قرار نفي 14 تموز كعيد وطني: جذور “الانتقام التاريخي” و الإرادة الوطنية!
فخري كريم *
من يقرأ الأحداث جيداً لن يجد قرار إلغاء عيد العراقيين في 14 تموز مفاجئاً ولا غريباً. إن أعداء الشعب القدامى ولدوا أشباههم في الكراهية والانتقام. إنهم أنفسهم من يراهن الآن على مرور الزمن لتوظيف النسيان وتحويله إلى واقع. إنهم أنفسهم من يواصل ذبح الذكرى وقيمها في التحرر الوطني.
لا.. ليست مصادفة.. الحالة الراهنة تتحدث بحقيقة قديمة. مؤامرة الماضي تلتحم بأحقاد جرى تجديدها دائماً. ومن يريد لنا أن ننسى يمارس نفس أساليب أنظمة الماضي الكريهة. نحن في نفس الامتحان القديم، وما مرّ ليس مصادفة. ها نحن نسحب شريط الزمن ونتعرف على أحقاد تاريخية لم تهدأ للانتقام من النور التموزي.
إن ما أصابنا وعطّل إرادة العراق وأتى على خيرة عقوله، وكفاءاته، وخيراته، لم يأت عفواً أو مصادفة، بل هو مخطط له منذ صعود البعث إلى السلطة في الثامن من شباط من العام 1963. ما دُبِّر في تلك الصبيحة المشؤومة للإطاحة بسلطة ثورة الرابع عشر من تموز 1958، لم يكن ليمرّ لولا تضافر جهود شبكات المخابرات الأميركية والبريطانية، وهذا ما أكّده قائد البعث آنذاك، وظهر في اعترافات غيره من رموز حزبه، والمشاركون معهُ في الانقلاب، مع القوى التي أسفرت عن نفسها بوضوح المتمثلة برموز الإقطاع والشرائح الاجتماعية والاقتصادية المتخادمة مع الاستعمار.
منذ ذلك التاريخ صنعت المؤامرة والعنف المرافق لها قدراً ظل يلاحقنا، وطناً وشعباً، دون توقف أو هدنة، بل لازمنا مثل ظلنا، فكان الانتقام من ثورة 14 تموز العام 1958 ومن قيادتها، ومن القوى والأحزاب والحركة الجماهيرية التي أسهمت في التمهيد لها وفي احتضانها والدفاع عنها. كان هذا الانتقام رداً على ثورة فاجأت القوى الإمبريالية ولم تكن في حسبانها.
لقد تمكن الضباط الأحرار بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم من القيام بحركة مباغتة، وتمهيدٍ سياسي شامل من خلال إحاطة قيادات أحزاب جبهة الاتحاد الوطني علماً بالإجهاز على النظام الملكي وإعلان الجمهورية العراقية، وشلّ التحرك الأميركي – البريطاني برعاية كميل شمعون من شواطئ بيروت لإجهاض الثورة. لقد تمكنت هذه الحركة من الإطاحة بالنظام الملكي رغم صيحة نوري السعيد الشهيرة «دار السيد مأمونة»، وبالرغم من جاهزية شبكات التجسس المخابراتية الأميركية والبريطانية، وتغلغل وكلائها في المنطقة.
كانت هذه المباغتة تقويضاً للستراتيجية الأميركية البريطانية وحلفائها في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط، وتهديماً للقاعدة الأساس التي سمّت الحلف العسكري على اسم عاصمته “حلف بغداد”، والانتقام منها فيما بعد جسد بأبعاده السياسية المرسومة، نذيراً متوعداً لقوى حركة التحرر الوطني في العالم العربي، خشيةً من التجاسر والتجاوز على منطقة نفوذه ومصالحه الحيوية ومرتكزات وجوده.
لقد جاء انتصار ثورة تموز في مركز العمليات السياسية والعسكرية لحلف بغداد ليجهض ستراتيجية الحلف في احتواء العالم العربي والحيلولة دون امتداد التمرد الثوري الذي تصاعد من مصر ثورة يوليو – تموز 1952 وإطفاء بؤرة النهوض في البلدان العربية التواقة للتحرر والتقدم والاستقلال الوطني. لكنّ المدَّ الثوريّ الذي انبعث صبيحة الثورة مع إعلان البيان، شكّل جدار أمان وحماية لها، وكرّس مقوّماً أساسياً لبناء الجمهورية الأولى المتمثّل في الاستفتاء الشعبيّ العاصف لها، عبر خروج ملايين العراقيين على اختلاف قومياتهم وأديانهم ومكوناتهم وهم يهتفون للثورة ويعلنون الدفاع عن الجمهورية الوليدة.
