(انبثاق الشكل وميلاد الحدث المسرحي)
Britischer Dramatiker Peter Brook
“علينا أن نقوم بعمل يشبه وخز الشرايين بالإِبـر” بروك لممثليه
علي كامل: لندن
القسم الأول
(ميلاد الحدث المسرحي)
إن انبثاق الشكل وميلاد الحدث المسرحي هما العنصران الجوهريان لبنية أي عرض مسرحي، ففي تناغمهما واستجابة أحدهما للآخر، يجسدان وحدة العناصر الفنية والتقنية والفلسفية للفكرة المراد عرضها على خشبة المسرح. هاتان المعضلتان كانتا موضوع تجارب وأبحاث المخرج المسرحي البريطاني بيتر بروك منذ أربعينات القرن الماضي وحتى وقتنا الراهن. وقد تجلت حلولهما في كتبه الثلاث “المساحة الفارغة” ١٩٦٨، “نقطة التحول” ١٩٨٧، (ليس ثمة أسرار “أفكار حول التمثيل والمسرح”) ١٩٩٣، وكتابه “الباب المفتوح” ٢٠٠٤، كذلك في رؤاه المتناثرة في طيات لقاءات ومقالات متفرقة هنا وهناك، تلك التي أصبحت مراجع أساسية للمختصين في هذا الميدان الرحب، من ممثلين يواجهون جمهورهم كل مساء، ومخرجين عثروا فيها على مفاتيح لأسئلتهم المستعصية، فقد شرعت أمامهم الأبواب نحو المطلق المحسوس لولوج أسرار هذا الطقس المقدّس الذي هو: المسـرح.
“الحدث المسرحي” وفق رؤية بيتر بروك، هو أحد أهم عناصر تجسيد العرض المسرحي، فهو لا يولد كما “الشكل” عبر التمرينات على خشبة المسرح فقط، إنما يجتاز تلك المرحلة ليعبر إلى الضفة الأخرى، وأعني بها القاعة التي يجلس فيها الجمهور المتفرج، لكي يستكمل فترة تكوينه الجنيني عبر التفاعل ما بين المتفرج والممثل والطاقة المسرحية، والذي يفضي بدوره إلى نتيجة تشبه الى حد ما، النتائج العلمية لعملية الاحتراق، تلك التي تُنتج عنصر الضوء في المصباح الكهربائي. وميلاد الضوء هنا هو ميلاد الحدث. وخلافاً لذلك، لن يحدث أي شيء على الإطلاق. ولأجل العثور على حدث حقيقي، حسب بروك، لا يكفي أن يكون ذلك الحدث محاكياً لحدث ما يجري في الحياة، حيث الكثير من الأحداث اليومية في معظم الأحيان تتوقف عن أن تكون أحداثاً حقيقية، ولذا فقد ابتكر بروك مصطلحاً سمّـاه “”المسرح المُميت” أو بتعبير أكثر دقة “اللا ـ حدث” تمييزاً له عن الحدث الحقيقي، والذي هو بمثابة الخطوات الأولى التمهيدية للكشف عن الحدث ذاته.
إن شكوكية بروك بعدم مصداقية ولا حقيقية الكثير من الأحداث التي تجري في الحياة وخطورة نقلها إلى خشبة المسرح مصدره أن الكثير من تلك الأحداث تفتقر إلى الحرارة والحيوية ويجري محاكاتها بطريقة آلية على المسرح، ومع ذلك، وعلى الرغم من وجود اشتراطات عديدة في كل عرض مسرحي تفترض ميلاد ذلك الحدث، إلا أنه غالباً ما لا يحدث أي شيء ولا شيء يدنو من الهدف، تماماً مثلما هو الحال في الحياة ذاتها، فثمة الكثير من اللقاءات التي تجري بين الناس هي ليست بلقاءات، وليس بمقدورها أن تنتج حدثاً. وتسويغ ندرة الأحداث الحقيقية تلك يُرجعه بروك لافتقارها إلى التفاعل الذي يُنتج عملية الاحتـراق. ولأجل إضاءة هذه النقطة يورد بروك مثالاً على ذلك بقوله:
“ذهبت امرأة إنكليزية مرةً لأحدى العرّافات لتقرأ لها طالعها، فبعد أن تأملت العرافة تلك المرأة وتسللت الى مخابئها ومواطن أسرارها، أخبرتها بحذر واحتراس قائلة: “شيء واحد فقط أود قوله لك، وهو أنه لن يحدث أي شيء في حياتك، لا شيء على الإطلاق!”… وقد كان وقع ذلك على تلك المرأة قاسٍ ورهيب!
ولتوضيح ماهية عملية التفاعل تلك التي من شأنها أن تُنتج الحدث الحقيقي، يُجري بروك نوعاً من التماهي بينها وبين عملية التفاعل في ميدان العلم، يقول”:
دعنا نأخذ ظاهرة الانفجار كمثال، فلو مزجنا، وفقاً لمواصفات علمية دقيقة، عدداً محدداً من العناصر، فإن التفاعل الذي سيتم بينها سيُحدث حتماً عملية الانفجار تلك. لكن، إذا اتحدّت تلك العناصر نفسها، بطريقة مغايرة، فإننا في هذه الحال لم نفعل أي شي على الإطلاق! انطلاقاً من هذا المثال، يؤكد بروك على ضرورة وجود شرطين جوهريين يتطلبهما ميلاد الحدث، أولهما، عملية الانفجار، أي، جملة التغييرات التي تطرأ على درجات الحرارة التي تنشأ عبر المواجهة أو التماس بين طاقتين أو بين قطبين.
