هو الكتاب الجديد الصادر أخيراً عن دار سعاد الصباح للثقافة والإبداع لمؤلفه الدكتور عبدالحسين شعبان. ويُعد الكتاب بمثابة بانوراما شاملة أحاطت بمعظم ما كتبه الشاعر العراقي الشهير محمد مهدي الجواهري من قصائد منذ عشرينات القرن الماضي وحتى وفاته في العام 1997.
ومن بين ما تميز به الكتاب، أنه ضم عدداً من القصائد لم تشتمل عليها أي من الدواوين الكاملة لأشعار الجواهري، والتي صدرت في طبعات عديدة ومختلفة، وفي غير بلد عربي.
واحتفاءً بالجواهري الكبير، فقد ضم الكتاب كلمات لنخبة من الأدباء العرب، وهم الدكتورة سعاد الصباح، والدكتورة نجاح العطار، والشاعر محمد مهدي الجواهري ذاته، والمفكر والناقد الدكتور شعبان. وجاءت الكلمات كقلائد بديعة على الصدر الشامخ لشعر الجواهري في محاولة رصينة لإنصاف الشعر والشاعر الذي طالما وصف بمتنبي القرن العشرين.
معجم خاص
في كلمتها التقديمية للكتاب، قالت الدكتورة سعاد الصباح إن الجواهري: «كان يقود سرب أحلامه الكبيرة -والمستحيلة أحياناً- لتخرج من المراعي المحاصرة بالجفاف… حفنة من الحلم في قبضة يده كانت كافية لأن يغمض عينيه على ختام النشيد الموجع… نشيده الطويل للوطن… كان يعلم أن الهوية الأدبية ليست إرثاً، بل هي ابتكار إنساني، ابتكرها المخلصون بعملهم وأفكارهم.. وأشعارهم».
وأضافت «من القصيدة إلى المظاهرة، ومن المظاهرة إلى الملاحقات… إلى فضاء اللغة… وافتراضات الغربة وفرضيات الاغتراب، ثم الأسئلة التي فرضت نفسها بقوة على المشهد الشعري، تلك الأسئلة المكتظّة بعصر الانقلابات المعرفية الكبرى، حين كان الشاعر يتورع عن ظلم القمر، ذلك النوع من الظلم الصارخ الذي يجعله صورة شعرية مجردة من دلالاتها النورانية… لنشهد تشكّل عصر الشعر الذي تجاوز السردية العربية المكبلة، وتمرّد على السردية الغربية المهيمنة، ذاهباً إلى منطقة جديدة… منطقة جوهرية أو جواهرية… حيث تصير الكلمة أوسع وأعمق!».
وأكدت على جوهرية الشاعر، فقالت: «ولد الجواهري كما لو أنه بمثابة عودة كلية إلى النص المشترك الذي يتحول فيه الشاعر من أنانية الصوت الذاتي إلى كونه صوت الناس، فيشرع في الكتابة معهم، يغنّي من أجلهم، يكتب لينهض بهم لا ليرضيهم، رافضاً أن يُقْدِم الشعر على تشويه نفسه بأن يتحول إلى مجرد أداة وآلة مهادنة أو مداهنة… شرع الجواهري في إطلاق القصائد التي يفوق وقعها تأثير البيان السياسي في نفوس الناس… مُشكلاً زمناً يفوح بعطر الشّعر ويليق بمدينة بغداد الأشبه بقصيدة كبرى، والنجف الأشبه بقافية معلقة بين الفرات ودجلة».
وشددت الدكتورة سعاد الصباح على قضية أساسية عند الجواهري، إذ قالت: «لقد فجّر الجواهري المشاعر الوطنية داخل الوطن في دجلته وفراته وشطه وبحره، وفي الوطن والمنفى وفي الشتات، ليصبح شعره في أعلى قائمة المناسبات الوطنية… وهو الذي تمسّك بخيط الحداثة على طريقته، ليقوي بها الموروث العريق، وليكوّن شعرية خاصة أعطت لتجربته معجماً خاصاً».
هدية الجواهري
وأثبت الكتاب، المقدمة التي كتبها الشاعر الجواهري لكتاب المختارات (الجواهري في العيون من أشعاره) الصادر عام 1986، وأوضح فيها أنه تم التوافق على إصدار هذه المختارات، بعد أن برزتْ إلى العيان مشكلة تعذّر حصول جماعات وأفراد كثيرين هنا وهناك -ولا سيما ذوي الكفاف منهم من محبّي الشعر والأدب- على المجموعات الكاملة من دواويني بأجزائها التي تراوحت أخيراً بين سبعة أجزاء والخمسة منها، سواء في ذلك الطبعات التي استغلّت تجاريّاً لحدّ الإسراف، بما فرض عليها من ثمن باهظ للمجموعة الواحدة، أو تلك الطبعات المتناوبة في أجزائها الواحد بعد الآخر… الأمر الذي سبّب تعذّر الحصول على المجموعة الشعرية كاملة، وذلك لنفاد الجزء الأول منها على سبيل المثال، ما يعسّر الحصولَ عليه لمن يحصل على الجزء الثاني، أو من حصل على الثالث ونفد الثاني.
