يتطلع كل وطني عراقي، لم يتلوث بوصمة الموالاة للأجنبي، إلى تحرير إرادة شعبه وانتزاع سيادة واستقلال بلاده من أية قوة غاشمة أو دولة غاصبة أو نفوذ طامع، مهما كان طابعه، عسكرياً أو سياسياً أو دينياً مذهبياً .
وقد فقد العراق سيادته الكاملة بعد احتلاله من قبل التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة في نيسان 2003 بعد أن جرده نظام الاستبداد البعثي طوال أزيد من ثلاثة عقود من مقومات الدولة وأركان وجودها بمفهومها المعاصر، واستعبد شعبها مما مكَّن الاحتلال الأميركي وحلفاءه بيسر ملفت من الإطاحة بها وتحويلها إلى أنقاض مبعثرة على قارعة الطريق .
ومن يومها، في التاسع من نسيان 2003 تبدد حلم استكمال دولة وطنية عراقية الذي ظل يراود العراقيين كلما تعثروا بما يضعهم أمام كوابيس من يعبثون بمقدراتهم ويؤكدون حضورهم بقوة السلاح المنفلت والموالاة لأولي أمرٍ خارج الحدود .
ولم تعد السيادة والاستقلال مفهوماً متوافقاً عليه، بين القوى المكوناتية المتصارعة على السلطة والتخادم لنهب ثروات البلاد وتجريد المواطنين من حقوقهم الدستورية، لا يرقى إليه الشك، بعد أن صارت الموالاة تحت عباءة الدين والمذهب بامتدادها خارج الحدود في كل الاتجاهات مذهباً تدين به القيادات السياسية ولا ترى ما يردعها من المجاهرة به تحت قبة البرلمان وفي وسائل الإعلام والاتصالات، وكأن التبعية والعمالة لم تعد من بديهيات الخيانة الوطنية .!
وإذا كان مفهوماً، كتوجه وطني معتمد العمل المتواصل بما يهيئ شروط ومتطلبات إنهاء أي وجود عسكري للقوات الأجنبية ونفوذ سياسي متسلط لدول عابثة بأسباب السيادة وحرية الاختيار، فإن التعامل مع الأمم المتحدة ومنظماتها وبعثتها، ينبغي أن لا يجري التعامل معها باعتبارها من “شروط السيادة” وإنما في إطار مدى “التمكين” من تصفير الإشكاليات المؤسساتية والتصدعات المجتمعية الناتجة عن ويلات الأنظمة الاستبدادية وكوارث الحروب التي تسببت بها وأدّت في نهاية المطاف إلى سقوط الدولة وانهيار مؤسساتها وبناها. وهذا ما كان في أساس الحاجة والرغبة لطلب العون الأممي، المتمثل في بعثة الأمم المتحدة والممثل الشخصي للأمين العام للاستفادة من رصيد خبراتها وتجاربها وهيبتها لتقديم الدعم السياسي والاستشارة المتعددة الوجوه لحل ما يواجه العراق من تحديات لإعادة بناء الدولة المنهارة وإرساء أسسها المشوهة المنهارة وفقاً لدستور ديمقراطي اتحادي يُشرّع في إطار دولة المؤسسات والحريات والحقوق والمواطنة الحرة المتساوية.
وقد بات العراق بعد انهيار دولة البعث بأمس الحاجة للخبرة الأممية في معالجة أوضاعه الاستثنائية – الانتقالية التي واجهتها البلدان التي تعرضت كياناتها للتصدع والتفكك والانهيار، بعد عقود من خضوعها للاستبداد والحروب الداخلية والخارجية وعواقب الانهيارات الاقتصادية والحصار الجائر. والعراق يشكل النموذج الأعلى بين الدول التي اجتازت كل أنماط التسلط والتآكل والأزمات المستدامة وإعادة تدويرها حتى اليوم .
ورغم كل الضجيج السياسي المثار حول “معافاة الدولة العراقية من مخلفات نظام البعث وعبث القيصر الأميركي بريمر في إدارة الاحتلال” فإن أي استعراضٍ موضوعي لحصيلة ما أنجز سيسفر عن إسدال الستار عن الحقيقة المرة التي تؤكد بأننا صرنا تحت سلطة اللادولة الخاضعة كـ”خرابة” أعيد تشكيلها بأنقاض دولة البعث وقوانينها وتشريعات مجلس قيادة الثورة ..!
ويكفي أن نعيد قراءة وثيقة تحالف إدارة الدولة وبرنامجها السياسي التي وقع عليها قادة الأحزاب المؤتلفة لنتأكد بأن كل البنود الأساسية للوثيقة وفي مقدمتها تصفية السلاح المنفلت للميليشيات القائمة فوق الدولة وفي عمقها المستور لم تنجز، بل توسعت مساحات هيمنتها وسطوتها وحرية انتهاكها لأبسط مقومات وجود “شبه دولة” وللمبادئ والبنود الأساسية للدستور وقانون الانتخابات التي تحرم مشاركة التنظيمات المسلحة في هياكل “الدولة” وسلطتها. وهذه كلها هي من بين مهام البعثة المطالبة بالتأكد من إنجازها والتي تضمنها بروتوكول اعتمادها والقرارات الأممية حول العراق كجزء من مضمونه.!