أما الشرط الثاني فهو، إن عملية التماس في حد ذاتها تقوم بتوليد “الفعل”، والفعل هنا يحمل أهمية استثنائية بسبب مغزاه، وهذا الفعل هو الذي يطلق عليه بروك تسمية “الحدث الحقيقي”. بمعنى آخر، إن التماس بين هاتين الطاقتين هو أشبه بذلك التماس الذي يحدث بين المتفرج والممثل، ومع ذلك، فإن الأمر ليس بهذه الآلية أو هذا التبسيط، فهو في الواقع أكثر تعقيداً وصعوبة من ذلك. ولشرح هذه العملية يسوق لنا بروك مثالاً آخراً بسيطاً من ميدان الفيزياء، ألا وهو عنصر الضـوء، قائلاً:
(.. حين يتلامس قطبا مصباح كربوني، تحدث تغييرات في درجات الحرارة، وهذه التغييرات الحاصلة هي التي تُنتج عملية الاحتراق. أما المحصلة النهائية والمدهشة، فهي ميـلاد الضـوء. هذا المخطط البياني شبيه إلى درجة كبيرة بذلك المخطط الذي يوّلد الحدث). حين ننقل هذه المعادلة من ميدان الفيزياء إلى ميدان المسرح، فإننا سنعثر على ذات القطبين الأساسيين، ألا وهما المتفرج من جهة، والممثل من جهة أخرى، فكلا القطبين يمثل مصادر عديدة ومتنوعة للطاقة، إلا إن مصادر الطاقة تلك، وقبيل تفاعلها، تكون في حالة من التجزئة والتشتت، وتفتقر إلى التمركز والكثافة. بمعنى آخر، إن وحدات الطاقة التي يختزنها الممثل نفسه تكون منفصلة، وهذا بدوره، يعكس حالة الانفصال بين طاقته المشتتة من جهة، وطاقات جميع أعضاء الفريق التمثيلي معه، والتي لم تتبلور أو تتكشف بعد، من جهة أخرى. في المقابل، إذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى، وأعني القاعة “الجمهور”، نجد أن طاقة الجمهور ستكون هي الأخرى مشتتة، وحجم الطاقات هنا هو بحجم عدد المتفرجين في القاعة بالطبع، فكل طاقة مخزونة في كل متفرج على انفراد، تكون في حالة منفصلة ومشتتة ذاتياً من جهة، وهي منفصلة موضوعياً عن مصادر الطاقة الأخرى، تلك المتمثلة ببقية المتفرجين. أي أن هذه الطاقة الكبرى “الجمهور”، هي طاقة غير مكثفة وغير متمركزة بعد، لأنها تتدفق وتتبدد على انفراد وبشكل مستقل بعضها عن بعض، دون وحدة أو تناغم. ويشبّه بروك حالة الجمهور هذه بحالة المصباح الكربوني الذي يفتقر إلى الكثافة. فكل وحدة من الجمهور، وهي هنا المتفرج الواحد، هي عبارة عن طاقة مستقلة، أو وحدة من الطاقة الكلية التي هي “الجمهور”، غير قادرة لوحدها أن تكون سبباً للكثافة بسبب أنها لم تتمركز بعد. وهكذا، يتوصل بروك إلى استنتاج مفاده هو أن الحدث يظهر فقط حين تتناغم كل واحدة من هذه الآلات المنفردة بشكل هرموني، وبعدها، سنحتاج إلى تحرير تلك الذبذبة المنفردة ومحاولة تسريبها إلى القاعة ليحدث شيء ما، إلا أن هذه الذبذبة ستواجه ألف قيثار وقيثار، كلٌّ يعزف على حدة، دون تناغم أو توتر موحّد.
والآن، إذا انتقلنا من القاعة إلى خشبة المسرح، حيث الممثلين، فإننا سنواجه ذات الحالة. لذا فإن الخطوة الأولى لبدء العرض المسرحي تتطلب، قبل كل شيء، تجميع وتكثيف لكل تلك الطاقات المشتتة للمتفرجين، والتي هي تباعاً، تعكس الطاقات المشتتة للممثلين. إن وضع الممثلين في حالة مواجهة مع المتفرجين، هو غير كاف لميلاد الحدث، ذلك إن الأفعال ذاتها يمكن أن تجري على مستويات متباينة من حيث الشدة والكثافة، وهذه هي إحدى الحقائق الجوهرية في المسـرح. فإذا ما تضاءلت أو تشتت تلك الشدة وتلك الكثافة، فلن يحدث في المقابل أي شيء على الإطلاق! ولأجل حل هذه المعضلة الخطيرة في المسرح، يتجه بروك إلى دراسة أحد أهم مصادر المسرح الأساسية، كأسلوب عرض مسرحي نموذجي، ألا وهو مسرح “نو” الياباني، محللاً مراحله الرئيسية الثلاث، تلك التي يتم عبرها ميلاد الحدث المسرحي. وهذه المراحل هي بالشكل التالي وعلى التعاقب:
(JO-HA-K)
البدء من الحس صعوداً إلى العقل
إن المرحلة الأولى (JO) تمثل البداية أو الاستهلال، والتي تنحصر وظيفتها الأساسية في شد انتباه المتفرج حالاً وبصورة مباشرة. وتتطلب هذه المرحلة استخدام الشكل المباشر والبساطة المتناهية، مع الأخذ بعين الاعتبار، المستويات الإدراكية والحسية المتباينة لطبيعة الجمهور. وهنا يسوق بروك مثالاً على تطبيقاته لهذه المرحلة من عرضه الشهير للملحمة الدينية الهندية “المهابهاراتا”* حيث يقول: (لو إنَّ أحداً ما قام بعرض هذه الملحمة بشكل معقد وبمستوى عال جداً يتلاءم وأعمال الآلهة، فإنه يكون قد عالج عملاً طقسياً روحياً عظيماً، إلا إنَّ عملاً يبتدئ بكيفية تفتقر إلى البساطة والمباشرة، سيكون نصيبه من النجاح ضئيل جداً، بل أستطيع القول إنَّ من الصعب جداً إنجاز عمل كهذا لو كان العرض مكرساً لجمهور هندي مثلاً، وهو المطلع على تفاصيل هذه الملحمة سلفاً، حينها سيكون الأمر أهون، أما إذا قـدّم العرض إلى جمهور فرنسي أو غربي، وهذا ما قمنا به، فالمسألة هي أشبه بمجازفة بليدة. أعني، إن المتفرج الهندي يتمتع بعنصر الاستعداد والتهيئة لمواجهة أحداث الملحمة، ومن ثم التفاعل معها دون حدود، أما المتفرج الغربي، فعلينا أولاً أن نخلق لديه ذلك الاستعداد. ولذا، فإن الطريقة التي استخدمناها لخلق ذلك الاستعداد، كان مصدرها مسرح “نو” الياباني، الذي كان يمارس روح الدعابة المحضة والشعبية، لخلق ذلك الاستعداد، وهكذا فقد ابتدأنا ملحمتنا بالراوي، وبأسلوب القص الشعبي، حيث يقوم ذلك الراوي برواية تكوين الخلية التناسلية وعوامل الإخصاب.! الأسلوب الذي اتبعناه هذا، منح المتفرج فسحة من الاسترخاء، ما لبث ولفترة قصيرة أن اصطدم بالمفاجئة التي ستمسك بتلابيـبه. الاسترخاء ثم الصدمة. هذا هو أسلوبنا الذي استخدمناه في الملحمة وقد استخدمناه أيضاً في عرض مسرحية “مؤتمر الطيور”، والذي ابتدأناه هو الآخر بمزحـة.! **
الاسترخاء الذي تولّده تلك المزحة، والمفاجئة التي تتسلل ذبذبتها بسرعة، أحدثتا نوعاً من التهديد المصحوب بالخوف عند الجمهور، أثار فيه إحساساً بالتـرّقب لاحتمال حدوث فعل مقدس ومهيب. وهذا ما كنا قد خططنا له منذ البدء ونجحنا فيه في النهاية).
