فيض المخيلة في (الطاحونة القائمة على نهر فلوس) (The Mill on the Floss)
علي كامل: لندن
“إن مجرى سير البروفات بالنسبة لنا هو بمثابة منبر للمناقشات المفتوحة بشكل رحب وصادق من أجل طرح الأسئلة وتبنيّ المجازفات التي تعيد لفن الأداء مدياته غير المحدودة”.
(شعار فرقة مسرح (التجربة المشتركة)
إن أكثر العروض المسرحية اللندنية ألقاً اليوم هي تلك التي اقتبست نصوصها من روايات القرن التاسع عشر. ليس مهماً هنا سعة اللوحة وعمقها تلك التي أنجزتها مخيلة الروائي طالما هناك توق إلى البحث عن أساليب عرض ومعالجات مبتكرة، فقارىء الرواية، مثلاً، في مجرى عملية القراءة، التي هي عملية تلقـيّ ذاتي بحتة، بوسعه رسم ملامح الشخصية الروائية محتفظاً بملامحها في مخيلته، في حين يمكن لمتفرج العرض المسرحي مشاهدة تلك الشخصية ذاتها بشكل حسي خلال مجرى عملية التلقي المشترك، سواء مع جمهور المشاهدين أو مع العرض ذاته.
لا شك أن بنية الرواية، حين يتم مسرحتها، ستخضع إلى تغييرات، إلا أن هذه التغييرات تصبح في بعض الأحيان نوعاً من الكشوفات غير المتوقعة حين تُبرز إلى السطح تلك الومضات والدلالات الخفية التي كثيراً ما تغيب عن ذهن القارىء. ولعل النموذج الأكثر جلاء لتحديات كهذه يمكن تلمسه في المحاولات التجريبية المبتكرة لفرقة المسرح البريطاني Shared Experience Theatre “التجربة المشتركة”، في عرضها المبهر لرواية جورج إليوت (الطاحونة القائمة على نهر فلاس) التي أعدتها الكاتبة البريطانية هيلين إدموندسن وأخرجتاها بشكل مشترك كل من نانسي ميكلار وبولي تيل.
لقد فجّرت المُعِّدة والمخرجتان معاً في هذه التجربة المشتركة ذلك المخزون السيكولوجي الكامن في متن العنصر السردي للرواية ما دفع بالمتفرج حقاً إلى رغبة عارمة وعذبة لإعادة قراءة وتقويم ليس الرواية حسب، إنما التنقيب ثانية عن كل نتاجات ذلك القرن الخصب والمتلألىء.
محاولة إدموندسن هذه كانت قد سبقتها محاولات مشابهة لاسيما مسرحتها لرواية تولستوي “آنا كارنينا” التي كانت أخرجتها نانسي ميكلار أيضاً في منتصف التسعينات من القرن الماضي، كذلك إعدادها لرواية “الأمواج” لفرجينيا وولف التي عرضت مؤخراً على خشبة مسرح أوليفيه، القاعة المركزية في المسرح الوطني البريطاني.
“رواية السيرة الذاتية”
“الطاحونة القائمة على نهر فلوس” هي بمثابة سيرة ذاتية لحياة جورج إليوت (ماري آن إيفانس)، والمطّلع على حياة الكاتبة سيعثر في بورتريه ماكَي توليفر، الشخصية الرئيسية في الرواية، على صورة تتماهى مع طفولة الكاتبة ومراهقتها. فالعهد الفكتوري بأعرافه وتقاليده الصارمة في كبح عواطف المرأة وتطلعاتها آنذاك، كان بمثابة السد الذي وقف شامخاً بوجه ماكَي “بطلة الرواية”، مادفع الكاتبة إلى الكشف عن تلك المساعي الخفية لتقويض ذلك السد عبر تلك الفتاة الجامحة العواطف المتقدة الذكاء في خوضها حرباً مسعورة ضد النظام الأُبوي الذي كان يهيمن على العصر آنذاك، وهو ذات النظام الذي فرض على الكاتبة أن تتخفى وراء اسم رجل مستعار هو “جورج إليوت” في محاوَلة لتضليل الناشر والقارىء الفكتوريين على حد سواء، لأنهما كانا يتطلعان إلى المرأة باستخفاف وازدراء كبيرين. لكن على الرغم من أن انتحال الاسم لم يدم سره طويلاً إلا أنه، في كل الأحوال، كان بمثابة شهادة شجب وإدانة لذلك العهد. أما الذي أثار ريبة الكثير من القراء والناشرين حول ذلك الاسم فهو تشارلس ديكنز، فبعد قراءته للرواية، كتب مندهشاً:”إن المخيلة التي بوسعها أن تصف عالم الطفولة بهذه النكهة الأمومية لا يمكن أن تكون مخيلة رجل على الإطلاق!”.