ومنذ اللحظات الأولى لانتصار الثورة بدت مظاهر الفرز السياسي في الشارع كأنّهَ كان مبيتاً من قوىً أرادت مصادرة الإرادة الشعبية وإخضاعها لنوازع لم تكن من صلب قوى الثورة، وتحوّل ذلك الفرز الأولي في الشارع وفي قيادة الثورة إلى بؤرة مشاغلة سلبية خطيرة، التقطتها القوى المتضررة في الداخل، وهي من إفرازات قوى النظام البائد، والدوائر الأجنبية التي انهارت ركيزة حلفها ومصالحها الحيوية. وصار البعث من تلك اللحظة بؤرة تحالف جميع القوى المعادية للثورة والجمهورية. وسرعان ما اتخذ التحالف المذكور شعار “يا أعداء الشيوعية اتحدوا” للإيحاء بشيوعية النظام الجمهوري الجديد، وتأليب أوسع القوى في الداخل والخارج ضدها، والاستنفار للعمل لإسقاطها.
لم ينفع أنّ الحزب الشيوعي العراقي كان الحزب الوحيد الذي تمَّ تغييبهُ عن عضوية مجلس وزراء الثورة رغم مشاركة كلّ الأحزاب الأخرى، وتمثيل حزب البعث بشخص أمينه العام فؤاد الركابي، في ظل التأليب “القوماني” بتحريضٍ من قيادة البعث، ودعمٍ مؤسفٍ من الرئيس جمال عبد الناصر الذي خُدع من قبل حزب البعث الذي لوّح لهُ بشعار الوحدة الفورية، وانضمام العراق الفوري، دون شروط سوى التماثل المطلق مع نظام الاتحاد الاشتراكي في مصر!
ظلّ الفرز في الشارع السياسي يتسعُ ويتعمّقُ ليتخذ حراكهُ شعار «وحدة فورية» من قبل البعث وبوقه الأثول عبد السلام عارف، مقابل «اتحاد فيدرالي» الذي طالبت به القوى الديمقراطية والحزب الشيوعي دعماً للنهج الذي تبنته قيادة الثورة وحكومتها، إذ لم يكن شعار الوحدة ضمن توجهات الضباط الأحرار.
ورغم الفرز السلبي وما رافقهُ من أخطاء وخطايا، تابعت حكومة الثورة نهجاً وطنياً واضحاً، وأنجزت مهاماً تأسيسية بصيغة قوانين تشريعية راسخة وأطلقت مشاريع بُنى تحتية في مختلف المجالات والميادين، واستطاعت أن تسنَّ أهم القوانين التي أرست أسس سيادة العراق واستقلاله السياسي والاقتصادي بخروجها من منطقة الإسترليني وتشريع قانون شركة النفط الوطنية، وسنّ قانون الإصلاح الزراعي، وقانون الأحوال الشخصية، وسوى ذلك من منجزات ثورية. لتشكّل هذه المنجزات التجسيد الحي للمفاهيم والقيم والشعارات التي تبلورت عبر الحراك الثوري طوال عقود من النضال في العهد الملكي، ولترسي بذلك أسس هويةٍ وطنيةٍ تقدميةٍ تمهّد لبناء دولة المواطنة الحرة، دولة القوانين والحريات والمساواة والتآخي القومي المؤسساتية التي ضمنها الدستور المؤقت، كمرجعٍ تشريعي قابل للتطور، وبشكل متلازمٍ مع تقدم مسار الثورة، ونضوج قيادتها وقاعدتها السياسية والاجتماعية..
من يريد أن يعرف ويتفهّم الأسباب والدوافع التي تقف وراء ما أصاب العراق والعراقيين من انتكاسة الثورة، وانقلابها على مسارها الديمقراطي، تمهيداً للإجهاز عليها، وتصفية منجزاتها التقدمية، وذبح قيادتها، وإسقاط الجمهورية التأسيسية، عليه أن يتذكّر الترابط الوثيق بين “المباغتة” التي تميزت بها ثورة 14 تموز 1958 وتقويضها لستراتيجية حلف بغداد، و”الانتقام التاريخي” الذي أضمرته الـ CIA بالتعاون والتخطيط والتنسيق مع المخابرات البريطانية وتواطؤات عربية “قومانية” وإسرائيلية، وشرعت بتنفيذها بدءاً من تعبئة واحتضان وتمكين كل قوى الثورة المضادة بقيادة حزب البعث وحلفائه.
