فنانة على طريق النضال فنانة الشعب ” زينب “
علي المسعود
الفنانة الرائدة ” زينب ” إحدى أبرز شخصيات المسرح العراقي الحديث، والتي استحقت بجدارة لقب “فنانة الشعب العراقي” بعد مشوار طويل وحافل بالعطاء والابداع . تلك الفنانة والمناضلة الكبيرة (الوطنية) التي سخرت حياتها وفنها لخدمة قضية الشعب والوطن منذ صباها حتى آخر يوم في حياتها المليئة بالعطاء على الرغم من كل المصاعب والظروف القاسية التي جابهتها من ملاحقة وتشريد واختفاء واغتراب عن ارض الوطن . فخرية عبد الكريم ( اسمها الحقيقي) ولدت في محافظة واسط لواء الكوت عام/1931 “وسط عائلة كبيرة يعيلها موظف حكومي يعمل –مدير زراعة الكوت- وهي عائلة وطنية عرفت في مقارعتها الظلم والتعسف والاستعمار ، و بحكم عمله كان يتنقل بين محافظات العراق الجنوبية ومعه عائلته ، فسكنت العائلة اولاً ،الناصرية ثم العمارة ،واخيراً استقرت في بغداد . في مدينة الناصرية –مدينة الفن والسياسة والأدب ، نشأت، وعُرفت افكارها اليسارية من أحد اشقائها الذي كان منتمياً الى الحزب الشيوعي العراقي . أكملت دراساتها الابتدائية والمتوسطة والاعدادية في مدينة الكوت, ثم رحلت مع عائلتها الى بغداد لتدخل كلية الآداب جامعة بغداد قسم اللغة العربية للعام الدراسي 1948-1949 ، لم تكن الفنانة (فخرية عبد الكريم) عاملة في حقل التمثيل فقط ، بل كانت مناضلة ومكافحة للظلم ومعارضة نشطة ضد السيطرة الاستعمارية والسلطة الرجعية الحاكمة السائرة في ركاب سلطة الاحتلال البريطاني ، وناشدة الحرية لشعبها العراقي المظلوم . كانت تكره الظلم وتقييد الحريات بأنواعها المختلفة . لذا قررت ان تدخل الحياة السياسية عام/ 1948 ، ويمثل هذا العام تشريد الشعب الفلسطيني من قبل الصهاينة وقرار تقسيم فلسطين ودخول الجيوش العربية لمحاربة الكيان الصهيوني ، وساهمت بشكل فاعل في المظاهرات الجماهيرية التي نددت بمعاهدة (بورت سموث) المعقودة بين الحكومة العراقية وبريطانيا ، وقدم فيها الشعب العراقي فيها شهداء أبرار ، وعرفت هذه الموقعة بـ ( وثبة كانون) عام 1948 .
كانت الفنانة (فخرية عبد الكريم) صوتاً مدوياً في وجه السلطة الحاكمة. كان عام/ 1952 حافلاً بالأحداث المهمة في حياتها. فقد عينت مدرسة في مدرسة (الكوت) وزاد نشاطها السياسي ومتابعتها للأحداث السياسية الجارية في البلاد… وبسبب هذا النشاط تعرضت الى الكثير من المضايقات والمراقبة البوليسية فأخذت تنتقل الى العديد من محافظات العراق هرباً من عيون وملاحقة الشرطة السرية ، فكانت الرمادي محطتها الاخيرة قبل بغداد . في هذه المدينة قدمت اول اعمالها الفنية وهي مسرحية [زواج بالإكراه] من تأليفها واخراجها ومثلتها مع نخبة من طالبات المدرسة وبعض المعلمات ، وقد تصدت هذه المسرحية لظاهرة مهمة في المجتمع العراقي الذي خيّم عليه الجهل والتخلف والمرض والفقر وأثارت حفيظة السلطة الحاكمة حيث اعتبروها محرضة للنساء على العادات والتقاليد السائدة ، تعرضت بسببها الى القذف والتشهير وأبعدت عن مدينة الرمادي منفية الى ناحية الشطرة في مدينة الناصرية ، رغم أن المسرحية حققت نجاحاً فنياً كبيراً وضجة اعلامية واسعة ، وذهب ريع المسرحية الى الطالبات الفقيرات في المدرسة ، عاشت الفنانة في محيط عائلي يتسم بالوطنية. فكان شقيقها هو معلمها الاول الذي كان يلقي عليها دروساً عن افكار ومبادئ الحزب الشيوعي .