“الموت غرقاً”
تتناول الرواية حياة ماكَي وشقيقها توم اللذين نشئا وترعرعا على ضفاف نهر فلاس بالقرب من قرية تدعى سانت أوكَس في عشرينات القرن الثامن عشر. ويمتد زمن الرواية من 10 إلى 15 عاماً، أي منذ طفولة توم وماكَي وحتى موتهما غرقا ً في نهر فلاس.
الرواية، إلى حد ما، هي بمثابة سيرة ذاتية تعكس المهانة التي لحقت بجورج إليوت (ماري آنـّا إيفانس) نفسها نتيجة علاقة الحب الطويلة بينها وبين شخص متزوج يدعى جورج هنري لويس. أما من ينسج خيوط السرد هنا فهي “ماكَي توليفر”، الشخصية المحورية في الرواية، من خلال علاقتها مع أخيها الأكبر “توم”، وعلاقاتها الرومانتيكية بـ “فيليب واكم” الأعرج والأحدب والصديق المثقف شديد الحساسية، وستيفن كَيست، الشاب المفعم بالحيوية والشخصية الإجتماعية البارزة في سانت أوكَس وخطيب إبنة عمها لوسي دين. العلاقة بين ماكَي وشقيقها توم تتواصل طوال الرواية وهي صلة حميمة ومعقدة، تُورق وتُزهر برغبة ماكَي في استرجاع ذلك الحب المطلق الذي كان يمنحه الأب قبل موته. إلا أن تلك الصلة تتقوض شيئاً فشيئاً، فالطبيعة البرجماتية والمتكتمة لتوم تتعارض مع مثالية ماكَي وتوقها المتوهج للتغيير والمواجهة والاكتشاف. فضلاً عن ذلك، الإفلاس الذي حلَّ بعائلة توليڤر والذي خلق الكثير من الأزمات، فعلاقة الضغينة بين والدي ماكَي وفيليب تُوّجت أخيراً بخسارة السيد توليڤر للطاحونة، أما موته في الوقت غير المناسب فقد عزز الخلافات بين توم وشقيقته ماكَي.
وهكذا ومن أجل إعادة دفع ديون العائلة يضطر توم إلى ترك تعليمه المفكك لينغمر في الحياة التجارية محققاً وبالتدريج نجاحات واسعة مسترجعاً جميع ممتلكات العائلة السابقة، فيما تظل ماكَي في عزلتها الإجتماعية تقاسي الفقر وتستنزف ملكاتها العقلية ببطء، وتعاني من أزمة روحية عميقة وحادة تجعلها تنبذ العالم وتتخلى عنه بدافع من محاكاة توماس كيمبس للمسيح. ويُمتحَن هذا النبذ من خلال تجديد العلاقة مع فيليب واكم، ومعه تظهر ثانية تلك الأُلفة القديمة وذلك الود الحميم حين كان فيليب تلميذاً يدرس مع شقيقها توم. فعلى الضد من إزدراء وكراهية توم ووالدها لعائلة واكم، تلتقي ماكًي وبشكل سري بفيليب ليذهبا معاً في نزهات عذبة طويلة عبر الغابات.
إن طبيعة العلاقة التي يبحثان عنها يعثرا عليها جزئيا في استحواذ أفكار ماكَي واهتماماتها بالهشاشة والانكسارات التي تصبح متنفساً لرغباتها الثقافية والرومانتيكية.
حين يكتشف توم، بطريقة ما، نزهاتهما تلك، عندئذ ينبغي على ماكَي التخلي عن فيليب ومعه التخلي عن آمالها في التغيير والمواجهة والاكتشاف.
