هل تتوفر شروط قيام سلطة فاشية بالعراق ..؟
زكي رضا
الإسلام السياسي بالعراق عبارة عن منظومة متكاملة من مرجعيات وأحزاب سياسية وتنظيمات شبه عسكرية رجعية الطابع والتوجه، مهمّتها الأساسية قمع كل أشكال الحريات والتنظيمات النقابية والنسوية والشبابية والطلابيّة المناوئة لها، والتضييق الشديد على الأحزاب السياسية من غير المشتركة في نظام المحاصصة الطائفية القومية كمرحلة أولى. وبتوظيفها للمقدس في جميع مناحي الحياة بالبلاد، فأنها قامت وتقوم بتوسيع قاعدتها الأجتماعية عن طريق أرهابها وخطابها الديني وهيمنتها على أقتصاد البلاد، وهي تسعى وهذا ما يجب على القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأنتباه له والعمل على مقاومته، الى أشاعة اليأس بين الجماهير من خلال خطاب ديماغوجي موجّه وتخديرها بخطاب ديني ماضوي رجعي متخلّف، لتوهمها من أنّ لا أمل في تغيير المعادلة السياسية في البلاد التي تسير نحو هيمنة فكر أسلامي فاشي، سيترجم لاحقا الى نظام سياسي فاشي من خلال التحكّم بقوت الناس وقوّة السلاح والمال والأعلام والفتاوى الدينية وشراء السلطة القضائية. أنّ القوى السياسية المؤمنة بالديموقراطية الحقيقية وليس المحاصصاتية كالتي تقود بلادنا اليوم، مدعوة وبقوة للوقوف بوجه التوجه الفاشي للقوى الأسلامية اليوم من خلال توعية الجماهير بخطورة الفاشية على مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة والوطن، لأن مقاومة هذه القوى أي الفاشيّة الدينية مستقبلا وهي تمتلك كل مفاتيح البلاد سيكون أمرا معقّدا وصعبا ومكلفا جدا.
ونحن نتناول أوضاع البلاد المعقّدة والدقيقة من خلال هيمنة الأسلام السياسي على مقاليد السلطة، علينا أن نجيب على سؤال سيترجم مستقبلا الى حقيقة في حالة أستمرار الأوضاع على ما هي عليه اليوم، وهو أن كانت هناك امكانية حقيقية لقيام نظام أسلامي فاشي النزعة، خصوصا وأنّ الأجواء السياسية والآيديولوجية لنجاح الفاشية الدينية لها ركائزها القوية في مجتمع مؤدلج طائفيا ويعاني من تخندق طائفي وبطالة وفقر وأميّة وأنعدام للوعي بشكل مخيف، كما العراق؟
من خلال المهام التي تتبناها القوى الدينية بجميع مؤسساتها السياسية والأقتصادية والعسكرية والأعلامية، نرى أنها متفقة بالكامل تقريبا على قضم الحريات بشكل ممنهج ومدروس، وقمع النقابات والأتحادات المهنية من خلال قوّة “القانون” الذي تسنّه بنفسها وعلى مقاساتها، أو من خلال نقاباتها واتحاداتها المهنية الصفراء المختلفة، وهذه التجربة كانت تجربة مأساوية مرّ بها شعبنا عهد النظام البعثي الفاشي، الذي صبغ بالقوّة الحياة السياسية والأقتصادية والأجتماعية بآيديولوجيته التي دمرّت بلادنا وشعبنا. والقوى الدينية اليوم تصبغ كما البعث الحياة السياسية والأقتصادية والأجتماعية بآيديولوجيتها الدينية الطائفية، لكنّها تتفوق على البعث كونها تصبغ كل شيء بالمقدّس، ولتطرح مرجعياتها الدينية والسياسية والميليشياوية كرجال كاملي القداسة وعلى المجتمع وخصوصا الشيعي تأليههم إن أمكن، ولدينا بالفعل اليوم رجال دين عبروا مرحلة القداسة الى مرحلة التأليه، وهذا التأليه هو القنبلة الموقوتة التي ستنفجر يوما نتيجة تعدد مراكز القوى والتناقضات السياسية التي تعيشها البلاد وقلّة وعي الجماهير، وحينها سيظهر الوجه الفاشي الحقيقي المدمّر للأسلام السياسي.