المرحلة (JO) إذاً، تعني لبروك، الدعابة المحضة، شيء ما يخاطب وجدان المتفرج وينأى به عن عقله، وهي الخطوة الأولى لوضع الطُعم في السنارة، وهذه المقدمة، حسب بروك، من شأنها أن تسهم في إنتاج حدث صغير، صغير جداً. لذا فهو كثيراً ما ينصح المخرجين بعدم إغفال أو الاستهانة بممارسة وتطبيق هذه المرحلة، والتي تعني البدء من الحس صعوداً الى العقل، وليس العكس. وخلافاً لذلك سيكون العرض مملاً ومضجراً. هذه البساطة المتناهية والمباشرة في التخاطب ستشيّدُ جسراً يتيح للمتفرج والممثل، على حد سواء، العبور من خلاله إلى الضفة الأخرى، وبالعكس. إنه شيء يشبه خطوات الراقصين، أو حسب تعبير بروك:” شيء يشبه لعبة التنس.. المتفرج سيُرجع الكرة التي ناولها له الممثل، وبالعكس. فبدون هذه البداية في خلق التماس، لا يمكننا الذهاب أبعد”. حسناً، إذا كانت وظيفة (JO) تتمحور في شد انتباه المتفرج وإشراكه في مجرى العرض المسرحي، فما هي يا ترى، الأساليب والطرائق التي تسهم في تحقيق هذه المرحلة؟ يعتقد بروك أنَّ الأدوات والأساليب كثيرة ومتعددة، وليس من الضروري تقنينها وتحديدها. حيث يمكن استخدام أي شيء، وكل شيء، شرط أن يتضمن عناصر مثل الدهشة، البساطة والمرح، وأن يكون ذلك الشيء مفعماً كلياً بالطاقة. وهو، أي بروك، يورد بعض تلك الأساليب دون حصر، مثل الأسلوب الساخر الذكي، والشكل الكاريكاتوري، الذي يمكن استعارة عنصر الإثارة فيه من ميدان السيرك أو الكوميديا الموسيقية أو حتى الرقص المجازي.
الأمر الجوهري عند بروك هو إظهار القدرة المادية لعنصر المشاركة، بشكل مباشر وتدريجي وفي آن، ما بين وفي آن، ما بين جسد المتفرج وقلبه ورأسه.!
“لو أننا قدمنا مسرحية هملت” يقول بروك “وكنا منذ البدء قد استخدمنا أسلوباً يلامس عقل المتفرج دون مشاعره، فسوف يفقد العرض المسرحي، ومنذ البداية، مغزاه وهدفه، وبالتالي سيتلاشى ذلك التماس الحقيقي بوجودنا كله. ويقيناً سيواجه المتفرج صعوبات جمة في التناغم مع العرض”.
إن إحراز النجاح في إنجاز مرحلة (JO) سينشئ حالة نوعية من التناغم والإصغاء، فيها تتدفق وحدات هائلة من الطاقة الانفعالية، شيء ما يشبه انتقال وحدة من الطاقة، وبشكل مفاجئ، إلى خزان الطاقة المركزية.
هذه النتيجة ستنقلنا بسيولة ونعومة إلى المرحلة الثانية (HA) وذلك عبر حاجز الصوت، أي الانتقال من طور التمهيد إلى طور الأسطورة، إلى القصة المروية ذاتها. وهذه المرحلة هي المرحلة الوسطى، مرحلة النمو والتغير والتفتت والانتشار. وهي تشكّل خطوة أكثر تعقيداً وعمقاً في مسرح (نو) الياباني، وتكاد تشبه القفزة الفجائية، بيد أنها ليست حركة معوقة لحالة المخاض التي سيولد عبرها الجنين الذي هو (الحدث). في هذه المرحلة يحذّر بروك من خطورة كبرى، وهي احتمال أن تفقد الثيمة حيويتها، أو من الممكن أيضاً أن يكون تفسيرها غير صائب. وإذا ا ما حدث ذلك، فسينهار كل شيء، وعلينا البدء من جديد. أما الخطورة الأخرى، فهي إمكانية انقطاع الصلة بين المتفرج والممثل “حتى ولو لبرهة ” عندها سنضطر إلى العودة ثانية إلى البدء، أي إلى المرحلة .(JO) على هذا المستوى، يرى بروك أن ثمة نقطة ساحرة ومدهشة يمكن أن تحدث في حالة نجاحنا في الاحتفاظ بتلك الصلة حتى النهاية، وهي أننا سنشهد ذلك الرباط المقدس بين المسرح كانعكاس للحياة، وبين الواقع اليومي ذاته، تلك الصلة التي تربط بين عالمين، عالم المخيلة وعالم الواقع. عودة إلى مثال بروك ومصباحه الكربوني، فإن ما يحدث على خشبة المسرح، هو إن رقعة المكان تأخذ في الاتساع والتمدد بدرجة أكبر حد التضخم، عندها يبدأ الإشعاع في إنتاج الطاقة الكهربائية أو المسرحية. وهنا يحذّر بروك من الوقوف طويلاً عند ذلك المستوى من الاتساع والتضخم، أي أن على حركة التمدد تلك أن تتراجع لتخلي المكان إلى عملية الانكماش. بمعنى آخر، لو أننا ذهبنا بعيداً جداً مع إحدى تلك الحركات ـ التمدد والانكماش ـ فإننا بذلك سنضل الطريق، ونضطر حينها إلى التقهقر نحو الوراء باتجاه المرحلة الأولى (JO) ثانية. بمعنى، إننا سنحرق الكربون، وبعدها لن يعود ثمة وجود لشيء اسمه الضوء..