وفي عام/ 1954 فُصلت من وظيفتها بسبب نشاطها السياسي في اثناء الحملة الشرسة التي شنها النظام الحاكم آنذاك ، ولم يحد الفصل من عملها الوظيفي على نشاطها الثقافي والسياسي ولم تستلم ، بل إعتبرت هذه الفترة فرصة جيدة لتغذية فكرها وتنشيطه ، كانت تقرأ بنهم وتشارك في المظاهرات الجماهيرية كالمظاهرة الكبيرة التي جرت في العام/ 1956 التي نددت بالعدوان الثلاثي على مصر، وتطالب الحكومة العراقية الوقوف إلى جانب مصر ضد العدوان . في العام 1958 حدثت ثورة 14 تموز واسقطت الملكية واعلنت الجمهورية . وكانت المناضلة (فخرية) يومها في مدينة الحلة وسمعت نبأ الثورة من المذياع فغمرها الفرح وانطلقت مسرعة الى الشارع وخلعت عباءتها السوداء ووقفت من احد مراكز الشرطة وصادف وجود أحد باعة [الشلغم] ولظرافتها المعهودة وفرحها بانتصار الثورة ، أخذت قبعة أحد رجال الشرطة ووضعتها على رأسها واعتلت عربة بائع الشلغم وراحت تهتفت تهزج للثورة. بعد قرارإعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم ،عادت المناضلة (فخرية عبد الكريم) الى عملها الوظيفي كمدرسة. انتقلت الى بغداد بعد ان أعيدت خدماتها الوظيفية ومارست عملها في مدرسة ثانوية الرشيد للبنات الكائنة في منطقة (العيواضية) فأخذت تدرس اللغة العربية, وحازت على حب المدرسات والطالبات على حد سواء لما تملكه من اخلاق راقية وشخصية محبوبة وقوية تفرض احترامها على الجميع . مارست الكتابة اولاً ثم القصة القصيرة والشعر ونشرتها في الصحف والمجلات الوطنية بأسماء مستعارة منها [زينب] وسميرة الفقراء ،، ولم تستطع جمعها في كتاب واحد ، وبعدها كتبت التمثيلية الاذاعية والفت للتلفزيون اربع تمثيليات (منعتها الرقابة من العرض) . وفي 1959 إلتحقت الفنانة زينب بـ (فرقة المسرح الحديث) حيث أدّت أول أدوارها في مسرحية (آنه أمك يا شاكر) مع الفنان يوسف العاني، وبعدها واصلت أدوارها التمثيلية الجادّة البارزة عبر هذه الفرقة ، فيما يلي عناوين أغلب المسرحيّات التي مثّلت فيها زينب أدواراً بارزة :
(أهلاً بالحياة) ،(رسالة مفقودة) ، (الخال فانيا) ، (فوانيس) ، (الخان) ، (البستوگة) ، (الخرابة) ،(نفوس) ، (الشريعة)، (آنه أمك يا شاكر) ، ( تموز يقرع الناقوس)، ( قسمة والحلم) ، (الحصار) ، (النخلة والجيران) ، ، فقد كان نقلة مهمة في حياتها الفنية ؛ فمن من جيلنا المخضرم لا يتذكر (سليمة الخبّازة) . (شعيط ومعيط وجرّار الخيط) ، (الينبوع) ، (وحشة وقصص أخرى) ، (الأم) ، (مغامرة رأس المملوك جابر) ، ( بغداد الأزل بين الجدّ والهزل) ، ( سولف يا ليل) ، ( صور شعبية وصورة) ، ( فوانيس) ، (شفاه حزينة) ، ( ثورة الموتى) ، (المملكة السوداء) ، ( ست دراهم) ، (بيت برناردا ألبا) ، ( دون جوان) ، ( هاملت عربياً) ، ( أنا ضمير المتكلم)، (حلبجه الجريحة) و (سالفة أم مطشّر) . في مجال الإخراج أخرجت زينب مسرحيتين : (زواج بالإكراه) من تأليفها في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي ؛ ولذا تُعد رائدة الإخراج المسرحي على المستوى العربي ، أمّا المسرحيّة الثانية فهي (دون جوان) لموليير .أمّا في مجال التأليف فقد كتبت زينب العديد من المسرحيات منها: (ليطة) ، (الريح والحب) ، (تحقيق مع أم حميد) و(بائعة الأحذية) . وكذلك قدّمت زينب مئات التمثيليات الإذاعية تأليفاً وتمثيلاً ، بالإضافة إلى كتابة الشعر والقصة القصيرة والعديد من المقالات ، التي كانت تنشرها أحياناً بأسماء مستعارة ، أحدها (زينب) . شاركت في السينما بعملين وهما فيلم (سعيد أفندي) ومثلت دور “فهيمة ” مع الفنان الراحل يوسف العاني وكان من اخراج كاميران حسني عام 1957، وفيلم (أبوهيلة) مع الفنان يوسف العاني وناهد الرماح ،من أخراج المخرج محمد شكري جميل عام 1962 . إثْرَ هجمة االشرسة على القوى التقدمية والديمقراطية كافّة في عام 1978 مُنعت الفنانة زينب من دخول الإذاعة والتلفزيون ومنعت حتى كتاباتها من النشر، اضطرت الفنانة الراحلة إلى مغادرة الوطن هربا من جحيم الارهاب والقمع والاستبداد لتحط في بلغاريا حيث قضت فيها ثلاثة أشهر .
