئين السوريين الهاربين من الحرب واستكشاف ما يحدث في الواقع بين هذين المجتمعين بعد جمعهما .
دراما ” كين لوتش ” تكشف جانب من العنصرية البريطانية ، كذالك يلفت الانتباه إلى الطريقة التي يتم بها استخدام المساكن الرخيصة لإيواء اللاجئين في شمال إنجلترا واسكتلندا ، على الرغم من نقص الدعم للبنية التحتية في مكان إستقرارهم مما يضفي على الفيلم الطابع الإنساني على الديموغرافية الإنجليزية في المدن الصغيرة ، ومشاعر الأهمال واليأس اللذان يولدان العنصرية وكراهية الأجانب . أحد الاستثناءات البارزة الممثلة السورية (إيبلا ماري) التي تحاول سد الفجوة بين مجتمع التعدين السابق المضطهد واللاجئين السوريين الذين استقروا ، وتبرز عدوانية وعنصرية السكان المحليون بالرغم من وجود بعض النشطاء من المتطوعيين في الجمعيات الخيرية والمتعاطفين مع ظروف هؤلاء الهاربين من مدن الخراب او الدمار وربما الاعتقال . هذا التضامن الانساني الذي اكد عليه لوتش شئ مميز ورائع لضمان عدم جوع الناس .
كما هو الحال مع العديد من أفلامه السابقة إستعانة لوتش بالممثلين غير المحترفين وبعددٍ من اللاجئين الحقيقيين للتمثيل أمام الكاميرا، مثل السورية حسناء (46 عاما) التي تعرضت عائلتها لقصفٍ في سوريا عام 2012 ، وعلى أثره فقدت زوجها وطفليها وساقيها وهربت إلى إنكلترا، وتعيش ألآن في مقاطعة “دورهام” منذ ست سنوات . فيما كشفت الأخت الصغرى ربيع، أن دورها في السيناريو لا يختلف كثيرًا عن تجربتها الحياتية، فهو يستكشف كيفية وصولها إلى إنكلترا وكيف تعيش، وكيف تعاملت مع الأشخاص الطيبين والأشرار في البلدة التي قررت العيش بها . الممثلة ( إيبلا ماري) لعبت دور الشابة السورية يارا ، تعمل مدرسة مسرح في مرتفعات الجولان قبل الفوز بالدور وكان أداءها متميزاً. يتعامل الفيلم مع القضايا الصعبة حقا التي تواجه الطبقة العاملة ومجتمعات اللاجئين في قرية في شمال شرق إنجلترا دمرها اقتصاديا الوحش الرأسمالي بعد التخلي عن هذه المجتمعات التي استقبلت لاجئين أكثر من أي منطقة أخرى ، في الوقت الذي لم يكن هناك استثمار أو أهتمام حكومي والذي سبب في نشوء عنصرية وكراهية للأجانب وبتشجيع الاحزاب والصحافة اليمينية التي أججت نيران العنصرية والكراهية ، رغم تأكيد المخرج على إن القصة مليئة بالأمل حين يجد مجتمع اللاجئين الفارين من الحرب أرضية مشتركة مع سكان المنطقة التي دمرتها عقود من الإهمال الحكومي . يظهرالمخرج المخضرم مجتمعان يعانيان من الصدمة ، اللاجئون السوريون المنكوبون بالحزن والحرب ، والبريطانيون الفقراء من الطبقة العاملة والمحرومون من أبسط مستلزمات الرفاهية . أحدهما تم التخلي عنه، والآخر يعانى من أثار الحرب والخراب .