التمسك بالهوية الكردية والاندماج في مجتمعات الأغتراب في الفيلم الياباني ( أرضي الصغيرة)
علي المسعود
في السنوات الأخيرة، برز المزيد من أسماء المخرجين اليابانيين الجدد الذين ظهروا لأول مرة بأعمال متميزة وأعمال جيدة من المتوقع أن يكون لهم تأثير تنويري على القضايا الاجتماعية في هذا البلد . ومنهم المخرجة ” إيما كاواوادا ” التي ولدت في 15 أكتوبر 1991 في محافظة تشيبا من أب إنجليزي وأم يابانية . وعملت كمساعدة مخرج في الأعمال التي أخرجها “هيروكازو كوريدا” ، فيلم ” أرضي الصغيرة” أول ظهور فيلم روائي لها . الفيلم يكشف أحد أوجه المعاناة الإنسانية وهي معاناة اللاجئين وخاصة أفراد الجالية الكردية ، إلا أن المخرجة آثرت أن يسلط الفيلم الضوء على قضاياهم وقضايا غيرهم من اللاجئين في البلاد وسبر أغوار حياتهم وقصصهم الخاصة . نادراً ما تم التعامل مع قضية العلاقة بين الأجانب والأقليات المختلفة في اليابان والمجتمع في كل من الأفلام الروائية والأفلام الوثائقية. ولكن في الفترة الأخيرة أنتجت بعض الأفلام التي قدمت قصصًا عن حياة الأكراد الذين يعيشون في اليابان ، مثل فيلم ”أكراد طوكيو“ صدر في عام 2018 .
فيلم “أرضي الصغيرة” يعرض القيود التي تفرضها الحكومة اليابانية على الحياة اليومية للأكراد الذين يعيشون فيها والصعوبات التي تواجهها العائلات التي رفضت طلب لجوءها والمعاملة اللاإنسانية من قبل مكتب الهجرة ، توضح المخرجة كيف يحافطون على تقاليدهم وثقافتهم ويساعدون بعضهم البعض ، والشعور بالاغتراب ويعاملون على أنهم غرباء “غايجين” حتى بعد الاندماج في المجتمع الياباني . يُجبرون على العيش في ظل نظام ”الإقامة المؤقتة“ ، وبالتالي لا يُسمح لهم بالعمل أو التنقل بحرية عبر حدود المحافظات ولا يمكنهم حتى الحصول على تأمين صحي. اختارت المخرجة كاواوادا الشابة “أرينا أراشي ” لتمثيل دور الشابة الكردية (ساريا) في أول ظهورها. ساريا فتاة كردية عادية تبلغ من العمر 17 عاما. جاءت ساريا إلى اليابان بعد هروبها من تركيا التي كانت تعيش فيه مع عائلتها الكردية عندما كانت صغيرة . تعيش الآن مع والدها مظلوم (أراشي كارفيزاداي)، وأختها أرلين (ليلي كارفيزاداي)، وأخيها الصغير روبن (ريون كارفيزاداي)، تذهب إلى مدرسة ثانوية في سايتاما. في البيت تصلي دائما باللغة الكردية قبل الوجبات وتتناول الطعام الكردي ، ويأمل والدها ألا نفقد فخرها بأصولها الكردية. يعتز والد ساريا بقوميته وجذوره الكردية ، ويعلم والد ساريا ابنه الصغير أن يشير إلى صدره ويقول: “بلدنا هنا”. بدأت ساريا وظيفة بدوام جزئي كي نفسها في مواصلة دراستها .
