فيلم ( عائشة ) قصة مؤثرا عن مسائل اللجوء والبيروقراطية والانتماء ؟؟
علي المسعود
فيلم “عائشة” للمخرج فرانك بيري الفيلم الروائي الثالث للمخرج المولود في دبلن . يسرد حكاية امرأة نيجيرية تطلب اللجوء في أيرلندا ويلقي الضوء على محنة اللاجئين وكفاحهم . يبدأ الفيلم بمشهد تدريب على الرقص الأفريقي تنكسرتلك اللحظة الممتعة حين يقتحم موظفوا الهجرة مركز حجز اللاجئين ويطردوا عائلة افريقية عنوة لغرض ترحيلها بعد رفض طلبهم وسط صراخ الاطفال وتوسل النساء وإصرار رفيقتهم في السكن عائشة في توديعهم . في فيلم عائشة ، في الواقع نلتقي ببطل الرواية ، عائشة أوساجي أمرأة مسلمة متدينة ( تظهر في مشهد وهي تقوم باداء صلاتها) إمرأة نيجيرية في العشرينات من عمرها تعيش في أيرلندا ،هربت من بلدها نيجيريا وتعيش في أيرلندا منذ ما يزيد قليلا عن عام حيث وصلت بفضل عائلتها التي دفعت ثروة لمهرب بالبشر. تهرب عائشة من مسقط رأسها في لاغوس ، حيث قتل والدها وشقيقها على يد تجار المخدرات الذين أقرضوا الأسرة المال حتى تتمكن عائشة من الذهاب إلى الجامعة. ومنذ ذلك الحين، عاشت هي ووالدتها مختبئين، حتى تمكنا من بيع كل ما لديهما تقريبا حتى تتمكن الابنة من السفر إلى أوروبا حيث يمكنها، كلاجئة سحب والدتها والعيش معها. لكن بالفعل في أيرلندا نرى أن الأمور أصعب بكثير مما يمكن أو ينبغي أن تكون. السلطات ، سواء العاملين في المباني المختلفة التي ستقيم فيها عائشة أو سلطات الهجرة قساة للغاية وتزيد من صعوبة الحياة للفتاة . تلتقي كونور ، حارس الأمن الذي كان في السجن لقضايا المخدرات ، على الرغم من إعادة تأهيله بالكامل . يمنحها كونور الدعم والتفهم الذي تبخل به السلطات عليها ، تبدأ صداقة معينة ومشاعر خاصة بينهما .
يتم التعامل مع عائشة مثل سجينة ، تعامل فظ وقاسي من قبل موظفوا الهجرة في مركز الحجز. في المقابل تجد نعاطف من قبل شاب أيرلندي يعمل حارس الأمن كونور ( أداء جميل ولطيف من جوش أوكونور). تظهر عائشة وحذرة ومترددة بشدة أتجاة االعلاقات الخاصة ، ربما تخشى عائشة التورط مع رجل ، بالاضافة الى إنها ترفض فكرة أن تكون في موضع شفقة لشخص وحيد للغاية على الرغم من أن كونور شخص يتميز بطيبته وبشفافيته . ليس الكثير في حياة عائشة يسير على ما يرام . خطوتان إلى الأمام وثلاث خطوات إلى الوراء . ونكتشف من خلال المكالمات الهاتفية بأن العودة الى إلى الوطن يشكل تهديد بالقتل وسوف يكون مصيرها المحتوم القتل بشكل مؤكد إذا عادت. وهي المعيل لأمها، التي لا تزال في نيجيريا والتي تتحدث معها بشكل متقطع عبر الإنترنت أو عبر الهاتف . لمحة الأمل الوحيدة لعائشة هي حارس الأمن كونور (جوش أوكونور) الذي هو الآخرمنبوذ . هو شاب هادئ يتعافى من إدمان مع سجل لسجين سابق ويعمل رجل أمن شفت ليلي في مركزالحجز ، ورغم تحذيره بعدم التحدث مع المحتجزين من طالبي اللجوء، لكن كونوريتخطى تلك القيود ويقوم بإيماءات صداقة تجاه عائشة ، ومن أجلها يتسلل إلى المطبخ لاستخدام المكروويف المحظورعليها. ينفتحان على استحياء على بعضهما البعض رغم تحفظ عائشة التي تميل في علاقتها إلى النساء الأفريقيات الأكبر سنا في مكان الإقامة في النزل وتتقاسم معهنً المخاوف والألم . تعمل عائشة مساعدة في صالون تجميل ، وتتلقى نفس السؤال من السكان الأيرلنديين الذين ينظرون إليها بفضول بسبب لون بشرتها “من أين أنت؟” .