وهكذا تنكفىء ماكَي ثانية نحو وحدتها وعزلتها الاجتماعية، إلا أن إبنة عمتها لوسي دين تكسر طوق تلك العزلة بدعوتها للعيش معها في المنزل الذي تقطن فيه هي وخطيبها ستيفن كًيست، الشخصية البارزة في سانت أوغ، هناك حيث الاستمتاع بالمناخ الثقافي الذي يملأ أرجاء ذلك المنزل. تستجيب ماكَي بلهفة لتلك الدعوة، لكن وبمرور الوقت تنشأ صلة غامضة وحالة من الانجذاب المتبادل بين ستيڤن وماكَي لا يوقف سيله الهائج إلا زيارة فيليب المفاجئة لمنزل لوسي وستيڤن، والتي ستغير مجرى الأحداث تماماً. فلقاء فيليب المفاجئ بماكَي يفجّر في أعماقه ذلك الحب القديم ثانية، فيما تكون ماكَي في وضع آخر مختلف تماماً، فهي لم تعد تلك الفتاة الوحيدة والمنعزلة، فعلاقة الحب السرية والمبهمة بينها وبين ستيڤن تجعلها تضع اعتقاداتها السابقة بشأن علاقتها بفيليب موضع تساؤل.
أما علاقتها بستيڤن، فعلى الرغم من محاولات الإثنين في أن يتنكر أحدهما للآخر، إلا أنهما يُمنحان وبالصدفة تقريباً، فرصة للهرب، حيث تقوم لوسي بتدبير خطة لجمع فيليب بماكَي من خلال رحلة قصيرة بالقارب في نهر فلاس، إلا أن ستيفن، وبشكل غير مقصود، يأخذ محل فيليب المريض، وفجأة يجد الإثنان نفسهما وهما يجذفان في نهر فلاس غير مباليان بالمسافة التي قطعاها، ويقترح ستيڤن على ماكَي أن يستقلا سفينة بخارية للسفر إلى مدينة مادبورت ليتزوجا هناك، إلا أن ماكَي كانت تتوزع حينها بين حبها لستيڤن وبين واجباتها أزاء فيليب ولوسي. وهكذا وفيما هما على وشك الوصول الى مادبورت يُفاجَىء ستيڤن برفض ماكَي مواصلة الرحلة وعودتها أخيراً الى سانت أوغ لتعيش لوحدها ولفترة قصيرة حالة من النبذ من الجميع فيما يهرب ستيفن الى خارج البلاد.
خيار ماكَي رفضها الزواج بستيڤن ومعاناتها لفقدانها حبه والعار الذي لحقها بسبب هروبهما الأخرق، هو في الآخر بمثابة انتصار للإرادة الحرة.
حالة الاغتراب القصيرة التي تعيشها ماكَي تنتهي حين يحدث الفيضان، فتخرج وتستقل قارباً للبحث عن شقيقها توم فتعثر عليه في الطاحونة القديمة، ويتجه الإثنان صوب لوسي وعائلتها لإنقاذهم. وفي لحظة خاطفة سريعة الحساسية يسوي الأخوين كل خلافاتهما القديمة. إلا أن قاربهما ينقلب فجأة فيغرق الاثنان أخيراً وهما متعانقان.
“هارمونية الرؤية وتقاطعاتها بين الراوي والمُعّـِد”
في إعدادها لهذه الرواية سعت هيلين إدموندسون أن تبقى أمينة ومخلصة إلى الأفكار التي أرادت الكاتبة التعبير عنها، وإلى الطريقة التي أرادتنا إليوت أن نحس بها نحو شخصياتها. إلا أن هدفها الأساسي هو أن تكتب، وبطرق عديدة، نصاً مسرحياً نابضاً بالحياة، لذا فقد اضطرت مثلاً وهي في خضم تشييد بنية المسرحية، إلى أن نسيان خطاب الرواية أو بالأحرى محاولتها البحث عن مسارات أخرى لها في الأقل. بمعنى آخر، كانت إدموندسون في بعض الأحيان تلتقط بعض المواقف والأفكار التي كانت إليوت تلمّح لها بشكل عابر إلا أنها كانت تثير فيها اهتمام وانتباه كبيرين.