تقابل الشاب سوتا (أوكودايرا دايكان) الذي يدرس في نفس المدرسة الثانوية . ساريا تتحمل مسؤولية المنزل ورعاية شقيقها الأصغر وأختها بدلاً من والدتها المتوفاة ، توفيت والدة ساريا في مرحلة ما قبل هذه الفترة . والدها الذي هرب من تركيا بعد تعرضه للتعذيب باعتباره “ناشطا سياسيا” – كما حددته السلطات التركية – هو السبب في طلب اللجوء . بالإضافة إلى العمل بدوام جزئي في متجر صغير في طوكيو للمساعدة في تدبير نفقاتها المدرسية ، تعمل مترجمة لأولئك الذين لا يتحدثون اليابانية من المغتربين الاكراد لكونها تجيد اللغتين اليابانية والكردية ، وبالتالي فإن حياتها مليئة بالعمل من أجل الآخرين ، نشأت ساريا في اليابان وتحاول توسيع آفاقها، الأمر الذي يضعها في صراع مع والدها الذي يريدها دائمًا أن تتذكر هويتها الكردية وأن لانتسى بأنها جزء من المجتمع الكردي . تخشى الشابة الكردية أن تتعرض لضغوط الزواج وإجبارها من قبل الأب على ذالك . وهذا ما يتعارض مع طموحها وما تريده حقا هو الاستقلال وفرصة العيش مثل زميلاتها اليابانيات. إنها فتاة مشرقة وذكية وقدوتها معلمتها اليابانية التي درستها في المرحلة الابتدائية وتستمتع بحياتها مثل أي إمرأة يابانية شابة رغم أنها تعرضت للتنمر حين أطلق عليها بعض الطلاب غايجين (أجنبية) أصبحت الآن تتحدث اليابانية بطلاقة إلى الحد الذي تساعد فيه الآخرين في المجتمع الكردي في معاملاتهم مع الدولة والبيروقراطية اليابانية. بالإضافة إلى واجباتها المدرسية ومساعدتها في الترجمة فإنها تعمل بعد المدرسة في سوق صغير. ونشاهد كذالك عملها وعمل والدها في شركة بناء مع مجموعة من الأكراد بشكل غير قانوني بموجب لوائح اللجوء. لقد عاشوا اثني عشر عاما في اليابان ولكنهم لم يمنحوا اللجوء بعد . لا يقدم السرد أي عنصرية علنية أو سلوك عدائي من المجتمع الياباني بإتجاه المجتمع الكردي،العديد من اليابانيين “محافظون” وإنطوائيون على حد سواء وغير راغبين في التورط في أي شكل من أشكال العلاقة مع ” الغرباء “. رغم ذالك ، تنشأ ساريا علاقة جميلة مع سوتا ابن شقيق مالك السوق الصغير التي تعمل فيه .
يبدأ سرد الفيلم من حفل زفاف كردي تقليدي في حديقة عامة وبالملابس الكردية ذات الالوان الزاهية والاغاني والدبكة الكردية الجميلة . ونرقب إحجامها عن المشاركة في الغناء والرقص مع مجتمعها من الجالية الكردية . تشعر ساريا بالضيق عندما تقترح إحدى النساء الأكبر سنا أنها ستكون التالية التي ستتزوج وينظر إلى الشاب (علي ) الذي يعمل مع والدها على أنه زوج محتمل ، ثم نراها في الحافلة عائدة إلى منزلها في محافظة سايتاما خارج طوكيو . تحاول بقوة تنظيف الصبغة الحمراء ( الحناء) على راحة يدها من أثارحفل الزفاف .
هناك حوالي (2000 ) كردي يعيشون في اليابان . يتجمع العديد منهم في مدينة وارابي ومدينة كاواغوتشي في الجزء الجنوبي من محافظة سايتاما . كثير منهم لاجئون جاءوا إلى اليابان في التسعينيات هربا من اضطهاد الحكومة التركية . في اليابان، هناك عدد قليل من الحالات التي يتم فيها الاعتراف باللاجئين حتى لو تقدموا بطلب للحصول على اللجوء ، لذلك يعيش العديد من الأكراد حياة غير مستقرة . بعد رفض طلب اللجوء للعائلة الكردية، وتغيرت حياة ساريا اليومية لأن الأسرة فقدت وضع إقامتها. وبسبب سحب الاقامة لن تتمكن ساريا من مغادرة سايتاما، وطردت من عملها وعدم السماح لها بالعمل ، كذاك القي القبض على الأب، الذي كان يعمل بشكل غير قانوني من أجل لقمة العيش واحتجازه من قبل مكتب الهجرة . ومن الصعوبة التنقل بين المدن ومجازفة كبيرة في عبور حدود المحافظة .