استنادا إلى مقابلات مع طالبي اللجوء في أيرلندا ، هذا هو السياق الذي يحرك كاتب السيناريو والمخرج الأيرلندي، فرانك بيري ، الذي أجرى مقابلات مع مئات الأشخاص في هذه الحالة على مدى السنوات الأربع الماضية ، وركز جميع شهاداته على شخصية واحدة لفيلمه الروائي الطويل الأخير عائشة في عام 2022 . تقدم الممثلة ليتيتيا رايت أداء متميزا وتنجح في رسم صورة المرأة الغاضبة وفي نفس الوقت المسيطرة على أنفعالاتها مع الاعنزاز بكرامتها وهي تحاول الحصول على إلاقامة ومن ثم إحضار والدتها المسنة المريضة التي لا تزال تعيش في خطر . لكن عائشة تنكسر روحها بسبب التصرفات التافهة لمدير مسكنها الذي يتصرف انتقاما من جرأتها في استخدام الميكروويف لتسخين طعامها الحلال ، يصفها مسؤول مركز الحجز العنصري (ستيوارت غراهام) في مقر إقامتها بأنها متمردة ولا تنصاع الى الاوامر عندما تحتج على ترحيل العائلة التي تشاركها غرفتها ومرة أخرى عندما يعلم أنها كانت تستخدم الميكروويف ضد اللوائح لتسخين وجباتها. وتزيد من حقده ونقمته عند شراءها اللحوم الحلال الخاصة بها ومشيرة إلى أن الطعام الذي توفره المنشأة غير مقبول . يقوم ينقلها بعيدا عن أصدقائها ووظيفتها ومحاميها إلى منشأة في عمق ريف مقاطعة ويكلو وهي عبارة عن مجموعة الحاويات المصممة في وحدات سكنية بدائية وتحرم عائشة من عملها في الصالون . اللجئة عائشة مصممة على انتظار الرسالة التي تعلن قبول طلب لجوءها، وعندما تنجح أخيرا ينقلها مانينغ (ستيوارت جراهام ) مدير السكن دون استشارتها مسبقا ودون موافقتها ، إلى مكان آخر في جنوب المدينة دون فرصة للتفاوض على التغيير . إنه قرار تعسفي تطبقه السلطات ، لكن هذا لا يتوقف عن كونه انتهاكا لحقوقه الأساسية ليس فقط كمهاجرة ولكن كباقي البشر في الحصول على سكن لائق وحقهم في العمل . بسبب هذا القرارفقدت وظيفتها. لا يمكن التفاهم والتفاوض معهم . كما حدث عندما اقتحمت الشرطة غرفتها، وطرقت الباب وأخرجت شريكها بعنف وهو مهاجر أيضا لأنها لم تذهب للإبلاغ عنه .
يصبح فيلم “عائشة ” فيلما عن دراما هجرة لأشخاص يطلبون اللجوء في مكان لا يمثلهم ، ويواجهون أيضا الأشخاص المتباينين في السلوك والتعمل . يصور المخرج فرانك بيري في رئيس مانينغ والحارس كونور خاصيتي مؤسسات الهجرة المتناقضة ، القهر والاستبداد والتعاطف والطيبة. دراما مكثفة ومؤثرة من الكاتب والمخرج الأيرلندي فرانك بيري والتي يشير فيها الى قلقا متزايدا في أيرلندا أتجاه اللاجئين القادمين إليها ، إنها دراما للتعاطف والحياة يقدمها لنا اثنين من الفنانين ذوي الكفاءات العالية جدا في ألاداء وهما جوش أوكونور وليتيتيا رايت . بالنسبة لعائشة أوساجي فإن الترحيل دائما ما يكون في ذهنها وتعيش في خوف دائم لكونها عالقة في متاهة من الروتين والبيروقراطية الذي يفضحه الفيلم . الكاتب و المخرج فرانك بيري يستكشف محنة أولئك الذين هربوا من ظروف خطيرة ولجأوا إلى أوروبا بحثاً عن الامان . في النهاية وبعد إنتظار دام عامين وبعد تقديم قضيتها المرفوضة للاستئناف ، تظهر جانب من الإحباط وغضبها في تصريحاتها مع الأعتزاز بكرامتها ، قائلة” إنها جاءت إلى أيرلندا من أجل السلامة وليس للحصول على صدقة” .
