مسرحية “حراسة مشدّدة” معمارٌ من الفراغ والكلمات! (*)
علي كامل
في كتابه الموسوم “القديس جينيه ممثّلاً وشهيداً” كتب جان بول سارتر: إذا كان جينيه قد حددَّ عالمين
متعارضين ومعاديين هما عالم الشر وعالم الخير، فإن كلاهما على حد سواء، قد دفعاه نحو الخلف، وهذا ما ضاعف لديه الاحساس بالإثم. طرقه وأساليبه البرجوازية النكهة التي لم يفقدها بعد تماماً، قد ولدّت لديه إحساساً بالإذلال في أن يكون عارياً يرتدي فقط مقدرات عقلية لا توصف. وحين اختار ميدان الشر راحة له وإغاظة للآخرين، كان عليه أن يعترف بحقيقة واحدة وهي أن هذا الميدان هو أكثر شروراً منه”.
لم يختر جينيه عالم الشر بمحض إرادته بل دُفع إليه بعنف وقوة من الخارج، أما السجن الذي نعثر عليه في جلّ أعماله الروائية والشعرية والمسرحية، والذي يبدو سجناً واقعياً حيناً ومجازياً حيناً آخر، فمسوّغه أن الكاتب عاش منذ طفولته لصاً مشرداً، لذا أصبح السجن ملجؤه الوحيد، وهو حقاُ المكان الحر والمنزل الآمن لإنسان منبوذ من عائلته أولاً، حيث تخلّت عنه والدته وهو في العاشرة من العمر ليعيش ذليلاً على موائد الآخرين، ولأنه مرفوض من المجتمع ذاته ثانياً، ذلك المجتمع الذي تعامل معه مثل كلب سائب وسارق صغير، وجملته الشهيرة “سوف أكون لصاً” ما هي إلا فعل ضخم وخطير لخيار وجودي.
غربته القاسية هذه يمكن أن تجد لها صدىً حزيناً في كلماته التي كتبها عام ١٩٧٧ وهو يصف الانعطاف الحاسم في موقفه من حياته، حيث يقول: “لقد تعلّمت أن أكون غريباً بطريقة مضحكة وحمقاء جداً. ففي أحد الأيام طلب منا المدرّس كتابة موضوع صغير يصف كل واحد منا بيته، وحين انتهيت من كتابة الموضوع، قرأه المدرّس بصوت عالٍ أمام التلاميذ، وما أن انتهى من ذلك حتى ضج الجميع بالضحك والسخرية مني قائلين: “ولكن هذا ليس بيته.. إنه لقيط”.
كان جينيه زبوناً دائماً للسجون وقد كتب معظم أعماله في سجونه الانفرادية تلك، وحتى في خروجه منها ظلت تلك الزنازين الرطبة والمعتمة هاجسه الوحيد، وما خياره لفضاءات الشرور والجريمة تلك، إلا نوعاً من الثأر وإغاظة الآخرين ممّن نبذوه. إلا إن التمرد الذي يكون مبعثه الغيظ لا يقود في الآخر إلا إلى خراب وهزيمة للتمرد الأكبر حتماً، ذلك أن الغضب هو إحدى العلامات الموحية بعقدة النقص والإحساس بالدونية.
إن جُلّ نتاجات جينيه تكشف عن معضلته الخاصة، إلا أنه لم يكن مطلقاً بطلاً للجريمة أو مبشرّاً بالشرور، فكل ما سعى إليه هو محاولته الغوص عميقاً جداً نحو القعر، هناك حيث بالإمكان العثور على حالة أكثر نقاءً وإجلالاً من عالم يطفح في البؤس والشرور.
إنَّ قبوله رفض المجتمع له وغوصه في المناطق المحظورة والمحرّمة أخلاقياً قاده إلى قاع الرفض المطلق، ذلك القاع الذي أحالته مخيلته إلى ما يشبه المَطهر، على الرغم من أن طقوسه تلك تجري ضمن دائرة الشر!.