لا تظهر الفاشية كنظام سياسي بالبلدان المختلفة في ظل ظروف متشابهة ولا تصل الى السلطة المطلقة بشكل مفاجئ، فهي تناور وفقا لظروفها الذاتية والسياسية القائمة وتلك التي تمر بها مجتمعاتها، وعليه فأنّها تختلف من بلد لآخر. فالفاشيّة الألمانية الحديثة أي دولة الفوهرر (القائد) وريثة الفرسان البروسيين الذين احتكروا المناصب العسكرية منذ القرن السابع عشر وحتى أنهيار الرايخ الثالث نهاية الحرب العالمية الثانية، هي أمتداد للمؤسسة العسكرية الالمانية التقليدية، وهي تختلف عن الفاشية الأيطالية التي أنبثقت بعد مسيرة ذوي القمصان السوداء من أعضاء الحزب الوطني الفاشي بزعامة موسوليني نحو روما والذي عيّنه ملك البلاد وقتها “فيكتور ايمانويل الثالث”، بعد خوف كبار الرأسماليين والأقطاع من نشاط الحزب الشيوعي الايطالي وثقله بين صفوف الجماهير، أمّا تجربة الفاشية الأسبانية بزعامة فرانكو فهي الأقرب لواقعنا العراقي من الفاشيتين الألمانية والأيطالية. ففي أسبانيا كانت العلاقة وثيقة بين المؤسسة الدينية والنظام القائم حينها، وكانا يعملان من خلال تلك العلاقة على حماية النظام الأجتماعي القائم اللذان يمثلانه ومصالحهما من خطر قوى متضررة بينها عمال وفلاحين و مثقفين يساريين وليبراليين أرادت الحد من تدخل رجال الدين وفرض سلطتهم على الدولة والمجتمع. وحول الحرب الأهلية في أسبانيا ودور الدين وتدخل رجالاته في الشأن السياسي يقول المؤرخ الأسباني خوليان كازانوفا في الفصل الثاني من كتابه “الحرب الأهلية الأسبانية” ويقع الفصل تحت عنوان “الحرب المقدسة والكراهية المعادية لرجال الدين” من أنّ الحرب الأهلية الأسبانية “كانت حربًا عادلة ومقدسة في أحد المعسكرين، وغضبًا عارمًا لا يرحم انفلت من عقاله ضد رجال الدين في المعسكر الآخر، الأمر الذي خلّف ندوبًا كبيرة في ذاكرة الشعب الإسباني”.
هل هناك أمكانية لقيام نظام ديني فاشي بالعراق ..؟
الكثير من الآراء تقول بصعوبة بل وبأستحالة قيام أنظمة فاشية في بلدان غير متطورة أقتصاديا وصناعيا، وتنطلق هذه الآراء من أنّ الفاشية كظاهرة نشأت في أوربا في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية نتيجة التطور الرأسمالي لتلك المجتمعات. الا أننا نلاحظ أنّ الفاشية هناك لم تظهر في بلدان على نفس الدرجة من التطور الرأسمالي، فإيطاليا لم تكن على نفس الدرجة من التطور مقارنة بألمانيا، أمّا اسبانيا والتي أنتصرت فيها الفاشية هي الأخرى فأنها كانت ولليوم من الأقتصاديات الضعيفة مقارنة بكبار القارّة. فإذا كان شكل التطور الرأسمالي لا يمثل شرطا أساسيا لنشوء الظواهر الفاشية في المجتمعات والدول المختلفة كنشوئها وقيادتها لبلدانها كما حدث في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية والجنوبية، فأنّ أمكانية قيامها في العراق الطائفي وعلى غرار فاشية تلك البلدان ومنها فاشية الأحزاب اللبنانية أثناء الحرب الطائفية فيها وهي القريبة منا جغرافيا ودينيا وثقافيا سيظل قائما، خصوصا وأنّ هناك عوامل تساعد على مضي الأسلام السياسي في مشروعه الفاشي منها:
1 – إستمرار الأزمات السياسية والأقتصادية والأجتماعية وعجز الأسلام السياسي كونه على رأس السلطة التنفيذية والأكثر تمثيلا في البرلمان ومهيمنا على القوّة القضائية، عن أيجاد حلول تحول دون تفاقمها ممّا يؤثر على حياة الناس ومستقبل البلاد.