إن وظيفة هذه الحركات، في الواقع، هو إقامة الصلة بين هدفين، أحدهما ذاتي والآخر موضوعي. وبروك يعثر على رديف لتلك الحركات في ميدان السينما، في حركات الكاميرا السينمائية وهي (لقطات المتابعة، اللقطات المتوسطة، واللقطات الكبيرة والكبيرة جداً (كلوز، وكلوز آب)”. ويعثر أيضاً على وجوه لها في بنية شكسبير لنصوصه المسرحية، ويجد لها قريناً، في ذات الوقت، في ذات الوقت، في سياق البعد البريختي، ذلك الذي يمنح المتفرج القدرة على استرجاع خطوة إلى الوراء، لغرض إدراك الفعل في سياقه الاجتماعي والسياسي والإنساني الكوني، ويعثر كذلك على مرادفات لذلك بتلك الحركات المتنقلة بين هدفين عند راقص السيرك، الذي يثير الضحك بحركاته البهلوانية الساخرة، والذي يثب بشكل
مفاجىء منتقلاً إلى الاتجاه المضاد، كأن يحيل نفسه وبشكل حاد مثلاً إلى وحش مفزع.
يشير بروك هنا إلى وجود عدد هائل من أساليب التعبير عن هذه النقلة، سيكولوجية وغير سيكولوجية..
إن هذا التباين بين هذين الهدفين أو القطبين، يظهر بجلاء في المرحلة HA ، وهي نقطة انتقال تتسم بطابع الاستمرارية، نقطة غنية وخصبة تتغذى على تناوب وجهات النظر، تلك التي تسهم عملياً، في بعث الحيوية بروح العرض المسرحي. في هذه المرحلة يتم تكثيف وتمركز كل شيء وبشكل مفاجئ، حينها يمكننا أن نشق طريقنا بيسر صوب المرحلة الأخيرة، ألا وهي KYU والتي تعني النهاية، السرعة، الذروة، الباريكسيزم أو النوبة الحادة.
لقاء الممثل والمتفرج، هو بمثابة لقاء بين عاشقين
يرى بروك أنَّ هذه اللحظة المفعمة بالطاقة، يمكن تحقيقها في بعض الأحيان، ليس عبر الصوت فقط، إنما عن طريق الصمت، والصمت المطل، يقول: “لا شيء يستطيع أن يعكس هذه المراحل المتباينة، بشكل أكثر سطوعاً، مثلما تفعله الدرجات المتباينة للصمت: الصمت الاعتيادي، الصمت الأكثر انفعالاً، الصمت الذي يمكن قطعه بسكين”. ويضيف في مكان آخر: “ومن المحتمل تحقيق تلك اللحظة المفعمة بالطاقة أيضاً، عبر موجة الغضب، غضب الجمهور! ومن المحتمل أيضاً أنَّ المتفرج، وهو في طريقه للعبور إلى الضفة الأخرى “خشبة المسرح “، يتحول هو بدوره إلى ممثل!”.
إنَّ تماس المتفرج والممثل، هنا في هذه المرحلة الأخيرة، يشبهه بروك بلقاء عاشقين: “الأرض تهتز وتتفجر، وبعدها فجأة، يشعر المرء أن كل شيء جائز وممكن”.
في هذه المرحلة بالذات، أي (KYU) يولد الجنين أو “الحدث”، أما ما سبقه من مراحل، فما هو سوى حالة من الاستعدادات أو شُعلة الفتيلة، أو شيء يمكن أن نطلق عليه “الحدث الثانوي” وهكذا، ومن بعد، وبشكل مفاجئ، تحدث عملية الاحتراق. أي أنَّ ثمة شيء ما ينطبع وينقش بعمق في إحساس ووجدان المتفرج. في ملحمة “مهابهاراتا”، يسأل الشاب الشاعر:” لماذا كتبت هذه القصيدة؟ يجيبه الشاعر قائلا: كي تنطبع الفضيلة في قلوب البشر”!.
مقطع كهذا لوحده، مثلاً، يعتبره بروك غير قادر على توليد الحدث، وهو ليس أكثر من مجرد انطباع، قائلاً: “لكننا لو وفقنا في إحداث عملية الاحتراق، وهي لحظة ميلاد الضوء، عندئذ فقط، يمكن أن تنطبع الفضيلة في قلوب البشر”. يعتقد المخرج الياباني Zeami، إن هذه المراحل الثلاث (JO-HA-KYU)، “لا تقتصر فقط على العرض المسرحي، بل يمكن تطبيقها أيضاً على كل جملة مفيدة ملفوظة، كل لحظة، كل خطوة، وكل كلمة”.
وهكذا، وعبر هذه العلاقة الجدلية بين المراحل الثلاث، عبر هذه التجربة المشتركة، بين المتفرج والممثل والطاقة المسرحية، تنبثق لدى المتفرج حالة إدراكية نوعية لتمييز الحدث، تساعده على الغوص عميقاً لسبر أسراره، متابعاً إياه باتجاهات سيره صوب تلك التخوم التي يتلاشى عندها ذلك الخط الوهمي الذي يفصل ما بين المخيلة والواقع اليومي.
العبور إلى الضفة الأخرى
دعونا الآن نعبر إلى الضفة الأخرى لنطلّ على ما يدور فوق خشبة المسرح، ولنرى ما يفعله بروك مع ممثليه أثناء التمرينات.
إن جوهر عمل بروك مع الممثل هو الارتجـال “Improvisation” سعياً منه نحو تفجير (الحدث الحقيقي).
“المسرح هو عنصر فانتازي لا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً” يقول بروك “فهو يكشف عن الطاقات والفعاليات الخصبة لأولئك الذين يبحثون عن الدرجات القصوى للحرية في عملهم، بيد أنَّ ممارسة هذا العنصر دون مران وضبط ودقة ومراقبة وصرامة، ستكون نتيجته صفراً، أي، لا شيء على الاطلاق. وهذا الأمر يشبه إلى حد بعيد البحث عن الحدث دون إدراك كامل لمغزى وحقيقة (اللّا ـ حدث). لذا فالشيء الجوهري والإلزامي في ميدان الارتجال، هو وجود إدراك غني وممتلئ بالواقع، وخطورة أي شيء يحدث أمامنا. ينبغي أن يكون الارتجال هذا هو بمثابة نشاط بحث يدار من قبل شخص يسعى في محاولة منه لتفجير طاقاته الكسلى. يمكن بالطبع أن يكون المرء في حالة من الهمود المطلق واللا فعالية، رغم هياجه وعنف قوة حركته وتنقله على المسرح. بعبارة أخرى، يتعين على الممثل أن يؤدي دوره ضمن حلقة العلاقة مع شريكه الممثل الآخر، تماماً كما في لعبة التنس، أن يرى شريكه ويلامسه عبر الفعل الذي يؤديانه معاً، ووجب على كل منهما أن يستجيب للآخر. أما العناصر التي تسهم في خلق ذلك التماس فمركزها الجسد والقلب والروح. إنه نوع من الطقس يشبه، إلى حد ما، تلك المجاميع من الشعراء اليابانيين الذين يرتجلون القصائد الواحد تلو الآخر، في جو ينطوي على المخيلة، الحاسة الموسيقية، الروح، الفطنة، والموهبة. ولهذا السبب، ينبغي أن يتمركز عنصر الارتجال حول أكثر الأشكال الفنية صرامة ودقة، كالرقص أو الموسيقى الكلاسيكية.. الخ”.