المخرجة ” إيما كاواوادا ” ذات الاصول المختلطة يستند فيلمها إلى رواية كتبتها مستمدة من تجربتها الشخصية في تناول الأزمة التي تغرق فيها ساريا وعائلتها ، في نفس الوقت تحاول استكشاف قضايا أخرى حول تجربة المهاجرين . نرى الناس يسألون ساريا في كثير من الأحيان عن أصولها وهويتها الاصلية ، لكنها تكذب على زملائها في الفصل بنوايا لطيفة وتخبرهم بأنها ألمانية، لأنه أسهل لها من شرح التاريخ المعقد للأكراد، نكتشف أنها تعرضت للتنمر عندما سجلت لأول مرة في المدرسة في اليابان، على الجانب الآخر، الجالية الكردية والمجتمع الكردي يضغط عليها في التمسك في هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم، لكنها تتوق إلى أن ينظر إليها ببساطة على أنها يابانية. تتحدث مع الشاب سوتا (أوكودايرا دايكن)، حبيبها ، وتتذكر مشاعرها وتشجيعها للفريق الياباني في بطولة كأس العالم لكرة القدم مثل أي يابانية تنتمى الى هذه البلد . ولكنها تشعر غير مسموح لها التعبير عن تلك المشاعر امام والدها . على الرغم من أننا نرى كل شيء من خلال عيون جيل الأغتراب الثاني ، على العكس من الجيل الأول الذي لا يزال فخورا بكونه كرديا كمهاجر، تماما كما كان فخورا به في تركيا ولاينسى السبب في اضطرارهم في الأصل إلى الفرار. ربما تذكره ندبة على ركبته من أثر التعذيب الذي تحمله، ومع ذلك فهو يتوق إلى وطنه والمكان الذي دفنت فيه زوجته .
” رينا أراشي ” (والدتها نصف يابانية ونصف ألمانية، وقد اكتسب والدها الجنسية اليابانية، وهي إيرانية سابقة لها جذور في العراق وروسيا) التي لعبت دور ساريا طالبة نشيطة في المدرسة الثانوية وعارضة أزياء، دور ساريا، الشخصية الرئيسية البالغة من العمر 17 عاما، كردية نشأت في اليابان منذ سن مبكرة. هذا العمل أول ظهور لها كممثلة. على الرغم من أن المخرجة كاواوادا أرادت في البداية يكون طاقم عمل كردي، إلا أنها وجدت خياراتها محدودة للغاية، لأن المجتمع الكردي في اليابان صغير جداً ،أضافة الى ذالك البعض لهم طلبات للحصول على وضع اللاجئ ، وقد تتعرض أوضاعهم وطلبهم للخطر نتيجة لذلك. وقع الأختيار الممثلة أراشي عارضة أزياء ذات جذور شرق أوسطية في أول ظهورلها على الشاشة ، في فيلم ” أرضي الصغيرة ” تقدم الكاتبة والمخرجة اليابانية إيما كاواوادا، التي تظهر لأول مرة، استكشافا مؤثرا وصادقا لتجربة اللاجئين الأكراد في اليابان من خلال عدسة بطلة شابة وبالاعتماد على المقابلات التي أجريت مع اللاجئين الاكراد في عام 2018 . الفيلم دعوة إلى مواجهة مفاهيم الحدود والهوية والمكان ونحن نشهد العواقب العاطفية والجسدية للنزوح الثقافي وإبراز لمشاعر المخرجة كاواوادا حول ظلم نظام اللجوء .