(زنازيـن المخيّلة)
“حراسة مشدّدة” كتبها جينيه في قاع إحدى زنازينه الباريسية عام ١٩٤٧ وهي تحكي قصة ثلاثة سجناء يشكلّون هرم الجريمة. على قمة ذلك الهرم يقف شخص يدعى أبو العيون الخضر (٢٢عاماً) والذي يقاد إلى المقصلة في غضون شهر، بسبب قتله إحدى المومسات. يليه الثاني، وهو ليفرانك (٢٣عاماً) السجين الذي سيطلق سراحه بعد أشهر، أما قاع الهرم فيحتله صبي في السابعة عشرة من العمر اسمه موريس، دخل السجن طواعية لينضم إلى معشر القتلة!.
المسرحية تخلو تماماً من حكاية مألوفة أو حبكة تقليدية. إنها أشبه بطقس جمعي تُمارس الشخصيات فيه شعائرها بحثاً عن قناعات ما خاصة. شخصياتها هي بمثابة أساطير مجسدّة وليست وقائع حيّة، إنها مرايا تعكس صور بيجماليون أو نرسيس كما في الأسطورة اليونانية.
الطقس هنا بدائي جداً لأن الرمز فيه غير منفصل عن الفعل.. إنها أفكار جمعية مشتركة تقود شخصياتها إلى نوع من الشغف والافتتان بفضاء الجريمة كنوع من البحث عن هُّوية. فهي تنتحل أدواراً تعرض من خلالها بطولات وهمية وجرائم محبطة، كتلك التي نعثر عليها في مسرحياته الأخرى مثل “الخادمات” و “الشرفة” و “الزنوج”.
أبو العيون الخضر في مسرحية “حراسة مشدّدة” يتمرد بشكل عابث ضد الجريمة التي تنتظره، محاولاً دون جدوى، الزوغان من الوقوع في مصيدة مصير حتمي كهذا، إلا أنه مع ذلك يصبح مقيداً بإحساس آخر، إحساسٌ غريب يغويه ويدفعه لإنجاز ذلك الطقس الذي هو الجريمة. إنه “الآخر” الذي يُقيم في داخله هو من يدفعه نحو تلك الحفرة العميقة التي يقبع فيها الآن، ليس كسجين، إنما منقبٌّ فضولي عن المعنى!.
لقد استطاع أبو العيون الخضر أن يغرق في فيضان مخيلته تماماً مثلما غرق نرسيس يوماً في النهر وهو يتطلع نحو جماله الأسطوري على صفحة الماء. بهذه اللغة يتحدث أبو العيون الخضر بعد سقوطه في وحل الجريمة:
“تُرعبني صورة ذلك الجلاد الذي ينتظرني. لقد أردتُ عوناً من أحد. أحد ما يوقفني ويمنعني من المضي أبعد. حاولت ذلك بمشقّة.. هربت.. ركضت في كل الاتجاهات.. حاولت أن أكون أي شيء، أيّ شيء، على أن أكون مُجرماً.. حاولت أن أكون كلباً.. قطةً.. حصاناً.. نمراً.. منضدةً.. حَجراً.. حاولت وحاولت. حاولت أن أكون وردةً.. حاولت أن أُعيد عقارب الساعة إلى الوراء وأستأنف حياتي السابقة. كان بوسعي
القيام بذلك بكل يُسر، لكن جسدي لم يطاوعني. نعم جسدي هو المجرم الذي دفعني نحو الجريمة”.
وفي مكان آخر يتحدث عن آلية قدره قائلاً: “الأشياء حدثت من تلقاء نفسها. كل ما فعلتهُ هو مجرّد
إيماءات، إيماءات قادتني بهدوء إلى المقصلة”.
لحظات مرعبة كهذه تشق الأرض من تحت أقدامنا لنهوي عميقاً في لُجّة العتمة. الكمال التام يصبح ضرورةً وسبباً، ومن ثم، فجأة، يصبح مشوشاً، ذلك أن الظروف والملابسات قد ابتدأت القيام بالفعل ارتباطاً بالإمكانية الوحيدة له هو كمجرم للمستقبل. الإدراك نفسه يتغير هنا ويصبح متشيئاً، حيث الأشياء تُحاكي الفعل وتُنجزه بعُجالة وبوقت مختصر.