إنَّ الحرية التي يمنحها بروك لممثليه في بدء التمرينات على المسرحية وخلال عملية الارتجال، تولّـد لديهم إدراكاً لمشاكل وأسرار العمل، وذلك عبر التشذيب المتزايد لخاصية التوسع وحرية التعبير عن المشاعر والأفكار وحُسن إصغاء الممثل لشريكه الآخر، للدرجة التي تصبح فيها تلك الحرية، وبشكل تدريجي، قاعدة استثنائية للصرامة والانضباط مع النفس والعمل ككل. بعدها، وفي غضون أي عرض مسرحي، يستطيع الممثل أن يرتجل بالحد الأدنى أو الأقصى. وكل ذلك يتوقف على المعالجة والرؤية المسرحية للموضوع. المسألة الجوهرية هنا، هي تكثيف الطاقة وإعاقة انتشارها وتشتتها عند الممثلين. وفي هذا السياق، ولتحقيق هذا العنصر بشكل صائب يورد لنا مثالاً آخر من اليابان، فهو يشبّه الممثل الذي يسعى لتعلّم الدرس في الارتجال بمعلّم التدريب الياباني لفن الرماية. يقول: “يكون الرامي في حالة ارتجال في كل مرة يسحب قوسه ويطلق، وحين يُصيب السهم هدفه يولد الحدث الجديد والحقيقي. فلو ارتجل الرامي بطريقة غير مُتقنة، تفتقد إلى الحساسية، فإن الحدث سيختل ويكبو، مثلما يحدث للممثل حين يفقد اتجاهاته أو كلمات دوره، فكلاهما يفتقر إلى عنصر جوهري، حيث كل صغيرة فيه، تشبه إلى حد ما، الشيء العلمي اللانهائي بدقته وحساسيته، ونستطيع أن نطلق عليه في ميدان عملنا بعنصر الرشاقة المصحوبة بالتركيز. وهكذا بارتجال بارع ورشاقة محدّدة، يستطيع الرامي أن يطلق ويصيب هدفه حتى ولو بعينين مغلقتين”.
سأتوقف هنا عن متابعة عنصر الارتجال، حيث سنتعرض له في مكان آخر ضمن سياق موضوعة انبثاق الشكل المسرحي. إن الجوهري بالنسبة لبروك، فيما يتعلق باستخدام كل هذه الأساليب والطرائق، هو البحث عن تلك التأثيرات التي تشد انتباه المتفرج أو تشتته. لذا فإن الفكرة التي تَعتبر الحدث هو كل شيء، هي فكرة ناقصة! فالحدث عند بروك هو لا شيء في البدء، ولا يُفترض سلفاً على الإطلاق، فكل شيء سيولد بالتدريج. الأمر المفاجئ وغير المتوقَّع، هو أخذ العناصر من الحياة نفسها ومحاولة تحريرها من الابتذال والعادية وكل أنواع الضجر، وبث النشاط فيها من جديد وإعطائها ألوانها وضياءها مرة أخرى.
هذه العوامل كلها تشكّل العصب الرئيسي في خلق الحدث وشد انتباه المتفرج وبالتالي مشاركته الفعلية في سير ذلك الحدث حتى النهاية.
حين يقول بروك إنَّ الحدث هو “لا شيء في البدء”، يستخدم بدلاً عنه تعبير (اللا ـ حدث)، والذي يعني سلسلة من الاشتراطات والمعايير المحددة علمياً، كخطوات أولى أو رسم بياني لميلاد الحدث، ذلك الحدث الذي يمكنه محاكاة الحياة، فقط حين يحتوي على حرارة الحياة نفسها. إنَّ كل شيء في المسرح، عند بروك، يتخذ شكلاً اختزالياً وسرمدياً، متجهاً برؤاه على الدوام صوب النواة والمركز في الحياة. وقد كتب مرة: “المسرح هو شيء سرمدي.. أما الموت فهو ليس سوى مظهره الخارجي أو قشرته”.
إنَّ التجديد والابتكار هما مركز النشاط الإبداعي لبيتر بروك، فهو يعتقد أن على رجل المسرح أن يتمتع بشيء من صفات الصحفي أو مصمم الأزياء، فكلاهما يخضعان لقانون التجديد، وعملهما يتطلب على الدوام عنصر الإرضاء والإغواء، وإلا تعرّض ذلك العمل إلى البلى والتمزق. فلأجل أن يصبح رجل المسرح جاداً، فهو ينصحه أن يعرف كيف يكون لعوباً.!
القسم الثاني: (الشكل مرآة الحدث) يُتبع..
*
“مهابهاراتا”
الملحمة الدينية الهندية، قدمها بيتر بروك عام ١٩٨٥في أحد مقالع الحجارة بالقرب من مدينة أفينيون الفرنسية مع فريق تمثيلي متعدد الأعراق والثقافات، واستغرق عرضها مدة تسع ساعات، وأعيد العرض ثانية في مانشستر عام ١٩٨٩.
**
“مؤتمر الطيور”
قدمّ بروك هذا العرض هو وفرقته التابعة إلى المركز العالمي المسرحي ومقره باريس عام ١٩٨٩ في جولة لبعض الدول الأفريقية وفي الهواء الطلق، ومن بعد عرضت المسرحية في باريس وضواحيها. المسرحية مرتجلة، وكانت معمولة تحت تأثيرات مسرح القسوة ومؤسسه أنتونين آرتو. عنوان المسرحية يوحي أن بروك كان قد قصد به “المخيلة المشتركة لثقافة الشعوب”..