إن الكثير من شخصيات في الرواية لا تخدم القصة بوجه خاص إلا أنها كانت تتمتع بأهمية هامشية بطريقة ما لدى إدموندسون. خذ شخصية بوب جاكف مثلاً، أو عمّتا ماكَي، اللتان أضفتا الكثير من العناصر الكوميدية للحكاية، فضلاً عن إظهار صورة ماكًي من وجهة نظر العالم الخارجي، إلا أن هذه الشخصيات لا تتمتع بالطبع بأدوار رئيسية في الحبكة. من جانب آخر، اضطرت مثلاً إلى حذف جلّ الفصل الذي يستعرض طفولة ماكَي وحياة شقيقها توم في المدرسة، والذي خلق نوعاً ما ثغرة في العرض ذلك لأنه ما أن تبدأ قصة ماكَي حتى نرى توم وهو ينسحب تماماً من المشهد، وهذا ما سبب نوعاً من التنافر وهو تقاطع واضح مع النص الأصلي. لذلك كان على إدموندسون أن تجد حلا لمثل تلك التنافرات التي هي واضحة جداَ في العرض. تقول إدموندسون:”
“لقد قررت التركيز على فكرة أن ثمة امرأة أُرغمت على أن تغير طبائعها وتكبت رغباتها لأن تطلعاتها الحقيقية تتعارض مع المنظور الاجتماعي للمرأة. وحين حددّتُ فكرتي هذه حاولت العثور على الطريقة الدرامية والشكل المسرحي للتعبير عنها. وفي اللحظة التي شعرت أنني وجدتها ابتدأت الكتابة.”.
إن الشخصية الروائية تتجول عادة في مخيلة القارئ بشكل أفضل، فبوسع القارىء الاحتفاظ بملامحها في مخيلته وخلق صورة ما محددة لها، في حين يمكن في المسرح تجسيد صورة الشخصية تلك بشكل فيزيائي وتقديمها إلى المتفرج كما لو تمَّ خلقها تواً.
يمكنك على خشبة المسرح أن تُظهر مثلاً ومن خلال تعبير الممثل حقيقة أن على الرغم من أن شخصاً مثل توم يتصرف بتفاخر إلا أنه يشعر في أعماقه بدرجة ما بحزن شديد. هذا الشيء مثلاً يتطلب وقتاً طويلاً للتعبير عنه في الكتابة.
أحد الجوانب الأكثر صعوبة في تحويل رواية السيرة الذاتية إلى المسرح، هو أنها عادة ما تعالج حياة شخص واحد منذ البداية وحتى النهاية، فضلاً عن الاستطراد السردي الذي تروى من خلاله الأحداث.
“الرؤية الإخراجية”
“لقد تعهدنا على خلق مسرح يتخطى الحياة اليومية ويغور في الأعماق معطياً شكلاً بصرياً للمخيلة ولعالم الإحساس الخفي”. فرقة مسرح (التجربة المشتركة)
لقد شطر العرض المسرحي شخصية ماكَي إلى ثلاث شخصيات قامت بأدائها ثلاث ممثلات: ماكَي الصغيرة (الممثلة آني ماري داف)، ماكَي المراهقة (الممثلة كاترين كاساك)، وماكَي وهي في سن البلوغ (الممثلة هيلين شليسنجر).
إن هذا الانشطار الذي يمثل ثلاث مراحل زمنية من حياة ماكَي، هو تجسيد للتحولات والتناقضات الحادة ما بين الطفلة المشوشة والمتمردة التي حلمت يوماً أنها بطة صغيرة بهيئة ساحرة تغرق في النهر، وبين المراهقة التي كان يستبد بها شعور رهيب بالذنب جعلها تصمم على سحق جميع عواطفها بمزاج محفوف بالمخاطر، وبين المرأة التي بلغت سن النضج وغرقت في حب جنسي مهلك.
الصراع المحتدم بين التمرد والاذعان والتشوش كله يغلي في أعماق شخصية واحدة هي ماكَي.
تقول هيلين إدموندسن بشأن اختيارها لشخصيات ماكَي الثلاث: “صحيح أن ماكَي كانت تتغير بشكل عنيف وقاس بطرق عديدة في تقدم سير الرواية، إلا أن هناك بعض السمات الجوهرية لشخصيتها تبقى ملازمة لها حتى النهاية.