إنها موضوعة هيجل في بحثه “علم الظواهر” حين يغرق الوعي في لُجّة المظهر البرّاني مكتشفاً ذاته في الأعماق السحيقة، حيث الاستلاب والعُزلة، مُنقذاً نفسه عبر إحالة الأشياء إلى أسبابها واستجاباتها.
أبو العيون الخضر هو مجرم حقيقي لأنه ارتكب جريمته بوعي كامل، أما ليفرانك فهو مجرم زائف على الرغم من خنقه للصبي موريس في لحظة غضب في الآخِر. إنه يبحث عن المجد مجسداً في فعل
الجريمة، إلا أنه يخيب في تحقيق ذلك لأن إنجازه لجريمته ما هو إلا هدفاً في التفوق على أبي العيون الخضر والقفز إلى قمة الهرم لا غير.
الوعي، في مسرحية “حراسة مشددّة” هو وعي خائن ومضلل، لأنه قابل أن يخضع ويستسلم بيسر، وجينيه يُظهر لنا هنا التعارض الحاد بين جريمة مفروضة ومُحتّمة وأخرى مُنتحَلة.. جريمة بيضاء وأخرى سوداء إذا جاز القول. والجريمة هي، في كل الأحوال، ليست فعلاً جميلاً في ميدان الفن يدفع جينيه إلى إقناعنا بالمبدأ النيتشوي الذي يدعو لعدالة اللصوص هذا الفرز الجلي، لأنها، بغض النظر عن دوافعها ونتائجها الكارثية، هي عدالة سلبية في الآخِر. فليس ثمة رابطة حقيقية بين المجرمين واللصوص، وإن كل ما يجمعهم هو الشغف بالأذى. هذه الثيمة يمكن العثور عليها في مسرحية
“الخادمات” و “الزنوج”، فالحب والكراهية بين الشقيقتين في “الخادمات” وحسدهن لربّة المنزل الذي يعملن فيه ومحاولتهن تسميمها، كل ذلك ينقلب إلى الضد، فحين تُحبط محاولة الشقيقة الصغيرة كلير في قتل سيدتها عن طريق وضع السُم في كوب الشاي، يضطرها ذلك إلى القيام بفعل انعكاسات المرايا أو لعب الأدوار، فها هي تلعب دور السيدة إزاء شقيقتها التي تقوم بلعب دور كلير نفسها لتسقيها الشاي المسموم كي تشربه وتموت في الآخر منتحرة. هذا الانتحار الذي يمثل نوعاً من السمّو والمجد من وجهة نظر كلير.
ليفرانك، في “حراسة مشددّة”، هو الاخر يفشل في تحقيق تفوَّقه على أبي العيون الخضر، فبدلاً من قتله يخنق موريس الصغير ظناً منه أنه هو من سيكون مجرم المستقبل الذي سينافسه في مهنته!.
لعبة الأدوار هذه هي واحدة من الوسائل المميزة لتقنيات جينيه. إنها اشبه بالخدعة ما دام كل شيء هو مجرد تمثيل أو محاكاة لشيء أو شخص، وليس هو الشيء ذاته أو الشخص ذاته. إنه مجرد مرآة تعكس خيالات الآخرين لا الأشخاص أنفسهم، وليفرانك، من هذا المنطلق، يلعب دور مجرم من وجهة نظر أبو العيون الخضر.
الزنزانة ذاتها تتحول إلى مرآة تعكس الآخَر الذي هو (الخارج) عبر استبطان الشخصيات وخيالاتها التي هي (الداخل). والهرم الاجتماعي (الخارج) يجد صورة هرم آخر له في (الداخل).