مراجع:
– The Empty Space, The Shifting Point, There Are No Secrets, Peter Brook.
– Interview with Peter Brook by Jean Kalman. NTQ1 1985 NTQ1 1985.
– Peter Brook and Tradition Thought by Basarab Nicolescu.
– Peter Brook and The Mahabharata by Yoshi Oida.
– On the Art of NO Drama by J. Thomas Rimer Yamazaki Masakazu.
القسم الثاني
(الشكـل مـرآة الحـدث)
مجلة الفنون المسرحية
https://theaterars.blogspot.com/2023/07/2_9.html?m=0
إنَّ العنصر الثاني والجوهري الذي يسهم في صياغة بنية العرض المسرحي هو الشكل. والشكل عند بروك، هو بمثابة مـرآة الحدث، أو بعبارة أخرى، هو الضوء الذي ينير عتمة الحدث. في ستينيات القرن الماضي، كان يهيمن نفوذ كل من “أنتونين آرتو” و “برتولد برتولد بريخت”، على جل تجارب بروك، وقد تجسَّد ذلك في عروض عديدة مثل “الملك لير” الذي لعبه الممثل بول سكوفيلد، وكذلك في عمله التجريبي “ماراـ صاد” لبيتر فايس، وعمله “US” أو “نحن وأمريكا” الذي يتحدث عن الحرب في فيتنام، وأيضاً في تجاربه الشكسبيرية المتأخرة “هاملت” و “حلم منتصف ليلة صيف” التي قدمها على أحد الملاعب الرياضية، والتي طبَّق فيهما رؤاه المبتكرة بشأن فكرة (المساحة الفارغة)، وكذلك في عروض وتجارب مبتكرة أخرى، استطاع من خلالها أن يكشف التضاد بين نظريتي آرتو وبريخت، أي التضاد ما بين وسائل الصدمة والسكون التحليلي، وأن يتوصل إلى أسلوب ثالث يجمع ما بين هذين الاتجاهين المتطرفين، والذي أطلق عليه حينها تسمية “العرض البصري”، وكان حينها، هو الاتجاه السائد لعروض فرقة شكسبير الملكية التي كان يعمل معها بروك آنذاك. وقد حدثت في ستينيات القرن الماضي أيضاً ثورة ضد استبداد ما كان يُعرف حينها بـ “السرد الطولي” الكلاسيكي، كشكل من اشكال التعبير، ليس في المسرح فحسب، إنما في ميادين فنية وأدبية أخرى كالسينما والرواية.. وسواهما. المُلاحظ أنَّ الكثير من المخرجين في ميدان الدراما قد أهملوا أو أغفلوا هذا العنصر، بل واستخفوا منه كثيراً، على الرغم من أنه كان يشكّل عنصراً رئيساً لمركزة الحدث، وبروك، كان واحداً من أولئك المخرجين الذين ساروا في ركب ذلك الاتجاه، غير أنه، وعبر تجربته الإبداعية المشتركة مع زميله المخرج والممثل شارلس مورافتس في العمل على مسرحية هاملت، اكتشف أن أسلوب السرد الطولي، هو من أكثر الأساليب فعالية، مقارنة بالأساليب الفنية الأخرى، فقد قام الاثنان، بروك ومورافتس، وبتصميم سابق، في التخلي تماماً عن الأسلوب البنائي، حيث قاما بتفكيك النص الشكسبيري عنصراً عنصراً، سعياً منهما في إعادة بناءه من جديد، وبطرائق مختلفة تبتعد قدر الإمكان عن التنظيم البنيوي المركزي. كان الاثنان يبحثان عن شكل مباشر للتعبير، شكل لا يتغذى على عنصر السرد الطولي. وكانت المحصلة التي توصلا إليها، ليس فقط أن السرد الطولي هو من أكثر الأساليب الفنية فعالية بالمقارنة مع أساليب التعبير الأخرى، إنما اكتشفا أيضاً، أنَّ الحكاية الفانتازية، إذا ما رويت بشكل مُتقن، يمكن لها أن تخلق قوة استثنائية لعنصر “الترقب” بمحتوى المضامين السردية لتلك الحكاية.
(أعطني أية مساحة فارغة، وسأصنع منها مسرحاً حقيقياً)
يُشبّه بروك المكان أو المساحة بالمثلث الهندسي، قاعدته أو ضلعه الأساسي مخصص لوعي ومشاعر المتفرجين، أما ضلعاه الآخرين، فهما مخصصان إلى الحياة الداخلية للممثلين وعلاقتهم بالمشاركين معهم من الممثلين الآخرين.
إن فكرة (المساحة الفارغة) تلك التي ابتكرها بروك، هي دراسة معمّقة لموضوع الشكل، وهي اختبار لجميع الأساليب والأدوات، لغرض تطويعها لمستلزمات العرض المسرحي. فهي تشترط إقصاء كل الأشياء الزائدة وغير الضرورية عن خشبة المسرح، كالإسراف والإفراط في استخدام الأشياء في الحياة اليومية، إلخ.. هذا وقد ارتبطت فكرة (المساحة الفارغة) بفكرة “الزمن المسرحي”. فالزمن، عند بروك، هو ليس الزمن الكرونولوجي(الآلي) الذي يجري ويتكرر في حياتنا اليومية، إنما هو زمن المخيّلة، الزمن المختزل، زمن الفكرة، الزمن السردي، زمن سرد الحكاية!.. فالمسرح، حسب بروك، لا يعيد أو ينسخ أو يحاكي المكان والزمان، كما في الحياة اليومية، فهو لا يسعى إلى محاكاة الحياة، إنما يقترحها ويوحي بها عبر طرق ووسائل بصرية واضحة، محرراً الزمان والمكان من شكلهما وإيقاعهما التقليديين، جاعلاً منهما إطاراً يسبح فيه الفعل المسرحي. ففي الفضاء المسرحي، في هذه المساحة الفارغة، في هذا المكان المكثف والمغلق، يجري الزمن بصورة حلزونية وليس بشكل مستقيم. إنه الزمن المكثف، الذي لا يخضع لعقارب الساعة الزمنية. إنه زمن المخيّلة، زمن الحلم، الزمن الذي أُقصيت عنه كل الأشياء الزائدة وغبر الضرورية، الزمن الذي يمكن في إطاره خلق أزمنة عديدة ومتنوعة. إن الزمن السردي للحكاية يمكنه وفي وقت واحد أن يتقاطع بشكل موشوري خلال الأبعاد الأخرى للزمن، وهو بالنسبة لبروك أشبه بلعبة الترجيعات الحرة أو تلك المرايا والانعكاسات التي نعثر عليها في مسرح شكسبير. بعبارة أخرى، إنه زمن الحياة الداخلية، زمن الذكريات والمخاوف بشأن ما سيحدث في المستقبل، وأخيراً، هو الزمن السيكولوجي. الكثير من الحقائق تظل محجوبة في الحياة اليومية، لكنها في المساحة الفارغة، بوسعها أن تتمركز وتتجسد وتُدرك وأن تكون مرئية. إن مظاهر الزمن الداخلي هذا تتمفصل وتترابط باتساق وانتظام حول البنية الأساسية للمسرحية. وهكذا فالزمن المسرحي، أو زمن الحكاية، هو من أغنى العناصر التي تفعم المتفرج بالحيوية وتشد من انتباهه، لمواصلة ومتابعة سير الحدث المسرحي. ومع ذلك، ورغم نصيحة بروك للمخرجين بعدم إهمال هذه الطريقة في بناء الشكل، لكنه في نفس الوقت، يُحذّر من تقييد المخرج لنفسه وعلى نحو صارم بتلك الطريقة، ذلك إن المسرح يتمتع بإمكانات كبيرة وغنية للتعبير، تلك التي تسهم في تنشيط وإقامة المستويات المتباينة لبعث الحياة في الحكاية، بوصفها أولاً، أنها أسطورة لها جذورها وترجيعاتها في اللاوعي، وثانياً، باعتبارها عرضاً مسرحياً مجسدٌّ مادياً ضمن فريق متحّد بذاته عبر هرمونية وبناء سمفوني.