حين تبلغ ماكَي سن البلوغ تظل تحمل في أعماقها روح تلك الفتاة الصغيرة التي تمتلك طباعاً وعواطف
غامضة ومعقدة بشكل هائل. إنها تُرغم على الاصغاء إلى ما يقوله الآخرون عنها فتغوص في أعماق نفسها محاولة منها في العثور على طريقة آخرى مختلفة للتعامل مع الحياة، وهذا هو ما يقودها إلى الثورة الدينية ونكران الذات.
حين تخرج من ثوبها الديني، هذا يعني أنه ينبغي عليها عندئذ أن تتغير ثانية للدخول إلى العالم كشخصية أكثر حزماً من ذي قبل لتقف نداً لأخيها الأكبر توم. وهذا تماماً هو الدافع الرئيسي وراء التحولات في شخصيتها.
لقد تسنى لي أيضا الكشف عن ثيمة أخرى في الرواية وهي، إلى أي حد يمكن لطفولتنا أن تُسهم في تشكيل حياتنا في مرحلة البلوغ وربما بعدها؟
أن تظهر ماكي كطفلة على المسرح بالتوازي وظهورها وهي بالغة الرشد يعني إنك تستطيع بالطبع أن تجسد فيزيائياً الصراع أو الشد والجذب بين هاتين الشخصيتين”.
“عوالم سوريالية ملتبسة”
ثمانية ممثلون لعبوا جلّ شخصيات الرواية (17 شخصية) حيث قام كل واحد منهم في أداء أكثر من دور وهم يعيدون ثانية خلق فضائها بأسلوب فانتازي هو مزيج من الغنائية والسوريالية.
ديكور “باني كريستي” برصيفه الخشبي الطويل الشاهق المطل على نهر فلاس، وستارته الخلفية المتغيرة الألوان والإضاءة وهي معلقة على خط البصر في تماس مع الغيوم، ثم إضاءة “كريس دافي” الحلمية والكابوسية في آن، ترافقها موسيقى “بيتر سالم” لمشهد ماكَي الاستهلالي الذي تحلم فيه أنها بطة صغيرة أشبه بساحرة تغرق في النهر، وظفت كلها بهارمونية شديدة الاختزال لبناء مشهد الغرق، المشهد المثير للرهبة والفزع.
إن رواية ماكَي عن كيفية غرق الساحرة في بدء العرض يتحول لديها وحتى النهاية إلى هاجس داخلي مقلق يدفعها في الآخر إلى الموت غرقاً بنفس الطريقة، حين يجتاح الطاحونة فيضان مريع تغرق هي وشقيقها توم وذراعاهما متشابكان.
تحول ماكَي إلى ساحرة هو بمثابة تماهٍ كامل لدوافعها المتعارضة للسائد ونزعاتها العسيرة الكبح. أما موتها فهو بمثابة تتويج لهكذا تحدي واستجابة آلية لأعراف وقوى إجتماعية كابحة لأية نزعات مضادة.
تقول المعدّة هيلين إدموندسون:”يُحتمل أن تكون ماكَي ساحرة، ومن المحتمل أيضاً أن هاجس السحر المهيمن على روحها هو بمثابة ميكانيزم ذلك المجتمع الذي كان يتعامل معها والذي كان لا يبعث الشعور بالأمن في روحها، ولعل موتها غرقاً في النهاية يصبح حلاً دائماً لمعضلتها”.
كانت ماكَي في الواقع تنازع من أجل توحيد مظهرين لتجربتها، وهذان المظهران هما في صراع متواصل. الأول، إيمانها وتوقها نحو حياة الثقافة والجمال. الآخر، هو قناعتها الروحية وإدراكها الحسي للواقع اليومي الرتيب في الطاحونة. لقد كانت تسعى لصهر حياتها الداخلية بحياتها الخارجية، كي تشعر أنهما يحيان معاً، إلا أنه وكما يبدو لا يوجد ثمة شيء من ذلك في محيط القرية التي تعيش فيها يمكنه أن يحقق مثل تلك الرغبة.
