“ولد آرثر ميلر والقلم في يده”
هارولد بنتر
(ماذا يحدث حين لا يستطيع الإنسان أن يحقّق ولو انتصاراً صغيراً في حياته)؟!
السؤال الذي كان يؤرّق آرثر ميلر
لندن: علي كامل
حين توفيَّ آرثر ميلر كان محاطاً بثلاثة أشخاص فقط، شقيقته الممثلة جوان كوبيلاند، وابنته المخرجة السينمائية ربيكا، زوجة الممثل دانيال داي لويس، والرسامة أگنس بارلي .
ربما سيتذكره البعض بصورة زواجه الدراماتيكي غير الموفّق من مارلين مونرو، تلك الزيجة التي أطلقوا عليها حينها “اتحاد الجسد والفكر”. “وربما سيتذكر البعض الآخر، ذلك الليبرالي الراسخ الوفي، الذي لم يشِ بأحد من أصدقائه في عهد المكارثية. أما الذي سيرسّخ ذكراه إلى
الأب، فهي نصوصه المسرحية، هذا الأرت الثمين الذي أسس له موقعاً مهيباً، كأعظم درامي في القرن العشرين. ولعل أشهر أيقوناته تلك هي “كلهم أولادي” 1947 و”موت بائع متجول”
1949الحائزة على جائزة بولتيزر، و”البوتقة” 1954 و”منظر من الجسر” 1955.
“الحلم” الأمريكي أم “الوهم” الأمريكي!؟
إنَّ معظم شخصيات ميلر ترفض أنصاف الحلول، وتسعى لأن تمنح اسمها “سمعتها” صدىً وتأثيراً كبيرين ضمن سياق الحلم الأمريكي، حتى وإن كان ذلك من شأنه أن يخلخل عالمها الأخلاقي والروحي أو يتأسس على حساب الآخر. وحين تتصادم صورتا الحلم والواقع، تصحو تلك الشخصيات من “وهمها” يتجه مسارها صوب الموت بوصفه خياراً أفضل واستجابة وحيدة لتلك الخيبة.
فالمليونير (جو كيلر) الشخصية الرئيسية في مسرحية “كلهم أولادي” صاحب مصنع قطع غيار الطائرات يبيع قطعاً معطوبة لجناح الطيران الأمريكي، والذي يترتب عليها موت الكثير من الطيارين وبضمنهم ولده الأكبر لاي. حين تُكتشَف الفضيحة يصعد كيلر إلى غرفته ويطلق الرصاص على نفسه.
خطيئة كيلر ليس في محاولته أن يضع عائلته في مرتبة عليا في الهرم الاجتماعي، إنما في سعيه لتبرئة نفسه من المعصية التي أرتكبها والعناد الذي لا يقاوم في رفضه رؤية العلاقة التي تربط بين ذاته وأعماله، هذا الفصام الذي لا يلتحم. كذلك هو حال ويلي لومان، البائع المتجول الفقير والشخصية الرئيسية في مسرحية “موت بائع متجول”، فهو الآخر قد خدعته لعبة تسلّق
السلالم تلك اللعبة التي أحالته إلى ضحية للنظام الهرمي إثر كشفه حقيقة وعيه الزائف وجوهر النظام الاقتصادي الذي ضمِنَ، كذباً، النجاح في صعود تلك السلالم. ومع ذلك، ورغم إخفاقه المأساوي، واصل لومان كفاحه بعناد ذلك الكفاح الذي سينقلب ضده وهو ما يدفعه إلى الانتحار
ليؤمِّن لولده الأكبر الحصول على مبلغ التأمين على حياته وإنقاذ مشروعه التجاري.
آرثر ميلر يضع الضحية لومان والخائن كيلر نقيضين متقابلين ليجعل من هذا التناقض مفتاحاً لحل مغاليق آلية الميدان التجاري والصناعي في النظام الرأسمالي. ومع ذلك، ثمة شيء أعمق من ذلك، إنها الروابط الاجتماعية والإنسانية، تلك التي أُسسّت على قاعدة من الوعي زائف وخداع للنفس.
الكارثتان اللتان حلت بجو كيلر هما موت ولده في الحرب وسقوط اسمه في مستنقع الفضيحة، أما الحرب وصفقة الغيار المعطوب، فما هي سوى خلفية باهتة إزاء أوجاع النفس. أما سقوط لومان، فهو يكمن في زيف الصورة التي رسمها لنفسه، وإيمانه الأعمى بأوهامه الذاتية.
كيلر ولومان، هما ضحيتان برضاهما، رجلان تعلّقا بوهم خلقه مجتمعهما، وصوّره لهما على أنه يقين.