وقال الجواهري: «المغبون الأول في ذلك كلّه هو الشباب العربيّ الجامعي بخاصّة، وكل متذوقي الأدب والشعر منهم بعامّة، ومن بين هذا السبب أو ذاك انبثقت فكرة خاطفة سرعان ما تحولت إلى حيّز التنفيذ، هي أن يكون في متناول الجميع مجموعة واحدة تضم بين دفتيها (العيون) المختارة من كلّ تلك المجموعات، يستريح فيها الحاصل عليها في هذه الطبعة منها أو التالية إلى صميم الواحة الأكثر اخضراراً والأغزر ينابيعَ… وبحقٍّ وصدق ولأسباب منطقية -كما يقال- أهديتها إلى الشباب العربي، في كل مكان، آملاً أن أكون قد عوّضته بذلك عن خسارة لم تكن لي يد فيها».
العملاق المهيب
كما أثبت الكتاب، المقدمة التي كتبتها الدكتورة نجاح العطار في تصدير المجموعة الكاملة للجواهري، التي طبعتها وزارة الثقافة السورية عام 1979، وجاء في وصفها للجواهري قولها: «مهيباً تراه، عملاقاً كالأسطورة، وغريباً كالخارق من الأشياء، على وجهه يتشهّى ألق موهبة، ومن كلّ ذرّة في كيانه صوت صارخ: إنّي أنا الشاعر، أنا البيداء التي منها الخيل واللّيل والمتنبي، أنا الفارس الذي خيوله مجرّات، وقوافيه أفلاك، تدور بها نجوم، وتدوّي رعود، وتتساقط نيازك، وتتفتّح زهور، وتشرق شموس، وفيها البرق والريح والمطر»
وأضافت العطار: «وكما كان سِجلّاً لدهره، وتاريخاً يستنطق التاريخ، ويوقظه على الشّفاه، ويسيّره حيّاً بين النّاس، كان الجواهري سجِلّاً لكفاحنا، وتاريخاً لدنيانا، وترجماناً عن ذات القرن إلى القرون التي تليه. خصوصيّته -وهنا المفترق- أنه ببيان بدويّ النسيج، مجلجل اللفظ، غنيّ المفردات، يهدر كأنّه السّيل ويرقّ كأنّه السّاقية، يشفّ عن رؤى ذات أمداء وتهاويل، وذات صخب وسكينة».
ميزات
نقف بعد ذلك على كلمة المؤلف عبدالحسين شعبان، التي أشار فيها إلى أنه سبق وأعد مختارات تضمّ أهم قصائد الجواهري، وتحت إشراف الجواهري ذاته، تحقيقاً لرغبة الشاعر في أن تصل المختارات بكتاب واحد إلى الشباب العربي والجامعي بشكل خاص وجميع متذوّقي الأدب بعامة والشعر بخاصة في كلّ مكان دون استغلال تجاري. وقد صدرت المختارات في كتاب بعنوان (الجواهري في العيون من أشعار) عن دار طلاس للنشر في دمشق العام 1986 ﺑ696 صفحة من القطع الكبير، وقد طبع الكتاب طبعات عدة خلال ربع قرن.
وأوضح شعبان أنه عمد إلى تقسّيم المختارات إلى عشريّات، اختار من كلّ عشر سنوات بعض القصائد أو مقطوعات منها، لكي تُقرأ ضمن السياق التاريخي. وقال: «كنت منذ فترة أنوي إعادة طبع المختارات، خصوصاً بعد رحيل الجواهري وإغلاق الدار بصفتها القديمة أو تحوّلها إلى جهة أخرى، الأمر الذي وضعني أمام مسؤولية جديدة، خصوصاً حين كثر السؤال عن الكتاب وزاد طلبه منّي، وليس لدي سوى نسخة واحدة، وقد أصبح في حكم النافد، على الرغم من طبعاته المتعدّدة».
وأضاف: «لكي تكون لهذه الطبعة الجديدة ما يبرّرها، فلا بدّ من إجراء تعديلات وتحسينات وتدقيقات وإضافات عليها، لاستكمال ما فات القارئ، فضلاً عن رغبتي في أن تأتي هذه الطبعة أكثر شمولاً وكمالاً من الطبعة الأولى والطبعات التي تلتها، في محاولة لتلافي بعض الأخطاء الطفيفة التي صاحبتها، فكان (جواهر الجواهري) الذي تضمن قصائد مضافة وإضافات وتنقيحات وشروحاً جديدة».
ومن الإضافات الجديدة في الكتاب، أنه تم إثبات قبل كلّ قصيدة عدد أبياتها في الأصل، لإعطاء فكرة عن القصيدة الأصلية والمقدار المأخوذ منها. كما تم تحديث سيرة الجواهري إلى تاريخ وفاته (27 يوليو 1997). وكذلك جرى تذييل الكتاب بفهرس للقوافي، إضافة إلى فهرس عناوين القصائد ليسهل الرجوع إلى القصيدة المطلوبة.
الجديد في الكتاب أيضاً، أنه اشتمل على القصائد التي كتبها الجواهري بعد صدور المختارات (الجواهري في العيون من أشعاره) 1986. ومن القصائد المضافة: (أمين لا تغضب)، (عشرون بلفور في عشرين عاصمة)، (صاح قلها ولا تخف)، (الليث الصبور)، (يا هلال الفكر)، (يا ابن الهواشم)، (حبيبتي نبيهة)، (المرء الخطير)، و(يا باسل الخيل والفرسان).
إضافة إلى ذلك كله، حرص مؤلف الكتاب على وضع جرد يثبت تواريخ صدور دواوين الجواهري منذ العام 1923 ولغاية وفاته. كما حرص على تقسيم القصائد حسب الفترة الزمنية التي قيلت فيها، فتدرجت مجموعات القصائد المختارة من عشرينات القرن الماضي وحتى آخر الثمانينات منه. وقد جاء هذا الكتاب في نحو ستمئة صفحة من القطع الكبير.