ومن هنا يبدو ملفتاً ومثيراً للاستفهام مبادرة وزير الخارجية بالدعوة لإنهاء مهمة البعثة الأممية، بزعم انتفاء الحاجة لدورها، بعد أن “تعافى” العراق وأصبح قادراً على إدارة ملفاته، ومواجهة المهام والتحديات التي تتربص به داخلياً وخارجياً. ويبدو أن السيد رئيس مجلس الوزراء استند في دعوته لإنهاء مهمة البعثة الأممية على مبادرة وزير الخارجية التي غابت عنه، بوعي أو بغفلة “حيثيات”، القرار الاممي باعتماد البعثة بعد احتلال العراق وما تعرضت له البلاد من ويلات تتطلب تدخلاً أممياً مبنياً على خبراتها ورصيد التجربة التي اكتنزتها مما واجهته العشرات من الدول والأمم الأخرى. لقد انطلق الطلب العراقي الرسمي من مفهوم يبدو فيه وجود البعثة الأممية عامل اخلالٍ بالسيادة الوطنية، لا يختلف عن وجود القوات الأميركية أو أي وجود أجنبي، ويعكس ضعف وهشاشة قدرة الحكومة على معالجة وإدارة شؤونها وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل التي تواجهها. وإنهاء وجود البعثة من بين شروط استعادة السيادة، حالها حال المطالبة بإنهاء الوجود العسكري لقوات التحالف الدولي !
إن المهام التي أنيطت بالبعثة عند تكليفها بالاتفاق مع الجانب العراقي تتضمن مهاماً موصوفة، وتعهداتٍ ببقاء البعثة لحين إنجازها جميعاً. وإذا أردنا تجاوز حال الكيان العراقي المتصدع بسبب عدم استكمال بناء الدولة، وتلكؤ، بل تعمد عرقلة تطبيق الدستور على عوراته، وإبقاء العديد من مواده وبنوده التأسيسية بلا تشريعها بقوانين، فإن طائفة المهام التي أكد عليها قرار التكليف لا تزال بحكم المنسية أو المغيبة ومنها ما يتعلق بمجلس الاتحاد وقانون النفط وعشرات البنود الأخرى، والإبقاء على المحكمة الاتحادية دون استكمال وإقرار بنيتها وقانونها، وتحويلها في ظل الأوضاع الشاذة الخطيرة بوجود الميليشيات وسلاحها المنفلت خارج إطار الدولة، كما يقول البعض أشبه إلى مجلس قيادة الثورة، تبدو في نهجها وقرارتها فوق السلطات الثلاث .
ويكفي الاطلاع على برنامج تحالف إدارة الدولة، والتمعن في المهام البرنامجية التي اعتمدها التحالف لتبين بوضوح أن أياً من تلك المهام لم يتحقق أو ينجز جانباً منه، ويكفي التدليل على ذلك من توسع نفوذ الميليشيات والمنظمات المسلحة وسلاحها المتفوق على سلاح الجيش والقوات المسلحة الحكومية وعملياتها العسكرية لا على الإرهابيين وداعش بل على مناطق متفرقة من البلاد وخارجها. وينطبق الأمر على بقية المهام: مصائر اللاجئين في المخيمات ومنعهم من العودة إلى مدنهم. الإبقاء طي الكتمان من كان وراء تصفية أبطال انتفاضة تشرين، ومن هم قتلة أكثر من ألف شهيد أو بضعة مئات حسب تقدير الجهات الحكومية وعشرة آلاف أو أكثر أو حتى أقل حسب ما تريد الاعتراف به الجهات الأمنية الحكومية من الجرحى والمعاقين. وأين هم المغيبون والمفقودون؟
ومن المؤسف أن وزير الخارجية تناسى أو لم يتوقف عند عدم تنفيذ البند المتعلق بالمادة 140 الخاص بالمناطق المتنازع عليها وهي من بين المهام المطلوب إنجازها قبل إنهاء وجود بعثة الأمم المتحدة “يونامي” ..!
إن اعتماد البعثة في قرار مجلس الأمن نص على أن مهمته دعم الحكومة والشعب لتجاوز ما تعرض له ونتج عنه من انهيارات وتصدعات وخراب . دعم الحكومة بالمشورة والتمكين، والدفاع عن الحريات والحقوق للشعب العراقي .!
ومن بين إصرار الطغمة المتسلطة بإنهاء وجود البعثة، حرمان العراقيين التواقين لعراق ديمقراطي اتحادي تعددي مكفول بدستوره، من الإحاطة الدورية لممثلة الأمين العام التي تشكل إلقاء الضوء والإشارة إلى مظاهر التعديات وانتهاك الحريات والتجاوز على الدستور .
ويأتي هذا الطلب في ظل سلطة سياسية تتمثل في الاطار التنسيقي مع ان قواها مجتمعة لم تحقق في الانتخابات سوى أقلية لا تمثل حتى الثلث المعطل المستورد من الفضلات السياسية اللبنانية.!