(العبور من المجرد إلى المحسوس)
لقد تناولنا المكان والزمان لنخلي الطريق إلى عمل الممثل والمخرج للبدء في ممارسة تمريناتهما من أجل خلق الشكل المسرحي للعرض. الشكل يبدأ وينتهي، بالنسبة لبيتر بروك، بانتهاء التمارين المسرحية “البروفات”. إنه ينبثق في البدء، من إحساس داخلي هلامي شبيه بالطيف أو اللون أو الرائحة. العنصر الرئيس، بالنسبة لبروك، أولاً وأخيراً، هو تجسيد الفكرة في مكان وزمان محددين. لذا فهو يبدأ شوطه التجريبي مع جميع عناصر العمل، من ممثلين وديكور وإضاءة وألوان، بإحساس يخلو تماماً من الشكل والبلورة، محاولاً نسيان جميع التقنيات وأساليب البناء، تلك التي كان قد استخدمها في عروضه السابقة، أو تلك التي اكتسبها بطريقة التجربة والخبرة، مولياً جل اهتمامه في هذه المرحلة من الاستعداد، في التحرك صوب الفكرة. الشيء المهم والجوهري بالنسبة له، هو البحث عن المفردات والوسائل، من أجل تحويل ذلك الإحساس البدئي الهلامي الداخلي إلى شكل شبه مادي. فهو على سبيل المثال، يبدأ في بناء الديكور، ثم يقوم بعدها بهدمه، ثم يشيّد ديكوراً جديداً، ويعود فيهدمه. عملية الهدم والبناء هذه، تتخللها بالطبع تمرينات وتدريبات متواصلة، وفي النهاية، هي التي تحسم وتقرر بنية ذلك الديكور وبقاءه.
وهكذا وبالتدريج، يأتي دور اختيار الملابس والألوان وبقية العناصر الأخرى، بذات الطريقة. تلك العناصر التي تشكّل في الآخِر “لغة” تسهم في ترجمة ذلك الإحساس الهلامي الداخلي إلى شيء ملموس!. بمعنى آخر، الشكل يظل خاضعاً على الدوام إلى جميع هذه الاعتبارات والاختبارات، ومع ذلك، وحين ينبثق ذلك الشكل، فإنه يظل، عند بروك، شكلاً مفتوحـاً وغير نهائي. وفي هذه الحالة، يمثل هذا الشكل مجرد منظر أو ديكور أو مكان. والمكان هو أحد العناصر الرئيسة عند بروك، فهو يشبه الرسم البياني الذي سيكتسب وجوده وحرارته في المرحلة اللاحقة التي هي بدء التمرينات مع الممثلين. في هذه المرحلة يسعى بروك، وقبل كل شيء، إلى خلق المزاج والمناخ الملائمين لممثليه ومنحهم أقصى درجات الحرية لإنتاج شيء ما من ذواتهم، بصرف النظر عن الأشياء التي يمنحها النص. لهذا السبب ينصح بضرورة أن يكون كل شيء في المراحل الأولى للتمرينات على المسرحية مكشوفاً ومنفتحاً الى أقصى الدرجات دون فرض أي شيء محدد. و “هذا بالضبط” يقول بروك “هو ما يضع العمل في طريقه إلى خلق الأسلوب الذي يتجه صوبه عمل المخرج منذ الأيام الأولى للتمرينات مع الممثلين، وأنا كنت بدأت هذه الطريقة منذ فترة طويلة، وأستطيع الآن الجزم، إنها الطريقة الأكثر أصالة وديمومة باستمرار، للبدء في التمرينات مع الممثلين”.