لقد كان الانقلاب الفاشي في 8 شباط هو التتويج العملي للانتقام التاريخي. ولم يكن فصل الختام في تلك الستراتيجية، بل تحول إلى محور الانعطاف والردة التي باتت تتسارع بوتائر دموية شديدة الوقع مأساوياً، ليس على مصائر شعب ثورة 14 تموز وتطلعاته نحو عراق مختلف ديمقراطي مفتوح على التقدم والمعافاة، بل وعلى العالم العربي والمنطقة بأسرها.
لقد كان انقلاب 8 شباط الأسود، منعطفاً «تحوليّاً» بطابعه الكارثي، أدى إلى نكوص حركة التحرر الوطني وتقلص برامجها التعبوية وتوجهات قواها، ودفع أحزابها وحركاتها الجماهيرية إلى التفكك والانحدار، ورسّخ انحسار دور الأحزاب والتنظيمات المؤثرة، وحوّلها عبر التضاؤل المستمر في مساحة حرية نشاطها وتهميشها وعزلها عن جماهيرها، إلى ملاحق محدودة التأثير على الأنظمة الانقلابية «العسكرتارية» وذلك عبر رضوخها للأمر الواقع، تحت وهم دعم ما هو وطني، وفي أحيان تقدمي، والأنكى من كل ذلك «اشتراكي..!» وهذا ما حدث في عراق ما بعد انقلاب شباط في عهد الأخوين عبد السلام وعبد الرحمن عارف وصولاً للوثوب المشبوه بوسائله الذي كشف عنه تصفية العناصر التي نفذت انقلاب القصر في 17 تموز بعد بضعة أيام في 30 تموز من العام 1968. وقد اتضح مما جرى، أن الدور الموكل للبعث هو الإجهاز على ما تبقى من قوى النهوض بالبلاد، وتهميشها وتحويلها إلى أطر تعيد اجترار أخطائها التاريخية.
كانت المرحلة الأولى من مخطط الانقلابيين هي إعلان براءة مشفوعة بتعهدات مؤكدة لكنها مراوغة من ارتكابات البعث الإجرامية الكبرى في 8 شباط 1963. بيد أنّ تلك البراءة الإيحائية ظلت تحمل طابع الوعيد «المبطن» بأنّ أيَّ تحدٍ معارضٍ لسلطة البعث سيواجه بذات الأساليب التي شهدتها أقبية التعذيب والموت في قصر النهاية. وبالفعل لم تتوقف أجهزة النظام الجديد عن الملاحقات والاعتقالات وتعذيب المعتقلين، بل وتصفيتهم جسدياً في عهدهم الجديد. وكان الموقف من تصفية «القيادة المركزية للحزب الشيوعي» بالنسبة لهذه السلطة الانقلابية هي «بروڤة» عملية لتأكيد استمرارية نهجها الفاشي دون أي تغيير، ما خلا طبيعتها «الاحتوائية» عبر الاستمالة السياسية المخادعة، واعتماد السياسة الخارجية كأداة إيهام بإظهار الطبيعة التقدمية الجديدة للبعث والانحياز إلى «المعسكر الاشتراكي» والاتحاد السوفيتي يومذاك. ولم تكن سلسلة قرارات النظام التي توجت بإبرام اتفاقية التعاون والتحالف مع الاتحاد السوفيتي، والتحالف المميّز مع كوبا، والعلاقة الشخصية الدافئة بين صدام وكاسترو، سوى جانب آخر من مظاهر الوهم، والإيهام بتغيير طبيعة سلطة البعث الجديدة و»التكفير» عن الجرائم التي اقترفتها في عهدها الفاشي الأول في العام 1963.
لقد أظهرت هذه السلطة من خلال ما مارسته من تعذيب وحشيٍّ وقتلٍ، وإظهار المُعَذّبين على شاشة التلفزيون الرسمية، الوجه الحقيقي لها كنذيرٍ لمن يتوهم ويتمادى على سلطتها ونفوذها. وهذا النذير وما أظهرته الممارسة المعلنة بوقاحة على الملأ لهي تفقأ العين بوضوحها، وتشكل عبرةً لمن اعتبر.
تلك الخديعة التي مارسها البعث مع الشيوعيين شكلت إغراءً تاريخياً، دفع الحزب وكوادره وقاعدته الحزبية والجماهيرية نتيجتها الآلاف من المعتقلين، والشهداء، والمنكسرين الملتاعين بـإيمان كامن، لا يكسرهُ إلا ضعف الطاقة الجسدية على تحمل العذاب!