لعبة المرايا هذه نعثر عليها في جُلّ أعمال جينيه، بل يمكن القول إن مسرحياته كلها يمكن أن تكون مرآة كبيرة واحدة مهشمة ومشوهة، وفي ذات الوقت، ناصعة وباروكية. إنها “معمار من الفراغ والكلمات” على حد وصف أرشيبالد مكليش.
(الرؤية الإخراجية)
خشبة مسرح “بارون كورت” التي قُدّم عليها العرض ظهرت أشبه بحظيرة حيوانات أو زريبة داخلها قفص بحجم زنزانة جينيه في “حراسة مشددّة”.
بفضاء رمادي مائل للعتمة وثلاثة ممثلين مسعورين يتناوبون النوم على سرير واحد، تدلت حقائبهم المرقمة من أعلى السقف، كما لو أنها حبال مشانق. وخلف الكواليس تُسمع خطوات الحارس رتيبة ومهددِّة شبيهة بخطى ملاك الموت.
ثلاثة ممثلين فقط: بريت ألان (أبو العيون الخضر) وأندريه بريدورد (ليفرانك) ومارك هومر (موريس) والحارس الأسود الذي يلعبه الممثل ألان داوسن. وثمة شخصية رابعة لن تظهر على خشبة المسرح، إنما سنسمع عنها عَبر حديث السجناء، ألا وهي شخصية السجين الزنجي “سنوبول” بطل الجريمة والمثال الأعلى وهي الشخصية التي يحتذيها هؤلاء المنبوذون الثلاث.
إنها مباراة وحشية وقاسية تدور ضمن هذا البناء الهرمي لمجتمع هذه الزنزانة، حيث تدخلنا إلى حلبتها “تيري بوتوشنا” مخرجة العرض، لنشهد من خلالها واحدة من أكثر طقوس جينيه كابوسية ورعباً.
ارتكزت بنية العرض على قوائم ثلاث، ممثلين ثلاث حملوا على كاهلهم عبء نص مسرحي عسير ومبهم. في وحدتهم وتعارضهم كانوا يعكسون جوهر فكرة توحّد المجرمين في مظهرهم البرّاني وتنافرهم في جوهرهم الداخلي، عبر حوار مسعور وحركات آلية حادة وعنيفة. إنهم يتوحدون وينشطرون كالموج في لحظات خاطفة بإيقاع مُحكم بدوا لنا وكأنهم شخص واحد مشطور إلى ثلاثة أقسام.
الحارس الذي لم يظهر إلا مرتين طوال العرض، إحداهما عابرة لكنها مرعبة، والأخرى مباشرة بعد خنق الصبي موريس من قبل ليفرانك، إلا أن الممثل (الآن داوسن) الذي لعب دور هذه الشخصية، بسحنته السوداء وعينيه البرّاقتين، أظهر شخصية الحارس كما لو أنه حفاّر قبور ينتظر الجنازة القادمة بفارغ صبر.
أما سنوبول، الذي لم يظهر على خشبة المسرح مطلقاً، فقد تولّت مخيلتنا رسم ملامحه طيلة مدة العرض، من خلال إيحاءات الممثلين ونثار عباراتهم، كما لو أنه قدر يوناني يقود أبطاله نحو حتفهم.
الزنزانة ذاتها، برماديتها الخانقة، بدت أشبه بقبر أو قاعة تشريح جثث تسربت في عروقها جرثومة الشر والموت لتذهب كل واحدة منها إلى طريق مرسوم سلفاً، موريس إلى القبر وأبو العيون الخضر إلى المقصلة وليفرانك وحيداً في زنزانته الأبدية.
لم يكن العرض سوى طقس وانعكاسات مرايا، لا بل سأذهب إلى القول دون تردد إلى أنه كان أشبه بحفل تنكري أو رقصة أخيرة تكاد تتماهى ورقصة الموت.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)
ثمة عنوان آخر للمسرحية (بالعربية) هو “حارس الموت” أو “خفارة الموت”، لكنني آثرت عنوانها بالفرنسية (حراسة مشددة)!