إن الطريقة التي يفضلّها بروك للمباشرة في التمرينات مع ممثليه، هي البدء بأي شيء، باستثناء الأفكار، والذي يلعب الدور الرئيس في هذه المرحلة هو عنصر الارتجال، بغضّ النظر عن اشتراطات النص أو الزمن التقليدي للبروفة. ففي عمله على رائعة بيتر فايس “مارا ـ صاد” مثلاً، أنفق بروك مايقرب ثلاثة أرباع مدة التمرينات على المسرحية، في حّث وتشجيع فريقه التمثيلي، وحث نفسه هو الآخر وبشكل متبادل مع ممثليه، على إنتاج أشياء مبتكرة تكمن خلف النص أو تحته. ليس أي نص بالطبع، ولكن النص الذي يمتلك تلك القدرة على تفجير مخيلة القارئ أو الممثل. وفي هذا الصدد، كتب بروك قائلاً: (… يوجد في “مارا- صاد” الكثير من الإسراف الباروكي والفانتازي للأفكار. وهكذا، فالذي يرقب عملنا في التمرينات ونحن مستغرقون في إقصاء الزيادات والزخارف، تلك التي شغلت ثلاثة أرباع زمن تمريناتنا على المسرحية، سوف تنتابه حالة من التفكير، في أننا نسعى إلى إلغاء وحجب فكرة المؤلف، عبر ابتكاراتنا وارتجالانا التمثيلية والإخراجية. لكن، لو أن هذا المراقب منح نفسه القليل من الصبر لمواصلة العمل معنا إلى الآخر، لخرج بنتيجة معاكسة تماماً). النص بالنسبة لبروك هو منطلق العملية كلها، فهو الذي يثير كل تلك الدوافع التي تحفز المخيلة. إنهَ ما حدث لمارا ـ صاد, حدث أيضاً مع عرضه الشكسبيري الشهير “تيتوس أندرونيكوس” فقد اعتبره النقاد أفضل بكثير من النص الشكسبيري نفسه!. لكن بروك، بوصفه فناناً صادقاً وخلاقاً، يلفت نظر أولئك النقاد إلى حقيقة أهّم، بقوله: (… هل تستطيع أن تعطيني نصاً مسرحياً بوليسياً مثيراً، وتقول لي، اعمله مثل ما عملت “تيتوس أندرونيكوس” سأقول لك حالاً.. لا أستطيع.. لأن نصاً كهذا لا يخبئ أسراراً، تلك التي أستطيع أن أنهل منها، لتفجير مخيلتي). يؤكد بروك في مرحلة التمرينات على أهمية عنصر الابتكار، ابتكار أي شيء، رديئاً كان أم سيئاً. إنه لا يُخضع ممثليه ولا حتى نفسه إلى أي نوع من الرقابة، لأنه لو فعل ذلك فإنه سيوقف السيل الدينامي المتدفق للمخيلة، أي يصبح بمثابة سد منيع إزاء حرية تلك الأشياء المتدفقة، وعندها ستفقد الأحاسيس والمشاعر نبضها وتصبح كتلة صماء. في هذه الفترة، والتي تكاد تشبه فترة المخاض، لابد أن تتوج بولادة، ولادة طبيعية، بالطبع، وليس ولادة مشوهة، ولادة كائن حي حقيقي ينبض بالحياة. عند ذاك، وبشكل تدريجي، تبدأ الكثير من المفردات بالتشكل. بروك يُصّر على إنجاز هذه المرحلة بشكل خلاّق لغرض تشكيل وصياغة نوع من الصلة بين ممثليه وبين ذلك الإحساس الهلامي الداخلي البدئي. ولأجل وضع تلك البدايات فإن التمّاس بين تلك الابتكارات الشخصية سيسهم حتماً في بروز العنصر المؤثر من الانطباعات الشخصية للممثلين ضمن معادلة (الدور ـ النص) ككل، والتي تبدأ في التدفق بشكل حر وتلقائي. مَهَّمة المخرج هنا، هي الحفر عميقاً وعميقاً في ذاكرة الممثل، في خزائن وعيه ولا وعيه، بشكل متواصل. وفي حالة إنجازه هذه المَهَّمة بنجاح، يكون هو وفريقه التمثيلي قد فكروا وتأملوا وجربوا وأخيراً قلبوا كل بنية المسرحية. في التمارين الأخيرة من فترة التدريبات على المسرحية، يتخذ عمل الممثل موقعاً معتماً. وهذا ما يُطلق عليه بروك بـ “الحياة السرية للمسرحية”. وهكذا، وبشكل تدريجي، يبدأ الممثل ممارسة وظيفته في إضاءة هذه المنطقة المعتمة، حينها يتفجر الضوء!. عند ذاك، على المخرج أن يتموضع في تلك المنطقة المضيئة، لغرض رؤية الفرق بين أفكار الممثل وأفكار المسرحية ذاتها. هنا، ينبثق دور المخرج بشكله الخلاق. بمعنى، إن عليه مَهَّمة شاقة وعسيرة وهي، إقصاء كل تلك الأشياء الزائدة وغير الضرورية والدخيلة والمرتبطة إلى حد كبير بشخص الممثل فقط، والإبقاء على الأشياء التي تنتمي إلى حدسه وإدراكه المرتبطين بالدور والمسرحية. وهكذا وبسبب من أولوية عمل المُخرج وجوهر وظيفته، مضافاً إليهما حسه الداخلي البدئي، يستطيع هو أن يميز بين ما ينتمي إلى المسرحية، وبين ذلك الذي جلبه الممثل وأياه إلى العمل من حشد هائل وفائض وغير ضروري. هذه المَهَّمة، حسب بروك، هي المَهَّمة الأساسية والجوهرية للمُخرج في المراحل الأخيرة من التمرينات على المسرحية. ولأجل أن يُنجز المُخرج هذه المَهَّمة بشكل خـلاّق، عليه أن يكون صارماً حتى مع نفسه، لأن أي ابتكار يخلقه يحتوي بالضرورة، على نكهة أو نفحة من نفحاته. المُخرج يقوم بابتكار جزء بسيط من العمل، شيء ما، غرضه توضيح شيء آخر. إلا أن جميع تلك الأشياء تتلاشى ولا يبق منها سوى الشكل العضوي، لأن الشكل هو ليس فكرة أو مجموعة أفكار تقحم بالقسر على المسرحية.
الشكل، هو العنصر الذي يضيء المسرحية، والمسرحية المضاءة في المحصلة، هي الشكل!. حين تتبدى نتائج العمل عضوية وموحدة، فهذا ليس بسبب من الرؤية المتماهية والموحدة بين المُخرج وفريقه التمثيلي، إنما، وحسب بروك، هي بسبب مشاركة جميع تلك الرؤى المتباينة لفريق التمثيل في الفترة الأولى للتمرينات على المسرحية.
هكذا يشيّد بروك عالمه التخييلي، بهذا الحضور الملموس للمخيلة الجماعية، وشحنه لتلك الأخيلة التي سوف تتدفق على خشبة المسرح، لتندلق نحو القاعة برفق ورشاقة، عابرة الجسور والسلالم والخيوط الفاصلة لتصب في نهر الحياة اليومي الواقعي الملموس.
*
مراجع:
– The Empty Space, The Shifting Point, There Are No Secrets, Peter Brook.
– Interview with Peter Brook by Jean Kalman. NTQ1 1985 NTQ1 1985.
– Peter Brook and Tradition Thought by Basarab Nicolescu.
– Peter Brook and The Mahabharata by Yoshi Oida. – On the Art of NO Drama by J. Thomas Rimer Yamazaki Masakazu.