ولمن فاتته مشاهد الانحطاط السياسي المتتالي بكل ما انطوت عليه من عنفٍ وتدميرٍ وتفسّخٍ للقيم والتقاليد، ومن تفكّكٍ للمنظومات الاجتماعية بكلّ ما تحملهُ من عناصر التكافل والتظافر، ومن تصدّعٍ لهياكل الدولة وأجهزتها ومؤسساتها، فيكفيه أن يستذكر الجيل المكّبل بأهوال الحرب العراقية الإيرانية، وحروب الخليج المتتالية، والهزائم التي نتجت عنها، وما تبدد من ثروات البلاد، وأرواح مئات الآلاف من العراقيبن . ولعله يستعيد مع أفراد أسرته وذويه وأقربائه، معاناة الحصار، والفقر والآفات الأخلاقية والاجتماعية التي تسببها، ليتعرف فيها إلى ثقافة كانت تسود مثلما تسود اليوم ثقافة الفساد وتجلياته، وكما تترسخ الآن مظاهر الحكم المنفلت من أيّ قيدٍ أو قيّمٍ رشيدة.
لقد شهدت عودة البعث الثانية في العام 1968 الحاضنة والبيئة الممهدة لاستكمال “الانتقام التاريخي” من العراق والعراقيين، فتمّ تبديد كامل الثروة العراقية، وجرى تدمير البنى التحتية، وإزهاق أرواح ملايين العراقيات والعراقيين في مسالخ النظام وأقبية التعذيب والموت، وفي الحروب العبثية الداخلية والخارجية، وفي مجاعات الحصار الداخلي والخارجي. لقد تمّ إفراغ “الدولة” من جميع مقومات وجودها وهياكلها الدستورية، حيث باتت متوحدة مصيرياً مع “كيان وديمومة” القائد الضرورة الأوحد، وباتت سهلة المنال بعد أن فقدت كلّ مقومات وهياكل وجودها، بحيث أخذ بنيانها وحضورها يتداعى مع انسلاخها عن قاعدة وجودها المتوحدة مع القائد وإرادته المهيمنة..
لقد أصبح العراق بعد آخر مغامرات الطاغية بيئةً طاردةً للإرادة الوطنية التي تقوم في الدفاع عن كينونته، وبيئة جاهزة للانهيار والتفكك، وبات شعب العراق بما تلبّسهُ من يأسٍ وأحاط به من شعورٍ بالهوان والعزلة مستعداً لقبول الخلاص، دون اشتراطٍ أو تحفظ على هوية “المخلّص”، أيّ مخلّص كان !
لم تنفع كلُّ دعوات رفض الحرب كوسيلة للخلاص، ولم تتحقّق أيٌّ من المناشدات لتوحيد القوى العراقية على ما هي عليه من ضعف وتنافر في الأهداف والوسائل، ولم يرتدع الطاغية ولم يبدِ أيَّ قدرٍ من المرونة والتبصر والاستعداد لتجنيب البلاد والعراقيين من المصير المنذر بالخراب والانهيار، والذهاب إلى المجهول.
في تلك البرهة العراقية الكسيرة بتنا في مرمى الخراب الكليّ، وأصبح “شبه الدولة” المرتهنة للطاغية، مستسلمةً لأقدارها، مفتوحةً على الخراب الكامل، لتتحول خلال أيام من عبور أوّل دبّابة أميركية على جسر الجمهورية إيذاناً بالانكسار التام للبقايا “الشكلية” من الإرادة الوطنية الجسورة التي كانت وراء معجزة صناعة ثورة 14 تموز 1958، ومن ثم لتتداعى شبه الدولة وتتحول الى خرائب وفضلات على قارعة الطريق…! لتكتمل بذلك فصول الانتقام من العراقيين تمهيداً لمسخ إرادتهم، من خلال مصادرتها وذلك بتمكين أشباه رجال آتين من خلف حدودٍ مشتبه بنواياهم، مجبولين على الارتهان لكل ما يشيع الفساد والنهب والجريمة المنظمة والسلاح المنفلت والميليشيات الولائية الوقحة اللاوطنية. وهم مصممّون على الإمعان في تصفية كل مظهر من شأنه أن يؤسس لإرادة عراقية تعيد دولة قادرة على أن تستعيد سيادتها، وتكرّس ولاء شعبها للوطن .
ويكفي لمن يظل حائراً أمام تساؤله المرير:
لماذا ألغى البرلمان الاحتفاء بثورة 14 تموز بوصفه عيداً وطنياً.. بما يحمله من رمزية تعبر عن الوحدة الوطنية الحقيقية، وعن تاريخ الانتقال من الملكية إلى الجمهورية..
لماذا ترافق هذا الإلغاء مع إضافة عيد الغدير بما يثيره من تنافر في احترام “دلالاته المذهبية” لدى مكون يشكّل الأكثرية السكانية التي لم تعد محرومة من أي طقس وحضور..
لماذا تبقى قرارات “مجلس قيادة الثورة” البعثية بكل ما ترمز إليه ساريةً حتى الآن ..