الطريقة التي ترسم فيها إليوت بطلتها في الواقع له صلة بعالم أرحب من تلك القرية الصغيرة الصارمة الضيقة والمعزولة. فماكَي، بعبارة أخرى، هي كائن إنساني مفعم بعواطف وأحاسيس تواقة إلى كل شيء جميل ومبهج. إنها عطشى منذ طفولتها للمعرفة، وهي بحاجة متوهجة إلى الحب، مثل احتياجها إلى الحرية.
يبدو كما لو أن الذاكرة هي المفتاح الوحيد والرئيسي الذي يخولنا ربط لحظة واحدة من حياتنا بلحظة أخرى كي نحيا في سلسلة من الأحاسيس التي تحمل مغزى انعزالياً.
إن أكثر شخصيات إليوت هم أولئك الذين يمتلكون صفة كهذه والتي يمكن أن نعثر على صورة لها في تفسير ماكَي ذاتها لعلاقتها بشقيقها الأكبر توم. فحين يقول لها فيليب أنها تحب توم أكثر منه، تجيبه بيسر:”كلا.. ليس كذلك. إن الشيء الوحيد الذي سأظل أتذكره طوال حياتي هو حين وقفت مع توم بالقرب من نهر فلاس، وحين رفع يدي وتطلع في وجهي. آه، لقد كان كل شيء قبل ذلك معتماً بالنسبة لي”.
سيكولوجياً، تصبح علاقة ماكَي الفتاة الصغيرة بشقيقها الأكبر بالنسبة لها شيء يتعذر محوه من شخصيتها حتى بلوغها سن الرشد، ليس لمجرد حبها المتواصل له فحسب، إنما لحاجتها الشديدة إلى الحب ذاته، هذه الحاجة التي تتصل بشكل لا ينفصم عن حاجاتها الأخرى التي ذكرناها أعلاه والتي تشكل بنية هذه الشخصية.
إن الإيحاء والرمز هما عنصران لا يفارقان احساس المتفرج وهو يتابع مسارات هذا العرض. فالنهر والماء والطاحونة والفيضان كلها التماعات ومجازات تهيئنا منذ البدء لمواجهة توقعاتنا بمصير ماكَي. إن غرقها وشقيقها في الخاتمة في نهر فلاس يصبح هنا بمثابة رمزاً في مخيلتها. من الممكن أن يكون النهر إشارة إلى الطريق الذي سينقل نزاعها الروحي إلى فضاء أكثر سمواً، النزاع الذي سيحرق ضفاف النهر بسبب نتائجه التي يصعب التحكم بها. إنه ذات النهر الذي ابتلع جسد فرجينيا وولف حين قررت أن تضع حد لآلامها وآلام شخصيات رواياتها ربما.
أعتقد أن إليوت حين أغرقت بطلتها كانت تحس أن ذلك الفعل هو بمثابة نوع من السمو، إلى حد ما هو إيجابي، وهو النتيجة الوحيدة الحقيقية بالنسبة لها. إلا إنني مع ذلك مازلت أشعر أن من غير الصائب أن تغرق ماكَي في خاتمة العمل.
الطاحونة هي الأخرى ترمز إلى حد ما إلى تلك الآلة الاجتماعية الضخمة التي كانت تسحق روح ماكَي في جميع مراحل حياتها. فعلى الرغم من هربها المؤقت من رحاها، إلا أنها مع ذلك كانت تنتصب شامخة مثل مشنقة بانتظار ضحيتها، وهذا ما يؤكد ما قالته هيلين إدموندسون بأن موتها يصبح حلاً ملائماً لمعضلتها.
تأسست فرقة مسرح “التجربة المشتركة” عام 1975 وهي منذ ذلك الحين كانت قد أرست موقعها الألِق بسبب طاقمها الموحد والشكل المميز لأداء عروضها.
في مركز عملها تكمن قوة حضور الممثل وإثارته فيزيائياً. فبقدر لعبه مع الكلمة، ثمة عناق جميل بين خشبة المسرح وقاعته، تلك المشاركة الخلاقة بين الممثل والمتفرج، ومن هنا جاءت تسمية الفرقة بفرقة مسرح (التجربة المشتركة).