قد تبدو قصة عائلة كردية تسعى للحصول على صفة اللاجئ في اليابان بعيدة عن الأمور المعتادة التي يواجهها معظم اللاجئين في بلدان أخرى، لكني متأكد من أن العديد من الأشخاص وبغض النظر عن جذورهم، قد عانوا من صراعات مماثلة مع الهوية والمكان . من خلال استكشاف مواضيع الأسرة والتضحية والانتماء، يجلب هذا الفيلم شعورا بالعلاقة بموضوعه، مما يشجعنا على النظر في حقائق تجربة اللاجئين . ساريا وعائلتها أكراد يعيشون في مقاطعة سايتاما اليابانية وضعهم كلاجئين كان قيد المراجعة، و خلصت تلك المراجعة برفض طلبهم الذي لا جدال فيه. يتم رفض طلب الأسرة للحصول على صفة اللاجئين وتتم مصادرة بطاقات الإقامة الخاصة بهم . مع وضع قيود صارمة على تحركاتهم . بعد سجن الوالد ( مظلوم كولاك ) من قبل دائرة الهجرة ، تزداد صعوبة الحياة على الشابة الصغيرة وتتوالي المصائب بعد طردها من العمل للخطورة في تشغيل اللاجئ الغير شرعي ، بالاضافة الى ضغط صاحب الشقة بمستحقات الأيجار لمدة اكثر من 3 أشهر . لم يعد مسموحا له بالعمل أو الحصول على التعليم أو الرعاية الصحية للأسرة، أو حتى عبور خطوط المحافظات دون إذن صريح من الحكومة . في النهاية يبعد الاب الى بلده رغم خطورة القرار على حياته ويستثى ا الشابة (ساريا ) وشقيقتها الأصغر (آرين ) والطفل الصغير (روبن ) تتمتع ساريا بفهم قوي للغة والعادات اليابانية، وبالتالي تكافح من أجل الارتباط رغم الشعور بالاضطراب الاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع الكردي من حولها .
بدأت فكرة إنتاج فيلم ” أرضي الصغيرة” في عام 2015 للمخرجة كاواوادا ، عندما انتشرت الأخبار والصورعن المرأة الكردية المقاتلة التي تحارب داعش الأرهابية في كوباني . تقول المخرجة كاواوادا في ملاحظاتها عن إنتاج الفيلم “لقد صدمت من صور الشابات في سني اللواتي يحملنً السلاح ويقاتلن في الخطوط الأمامية لحماية أراضيهن” . وبدأت كاواوادا في البحث وإجراء المقابلات مع الأكراد من طالبي اللجوء في اليابان لمدة عامين . كما أجرت مقابلات مع أولئك الذين يحتجزهم مكتب الهجرة . تقدم “لينا أراشي”، في دور ساريا، أداء قويا ودقيقا ودقيقا لمراهقة تكافح مع كل جانب من جوانب حياتها وهويتها . ولدت عام 2004 في محافظة سايتاما. ومعروفة كذلك باسم (لينا قحفي زاده) والدتها من أصول يابانية وألمانية، بينما والدها مواطن ياباني له جذور من إيران والعراق أصبحت عارضة أزياء محترفة منذ تقريبًا المرحلة المتوسطة من دراستها . تتحدث كاواوادا عن الفيلم وتناقشا تجاربهما التي ألهمتَهما المشاركة فيه وتقول :” أردتُ أولاً أن يكون طاقم الفيلم الرئيسي من الأكراد. لكنني قررت أن أعدل عن ذلك لقلقي من أن يكون الظهور في فيلم درامي أمر قد يحمل رسالة اجتماعية قد تُستخدم ضدهم في وضعهم الحساس وهم بصدد التقدم بطلب للحصول على صفة اللاجئ. لذلك ، بدأت في إجراء اختبارات الأداء لأشخاص من خلفيات متنوعة من بلدان أخرى ، وكانت من بين المشاركين لينا، التي بدأت حياتها المهنية كعارضة أزياء في المجلات. وهي طالبة في المدرسة الثانوية تعود جذورها إلى خمسة بلدان مختلفة، من ضمنهم بلدان من الشرق الأوسط . وساعدني موقف لينا حيال الاهتمام بالآخرين على تجسيد شخصية ساريا. حتى أنني أجريت بعض التعديلات على النص الحواري ليتناسب مع شخصيتها بشكل أفضل. ففي البداية، تخيلتها كشخص أكثر تمردًا على ثقافة والدها. لكن أثناء الحديث مع لينا، ورؤية كيف كانت منسجمة مع عائلتها التي شاركتها في تمثيل أدوارهم الحقيقية، اعتقدت أنه قد يكون من الطبيعي بالنسبة لها أن تلعب دورًا يركز بشكل أكبر على تمردها الداخلي. وكانت النتيجة أن اكتسبت القصة زخمًا أعمق، وأعطتني لينا بعض التوجيهات التي أسهمت في صياغة القصة “.