في المنطق الشيء هو هو ولا يُمكن أن يكون غيره، ولكن في الحياة الاجتماعية قد يتعدد مفهوم الهوية، فتكون أنت متعدد، بمعنى قد تكون أنت الأستاذ والأكاديمي، وأنت رب أسرة وأنت المتدين بدين ما ومتعصب له، أو تتعصب لأثنيتك، وقد تفخر في الوقت ىنفسه بانتمائك لوطنك.
كل واحد منا له توجه ديني أو مذهبي وأثني ما، وقد يستحضر من تاريخه هوية ما تخدمه في وقت ويغيب أخرى.
إنها أبعاد متعددة للهوية يستحضر منها الفرد ما ينفع وجوده في حال تغيّر الأحوال السياسيّة أو الاجتماعيّة.
أنت نشأت في مكون مجتمعي ما، فيكون الانتماء لهذا المكون هوية قد تغيب أو تحضر على وفق التحديات التي عشتها وستعيشها، وأنت أستاذ جامعي تنتمي لنقابة الأكاديميين أو المعلمين وهذا إنتماء يشكل معنى هوية أخرى، لذلك أنت معهم حين تشعر أن مصالح هذه الفئة تتهدد، وهذا الانتماء يتشكل مع آخرين نشؤوا في مجتمعات مغايرة ويتبنون عقائد مختلفة، وأنت في الوقت نفسه عراقي تجد ذاتك متحققة في هكذا انتماء وطني يجمعك مع ابن الشمال والوسط، وجميعنا يتفاخر بتاريخ بلد مثل العراق، له حضارة فيها ما يجمع من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق.
وهناك انتماء عقائدي ومذهبي أيديولوجي وكل شكل من هذه الأشكال شكل هوية يستحضرها أو يغيبها كذلك على وفق التحديات المعاشة.
الانتماء الحزبي هوية، وكم من منتم لحزب كان يتبناها ويتباها وهو عضو فاعل فيه، وحينما غاب هذا الحزب عن مشهد القيادة، استحضر هذا العضو هويته الدينية أو المذهبية، ليحتمي فيها وبها، ويعيد إنتاج حضوره مرة أخرى بهوية تنصل منها في ما سبق؟!.
انا عربي.. هذه هوية التقي فيها مع كل العرب الناطقين بلغة الضاد، وقد وجدت هذا الشعور في الانتماء لهذه الهوية حينما سافرت لعدد من البلدان العربية، فهم يستقبلونك وكأنك واحد منهم، وقد تجد كثيرا من عاداتهم وموروثاتهم مشابهة لما تربيت عليه.
كذا الحال حينما تُسافر لبلد إسلامي تجد هناك مشتركات تُشعرك بوجود هوية ما تجمعك وأبناء هذا الجيل.
أعتقد أن تأكيد هوية ما وتغييب أخرى مرتبط بالبحث عن تحقيق مصلحة ذاتية، والإنسان بطبعه كائن تبريري يبحث عن تحقيق مصالحه، فهو يستحضر هوية مذهبية مثلًا لتكون جدار صد لحماية وجوده ومصالحه، وهو في الوقت الذي يستحضر هذه الهوية المذهبية يُغيّب هوية أخرى كان يدعي الانتماء لها ويتبناها.
قد تتعدد الهوية فتجد مشتركات إنسانية مع أُناس من مجتمعات غربية تجد أن الإنسانية هي الهوية الأحق في أن تحضر وتفعل فعلها لتحد من وهم الهوية الفردية «الأنوية» المنزوية والمتكورة على نفسها لا ترى في المختلف، غير أنه عدو مبين.
موجز القول، يبقى مفهوم الهوية في المنطق أكثر وضوحًا حينما نُستخدم الرموز أ = ب و ب= ج إذن أ = ج، هذا يصح في المنطق الرمزي ولكن من الصعب تطبيقه على حياتتا الاجتماعية إلا على سبيل الفرض.
دعاة الهوية النقية، أي الذين يعتقدون بنقاء عرقهم، تجدهم يعيشون أزمة مع «الآخر» المختلف، لأنهم لا يرون إلا ما يبتبغون رؤياه مطابقًا لهويتهم أو مُماثلًا لها، وماعدا ذلك إنما هو سعي لهدم هذه الهوية وتشظيتها.
«الهوية النقية «محض افتراض لا قدرة لنا على التحقق منه إلا في حال قبول مدعيّ هذه الهوية اخضاعهم لشروط علم «الجينوم» وما جاد به تحليل DNA وهذا يصح في إثبات النسب لا في التحقق من الهوية بوصفها تشكيل في الما بعد، لأن الهوية البيولوجية إثبات نسب لا إثبات هوية.
هوية النسب لا علاقة لها بالهوية الفردية ولا الاجتماعية، بل ولا الهوية بتمظهراتها المتعددة التي ذكرنا بعضًا منها.
المجتمع الذي ننشأ فيه يُشكل هوية لنا، والمجتمع الذي نعيش فيه يُشكل هوية أخرى.
خذ مثلًا شخصًا ولد في بيئة عراقية يشعر بإنتمائه لمسقط رأسه ولا يُغادره هذا الشعور، ولكنه عاش في مجتمع غربي تعلم في مدارسه واستكمل دراساته الجامعية فيه، فهو بالتأكيد يحمل هويات متعددة، فهو يدين للأصل، ولكنه في الوقت ذاته لا يشك في أنه ينتمي لمجتمعه، الذي تعلم فيه وتطور عقله ووعيه فيه وعاش في مكان يعرف ناسه وطرقاته وحاور فيه معلمين ومدرسين وخبر حياة هذا المجتمع فصار جزءًا منه.
أستطيع القول إن في تصور كل فرد لهويته الذاتية، هناك شكلان أو أكثر، أحدهما مُعلن، وغيره مسكوت عنه، وهنا يبدو أن لكل منا تاريخين أو أكثر للرواية والسرد عن “الهوية الذاتية”، الأول: هو التاريخ المعروف عنك، والآخر هو التاريخ الموازي الذي لا يعرفه سواك.