وفي نهاية شهر تموز من السنة نفسها سافرت إلى عدن ، فعيّنت مستشارة فنية في وزارة التربية ومشرفة على إجازة التمثيليات التلفزيونية …وقد أسست هناك (فرقة الصداقة) المسرحية وتولّت رئاستها وأفلحت في لم شمل خريجي معهد وأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد ممن أضطرّتهم ظروف العراق إلى الهجرة . وكانت باكورة أعمالها تقديم مسرحيّة (مغامرة رأس المملوك جابر) تأليف: سعد الله ونّوس وإخراج لطيف صالح ، حيث عرضت على المسرح الوطني في عدن ومسارح أخرى وفي محافظة ( أبين) وفي معسكرات الجيش اليمني ، ثم قدّمت الفرقة مسرحيّة ( ألام) التي أعدّها بريخت عن رواية غوركي الشهيرة، واشترك فيها لفيف من الممثلين وأخرجها الفنّان سلام الصگر، ثمّ قدّمت الفرقة مسرحية (غرف التعذيب) بإخراج سلام الصگر نفسه . في منتصف 1981غادرت اليمن إلى دمشق ، حيث عيّنت في وزارة الثقافة .. وأسست (فرقة بابل) المسرحية التي ضمّت مجموعة كبيرة من الممثلين العراقيين.. و سرعان ما قدّمت مسرحية (الحصار) تأليف: عادل كاظم وإخراج زوجها الفنان لطيف صالح ، والتي لاقت نجاحا كبيراً، ثم مسرحية ( ثورة الموتى) بإخراج : سعد السامرائي .. ومن ثمّ تصاعد حراكها ونشاطها الفني فقدمت مسرحية ( وحشة وقصص أخرى) من إخراج روناك شوقي ، وقد عرض هذا العمل في مهرجان دمشق الدولي ، كما قدمت مسرحية ( قسمة والحلم) بإخراج : سلام الصگر . توجّهت إلى (ستوكهولم) عاصمة السويد في 22 تموز 1990 ، تنقّلت في مدن أخرى حتى استقر بها المقام في مدينة (يتبوري)، حيث أسست (فرقة سومر) المسرحية في منتصف 1991، بالتعاون مع رفاقها ، لطيف صالح ، صلاح الصكر ، رياض محمد ، صباح مندلاوي ، سلام الصكر ، اسماعيل خليل والمطربة أنوار عبد الوهاب . وأصبحت زينب المديرة الفنية لها..وقدّمت باكورة أعمالها مسرحية (صور شعبية وصورة) في يوم المسرح العالمي ، وهي من تأليفها، واستمر عرضها لثلاث ليال متتالية ، كما قدّمت مشهداً من مسرحية ( مغامرة رأس المملوك جابر) بعنوان (الجوع)..وبعدها عرضت الفرقة مسرحيّات : ( آنه أمك يا شاكر)، ( قارب في غابة) و( يا غريب اذكر هلك) .
رغم قسوة الغربة والمرض ، لكن الفنانة زينب كانت تتمنى العودة الى وطنها ، ليكفّنها ثراه ؛ لكن المنيّة وافتها في الغربة و لمْ تكحّل عينيها برؤية الوطن، في (13 آب 1998) في منفاها بالسويد، حيث جرى تشييعها وخرج لتوديعها حشد غفير من العراقيين بشتّى أديانهم وميولهم ، بالإضافة لعشرات الشخصيات والوجوه السياسية والثقافية والفنية من مختلف أنحاء العالم في موكب مهيب لم تشهده السويد من قبل . “سنحدث الناس عنك كل الناس ، سيعرفك كل العراق بكل اطيافه .. سيبقى اسمك رمزاً للمسرح الهادف الحرُ وفنك شجرة وارفة حيّة في قلوب العراقيين ) . هذه الاسطر القليلة كتبت
على لافتة حملها المعجبون المشيعون لجنازة الفنانة الكبيرة (زينب) وقد لفت بالعلم العراقي الوطني لعام/1958 (علم العهد الجمهوري الاول بعد ثورة 14 تموز / 1958 وزعيمها الراحل عبد الكريم قاسم ودّعها المغتربون العراقيون في السويد الى مثواها الأخير في بلاد الغربة و لتستقر هناك صامتة الى الأبد بعد طول عناء وكفاح مرير .