خلال ندوة إعلامية تحدث قبل أعوام الرجل الأول في التلفزيون الألماني الثاني ماركوس ششتر أمام جمهور من الصحفيين والسياسيين، بدأه بجملة مسؤولة رصينة قائلا: “نحن، صحفيات وصحفيي هذه القناة، ندافع في بيئتنا الإعلامية عن مفهوم “مستقل” كمبدأ،، بعيدا عن المنافسة السياسية، وهذه القناة، هي ملك المواطنين، وليس الأحزاب”.
أسوأ ما في السياسيين العراقيين، واسمح لنفسي بأن أصف أغلبهم بأنهم جهلة لا يفهمون ولا يفقهون في أبسط شؤون السياسة، إذ لم نقل علم السياسة. مجاهرتهم من على شاشات التلفزة حينما يتحدثون في الشأن العراقي عن الأوضاع العامة، يقلبون الحقائق بالشكل الذي يتناسب ومصالحهم، دون مساءلة أنفسهم ما جدوى ذلك والعراق يعاني من الأزمات المتلاحقة؟. وجرت العادة خلال المقابلات التلفزيونية المختلفة التي يشارك أحدهم فيها، الدفاع عن مصالح الحزب وخصوصياته الشعبوية، كالعقيدة الدينية أو العرقية أو السياسية المثيرة للجدل: أخطرها الدفاع عن الطبقة الماسكة بالحزب والسلطة معا بما في ذلك مصالحها “الفئوية” السياسية والاقتصادية على رغم من فشلها السياسي والإداري. الأمر الآخر، مشاغلة الرأي العام العراقي وحرفه عن مسار تحقيق أهدافه، مما يجعل الصراع بين المطالبين بحقوقهم ـ وأصحاب السلطة وأحزابها محتدما إلى أبعد الحدود. لكن ماذا يعني هذا؟، وما الهدف منه؟ سيما وأن عمق الأزمة السياسية قد اتسع ولم تسفر كل المحاولات منذ انتخاب أول مجلس تشريعي لغاية تشكيل حكومة رئيس الوزراء السوداني عن تفكيك الأزمات وإنقاذ البلد من الانزلاق نحو الأخطر مما يتوقع.
لم تأت فكرة انتخابات المجالس المحلية للمحافظات من فراغ، بقدر ما تكون هي محاولة لمواجهة انتفاضة شعبية قد تسقط النظام برمته. والأهم، في شأن ذلك، محاولة إخراج الطبقة السياسية الحاكمة من عنق الزجاجة وتوفير مخرج سياسي آمن يمنع تعرضها للمساءلة القانونية على ما اقترفته من جرائم إدارية وهدر للمال العام ووضع البلد مجتمعيا واقتصاديا على حافة الهاوية. أيضا، التستر على سلاح ميليشيات الأحزاب وتبرئة ساحتها من كل الجرائم ومسؤولية الاعتداء على المتظاهرين وقتلهم بدم بارد.. ان الاصرار على اجراء الانتخابات لادامة “صناعة المصالح”، كان لا بد من مقاضات الحلبوسي واقصاءه من عضوية مجلس النواب ورئاسته له. وهي مهمة أساسية، تظن الطبقة السياسية وأحزابها المتنفذة في جهاز الدولة ومؤسساتها ستوفر الغطاء المجتمعي لتكون مقبولة أمام الرأي العام لاختراق انتخابي يمنحها حظوظا اوفر للبقاء في السلطة دون منازع.
تحت ذريعة مفهوم “الاستقلالية البرلمانية” يدعي البعض، في شأن سياسي عراقي حرج ومعقد: بأن الانتخابات استحقاق وطني. لكن السؤال: ما هو مفهوم الاستقلالية في مسألة وطنية لم يعد لها كينونة؟ ومن هو المستقل في نظر هذه الطبقة السياسية التي لا تنظر الا لمصالحها الفئوية والحزبية والبقاء في السلطة مهما كلف الثمن؟. أن آلية ربط كل هذا التشابك بأصل الفكرة المعني بها، بقاء حكومة الأطراف الثلاثة، “شيعة، سنة، كرد” على ما هو عليه. لكن ذلك بحد ذاته، مسألة في غاية السذاجة. معها تتقاطع الشرعية السياسية والمجتمعية لطبقة لا تؤمن بعقيدة الوطن والشعب أولا، ولا يمكن لها ان تفهم بأن هذا المبدأ مدعاة للتنصل من المسؤوليات الوطنية الأساسية وبناء دولة المؤسسات ورقي البلد.
ان مصطلح السيادة الذاتية، بالإشارة للتعريف الأصلي لمفهوم “الاستقلالية”، وفقا لنظرية الدولة المدنية، تعني، أن الشعب هو مصدر السلطات، وبالتالي هو من له الحق في اتخاذ القرارات الحصرية التي تعني مصالح الدولة الوطنية وقيّم مجتمعاتها دون تمييز، بغض النظر عن مصالح الاحزاب. بيد أن مفهوم “مستقل” يرتبط بمفهوم “الحرية الخاصة”، الأساس العام الذي ترتكز عليه المجتمعات لتقرير مصيرها بعيدا عن الأيديولوجيات التي تثير المخاوف والجدل. وما على القوى السياسية التي تريد إعادة تموضعها، الا ان تستجيب لإرادة الشعب، وترك إدارة الدولة لمن هم اجدر منها دون البحث عن مخرجات وتفسيرات تسويفية قبل فوات الاوان.