ولدت مسرحية “البوتقة” في مناخ هستيري أحكمت فيه المكارثية قبضتها الحديدية على عقول أعظم المفكرين والمبدعين الأمريكيين ما دعَ ميلر إلى استعارة حكاية ساحرات سالم، تلك التي تتحدث عن المجاعة التي فتكت بأهالي تلك القرية عام 1692 ودفعتهم إلى التمرد ضد السلطة، المتمثلة بالكنيسة، والتي سوغّت السبب إلى فعل الشيطان وأعمال السحرة، وادعّت أن الوسيلة الوحيدة لوقفها هو محاكمة أولئك السحرة وإبادتهم.
لم يستطع ميلر أن يزوغ من عين الرقيب، بالطبع، فقد أدركوا أن محاكمات سالم ما هي إلا وجه آخر أو مجاز لتلك المحاكم التي أقامتها المكارثية آنذاك في خمسينيات القرن المنصرم. أما “منظر من الجسر” فقد كُتبت هي الأخرى في ظل المكارثية بهاجس سياسي وأخلاقي في ظروف إرهابية غاية في الوحشية، حيث تزامنت مع انهيار شخصيات ثقافية مرموقة أمثال هاورد فاست وريتشارد رايت وجون شتاينبك وأخيراً المخرج السينمائي إيليا كازان، الذي وشى بصديقه ميلر نفسه في حضوره وأياه اجتماعاً للحزب الشيوعي الأمريكي، تلك الوشايات التي انتشرت وسط الناس العاديين كانتشار النار في الهشيم وطالت جميع العناصر الديموقراطية واليسارية آنذاك، والتي أعتبرها ميلر خيانة كبرى لا تختلف عن جرائم المكارثية ذاتها.
إيدي كاربون، الشخصية الرئيسية في مسرحية “منظر من فوق الجسر” يمثل هنا أنموذجاً مصغراً لأولئك الوشاة، أما البيئة التي اختارها الكاتب هذه المرة فهي بيئة المهاجرين الإيطاليين المقيمين على ساحل بروكلين، حيث كاربون، هو الآخر، موهوم برؤاه الكاذبة عن نفسه، في أنه مخلص وشريف، لكنه لا يتردد مطلقاً في أن يشي حتى بأحد أبناء جلدته من المهاجرين إلى سلطات الهجرة في الدخول إلى الساحل بشكل غير قانوني، بسبب غيرته وحسده من ذلك المهاجر. كاربون يموت أيضاً، ولكن هذه المرة على يد ضحيته.
الواقع، ثمة موضوع واحداً يكاد يجمع هذه المسرحيات الأربعة، وهو أن المجتمع عبارة عن آلة تصنع لنا صوراً وهمية عن أنفسنا ومصدراً يمدّنا بالخرافات والتحاملات، تلك التي تقدم لنا، في معظم الأحيان، الوجوه الكاذبة والقيم الزائفة التي يحملها إنساننا المعاصر.
واقعية المجاز أم مجازية الواقع
لجأ ميلر في خريف عمره إلى التعامل ليس مع ما أستخف به يوماً وأسماه بـواقعية الرصيف، إنما واقعية من نوع آخر، واقعية مشبعة بالمجازات والدلالات العميقة، ومسرحياته الثلاث
الأخيرة “مصرع مورغان” و “اليانكي الأخير” و “الزجاج المُحطََّم” هي نموذج ساطع لهذه الواقعية. فيها يعود إلى نمط كتاباته المبكرة تلك الموسومة بالمسرحيات العائلية، التي نُسجت حبكاتها من الزيجات المحبطة بين أُناس انطفأت في أعماقهم جذوة الحب، أُناس ظنوا مرة أنهم يشاركون بعضهم البعض نوعاً من القربى في زيجاتهم تلك.
“اليانكي الأخير” تتناول حياة زيجتان تقعان تحت وطأة حالة من التوتر والقطيعة سببها عدم تكافؤ الاحتياجات واختلاف الأهداف. باتريسا وكارين زوجتان تقيمان في مستشفى للأمراض العقلية، وتعانيان من مرض الاكتئاب. الأولى لا تستطيع التوفيق بين طموحات نشأتها الثرية، وبين الحياة المدقعة لزوجها اليانكي. أما العجوز كارين فسبب اكتئابها أنها لا تستطيع العيش في عالم زوجها الغارق بالمال والنجاحات التجارية.