عملية طلب اللجوء في أيرلندا هي طاحونة طويلة من الإهانات التراكمية والروتين المحبوك إنها عملية مجردة من الإنسانية ، ولكنها فشلت حتى الآن في سحق روح عائشة (ليتيتيا رايت)، تبدو دراما فرانك بيري الحساسة مؤثرة للغاية . شخصية عائشة التي تشير إلى شجاعتها الهادئة وعزيمتها بالإضافة إلى يأسها وعزلتها ولا سيما في لقطات رائعة لحافلتها ، تبدو وكأنها في عالم آخر أثناء تجولها على طول الطرق الريفية وسط التلال الخضراء . المخرج ( فرانك بيري ) متخصص في الدراما الواقعية الاجتماعية التي تعتمد على خلفيته في صناعة الأفلام الوثائقية والمجتمعية . وتتضح هذه الجذور هنا في فيلم ( عائشة ) وبحثه في نظام الحماية المثير للجدل في أيرلندا، نظام الحماية محبط للمعنويات بقدر ما هو تجريد من الإنسانية. حيث يتم إيواء طالبي اللجوء في بيوت الشباب أو الفنادق الرثة ومعظمها مؤسسات ربحية يديرها مقاولون من القطاع الخاص في حين يتم التحكم في النظام العام من قبل وزارة العدل . يتم نقل الأشخاص عشوائيًا أو يتم رفض قضيتهم ويتم إعادتهم إلى بلدانهم دون سابق إنذار أو ربما العيش في مكان ما لسنوات تنتظر أن تتم النظر في قضيته والبت فيها مطلوب الكثير من عائشة لإثبات أنها تستحق القبول في بلد من أجل العيش . تقيم عائشة في نزل حكومي الذي يوفر الخدمات المباشرة لعائشة، مثل غيرها من طالبي اللجوء في أيرلندا من السكن والطعام وبدل أسبوعي متواضع . وتشير المشاهد في السكن الى روح مجتمعية دافئة بين طالبي اللجوء أنفسهم .
فيلم ” عائشة ” هو انعكاس حقيقي لكراهية الأجانب والعنصرية جنبًا إلى جنب في الدول الغربية لإبقاء اللاجئين الذين يخشون على حياتهم في بلدانهم الخاصة بهم في حالة من النسيان القاسي . نجح الكاتب والمخرج الأيرلندي فرانك بيري في الكشف عن معاملة بلاده القاسية للاجئين من خلال أحدث أعماله الدرامية الواقعية الاجتماعية وهو نظرة حزينة وصادقة على التجريد من الإنسانية المتأصل في تحويل الصراع البشري إلى دوامة بيروقراطية . عائشة عمل فني قوي عمّيق المستوى ومتعاطف مع اللاجئين ، ولا سيما النساء اللائي يقاتلن الآن من أجل البقاء ويتوسلن الدول ذات الفضاء الآمن في جميع أنحاء العالم للسماح لهم فقط بالعيش . حتى عند الإجابة على أسئلة البيروقراطيين الذين يحملون مصيرها في أيديهم . نتابع مسار الفيلم بعد أن يتم نقلها مرتين وتضطر إلى التخلي عن وظيفتها بدوام جزئي ، وتصدم بوفاة أمها التي كانت تامل بان يلتم شملها مع إبنتها ، ويقال لها إنها لا تستطيع حضور الجنازة ما لم تلغي طلبها وتبقى في نيجيريا بشكل دائم ، تنعكس أحزان عائشة في عينيها وتحفر على وجهها وجع دفين لكنها تحافظ على عزم هادئ طوال الوقت . وبغض النظر عما إذا كان مسموحا لها بالبقاء في البلاد أم لا ترفض عائشة أن تفقد كرامتها خلال تقديمها طلب اللجوء. تتعرض عائشة لسلسلة من الانتكاسات حيث تم رفض طلبها لكنها مثابرة .
تحدث المخرج فرانك بيري قائلاً : “نحن بحاجة إلى نظام لطالبي اللجوء أكثر وعيا بحقوق الإنسان بكرامة وبرعاية طبية وكل حقوق الإنسان الأساسية التي حددتها الأمم المتحدة “. أمضى المخرج فرانك أربع سنوات في القيام بالمهمة الضخمة المتمثلة في البحث في نظام العدالة في أيرلندا والآلاف من طالبي اللجوء العالقين واجتمع مع المنظمات والأشخاص المتأثرين مباشرة بسياسات الهجرة في البلاد ، و نجح في رسم صورة حقيقية جدا لما تبدو عليه الحياة بالنسبة لحوالي 7000 طالب لجوء في أيرلندا اليوم يعيشون في طي النسيان في بلد جديد وفي ظروف صعبة وغير قادرين على السفر ولا يعرفون ما إذا كان بإمكانهم البقاء أو الذهاب .