ميلر يسلط الضوء هنا على تمزق الوشائج الأسرية، كنتيجة آلية للعلاقات الاقتصادية الجديدة، إلا أنه لا يغلق الكوى جميعها، فتراه يسرب خيوط ضوءه هنا وهناك في نسيج الدراما، ويقترح إشاعة روح الوئام والتسامح المشترك بين ذوي القربى لأنهم بأمس الحاجة إليه. لكن التسامح ما يفتأ ينجدل بغرائز أخرى مثل تسويغ الذات، حمايتها، أو الحفاظ عليها. بياتريسا مثلاً، تسعى أن تنتزع من زوجها اعترافاً واحداً، بأنه رجل فاشل وإن قيم اليانكي لم تعد تتماشى ومتطلبات العصر. أما محنة العجوز كارين فهي أنها لم تستطع الإنجاب، ومن جانب آخر لا تستمتع بعالم المال لأنه يسحق روحها ويثير في نفسها الرعب، لذا فهي تركن إلى الانزواء والوحدة ولا تغادر المنزل خوفاً من الزنوج كما تدعّي.
إنها شخصيات تعاني من العجز وخيبات الأمل، شخصيات تملكتها الريبة في أنها خُدعت، أو ربما لأنها تعاني من الشعور الدائم بالأتم في أنها أسهمت في حبكة تلك الخديعة.
أما “الزجاج المُحَطًّم”، وهي مسرحيته الأخيرة، فقد أستلهم ميلر فكرتها من حادثة كانت مخزونة في ذاكرته منذ ما يقرب الخمسين عاماً، تحكي قصة امرأة فقدت قدرتها على السير فجأة.
الأمر المثير في الحكاية، هو أن الأطباء جميعاً لم يعثروا على علة عضوية لشللها، واعتذروا من إعطائها العلاج المناسب.
هذه الحادثة كانت شغلت الكاتب لفترة طويلة وخلقت لديه شغف كبير في صياغتها بإطار درامي، إلا أنه “لم يعثر على الطريقة في معالجتها” على حد قوله، لأن ثمة فجوة كان من
الصعب ملؤها. إلا إنَّ تأمله المتواصل للحكاية، أكتشف، وعبر أحد السيكولوجيين، أن زوج تلك المرأة كان يرتدي السواد على الدوام، كما لو أنه في حالة حداد دائم على حياته!
صورة الزوجة المشلولة، وصورة الزوج وهو مرتدياً السواد، امتزجتا فجأة معاً في مخيلّة ميلر، وهكذا وبعد نصف قرن تدفقتا في إطار واحد، أولاً بعنوان مبكّر هو “رجلٌ في ثوب الحداد” ومن بعد “الزجاج المُحطَّم”.
في هذه المسرحية، ثمة ترميز واضح لأمريكا التي تعاني، ليس من أزمة اقتصادية، إنما من خلل روحي عميق. أما هذا الشلل الذي بدأ ينتشر في جسد هذه القارة، فسببه عقم الروح وموت الحب، أما الزجاج المُحطَّم فهو مجاز لمجتمع هش سريع الكسر.
إن محنة أبطال ميلر تكمن في إحساسهم بأن ثمة خطأ ما، ثمة شيء مفقود، ثمة فشل في العثور على أثر ما للمعن، عدم قدرتهم في العثور على مفتاح لحل مغاليق معاناتهم الشخصية، وأخيراً عجزهم الكامل عن تفسير المغزى العميق لتلك الحصارات النفسية والإحباطات وفشلهم في حل لغز تلك الخديعة.
حين يصبح الزوجان غريبين عن بعضهما البعض، فخلل كهذا يعكس الصدع الأكبر لميكانزيم المجتمع برمته. وهذا بالضبط ما عناه ميلر بـ “القلق العام والعصاب الخاص”.! إلا إنه وهو يرصد نمو ذلك الخلل، كان يسعى
في الوقت ذاته إلى البحث عن سبل لعلاجه، منيطاً بالمسؤولية للفرد في أن يمارس دوره دون استسلام أو يأس، إذعان أو طاعة.
مسرحيات ميلر جميعاً كانت تنطلق دائماً من سؤال بسيط: ماذا يحدث حين لا يستطيع الإنسان أن يحقق ولو انتصاراً صغيراً في حياته؟
كاتب مثل ميلر يعتقد أننا لسنا بمراقبين مسلوبي الإرادة إزاء ما يحدث لنا وما يحدث إزاء التأريخ. ثمة من يتخلى عن مسؤوليته، وثمة من يقبل بها، أما الخدعة الكبرى فتكمن في ذلك الإيمان
الأعمى بأننا ضعفاء، غير قادرين على التدخل في تحديد مصائرنا الخاصة، هذا “الشلل الأخلاقي والسياسي” يقول ميلر، “هو وحده الذي بوسعه تقويض العالم”.
***