2 – قدرة الأحزاب الأسلامية على تعبئة الشارع طائفيا، ودور تنظيماتها المسلّحة في تهديد السلم الأهلي متى ما رأت ذلك ضرورة لفرض سياستها وأستمرارها في السلطة.
3 – قلّة وبالأحرى أنهيار كبير في مستوى وعي الجماهير، والتي تستغلّها قوى الاسلام السياسي في ترسيخ الطائفية والعشائرية والقبلية والتي هي من تصبغ حياة العراقيين اليوم.
4 – وجود رموز دينية سياسية تُقدّس وتُعبد كآلهه وقادرة على أشعال حرب طائفية أو تبني مشروع فاشي للسلطة متى ما أرادت، وهي قادرة فعلا على تحشيد وإنزال مئات الآلاف من المؤمنين بهم الى الشوارع.
5 – تسلّح القوى الأسلامية بفتاوى دينية، أي منح نفسها صفة القداسة والعصمة في تعاملها مع من يخالفها الرأي.
6 – أرتباطها الوثيق بعواصم أقليمية تحوّلت أنظمتها بشكل ممنهج الى مشروع سلطة فاشي يمنع قيام أحزاب وتنظيمات سياسية وتشكيل النقابات والأتحادات غير الأسلامية تلك التي ترتبط بأجهزة السلطة وتنفّذ سياساتها، ما يدفع الأسلام السياسي بالعراق وهي التي لها ولاء تام لتلك العواصم لأستنساخ تجربتها وتطبيقها في البلاد
7 – أستخدامها الغطاء الديني لأثارة الجماهير وتأجيج الخطاب الطائفي لتغييب وعيها أكثر ممّا هي عليه اليوم، وزجّها في تشنّجات ومواجهات طائفية ستقود الى صراع حتمي ومن ثم حرب طائفية كالتي عاش شعبنا ويلاتها سابقا لأستكمال مشروعها الفاشي، أو الدفاع عن سلطتها من الأنهيار كما جرى إبّان إنتفاضة تشرين/ أكتوبر عام 2019 .
8 – تبنيها للأرهاب السياسي والميليشاوي والديني الطائفي لمصادرة الحريات والتضييق على الثقافة التقدميّة بأعتبارها الخطر الاكبر الذي يهدد مشروعها الثقافي الفاشي المتخلّف، فهذه القوى الموغلة في الرجعية هي كما وزير الدعاية الألماني غوبلز تراهم يضعون أصابعهم على زناد مسدساتهم كلمّا سمعوا كلمة ثقافة.
9 – إحتكار موارد الدولة المالية والتصرّف بها بما يخدم مشاريعها الطائفية والعشائرية، من خلال توزيع ثروات البلاد بين أجنحتها السياسية وشبه العسكرية المختلفة حسب قوّتها في الشارع و ثقلها في السلطتين التنفيذية والتشريعية.
أننا اليوم بالعراق نعاني من أزمة أجتماعية كبيرة وخطرة، وهذه الأزمة التي قام الأسلام السياسي نفسه بتغذيتها بعد أن ورثناها من النظام البعثي، نراه يعمل على توسعتها لتحتل الصدارة في حياة شعبنا وبلدنا. على القوى السياسية المؤمنة بالديموقراطية الحقيقية ولمواجهة هذا الخطر الذي يهدد حياة شعبنا ووطننا، أن تعمل على تعريف الفاشية وخطرها على البلاد للجماهير المكتوية بنار الفقر والبطالة وفساد السلطة، بأستخدامها لكل الوسائل والأساليب السلمية من خلال التظاهرات والأعتصامات والمنابر الأعلامية، وزجّ منظمات المجتمع المدني في هذا النضال الوطني. إننا اليوم بحاجة حقيقية لبناء حركة شعبية واسعة بشعارات وطنية مناهضة للطائفية السياسية والعشائرية والقبلية وهي الركائز التي يعتمد عليها الأسلام السياسي لتمرير مشروعه الفاشي، حركة شعبية تدعو وتعمل على الأسراع في تغيير شكل نظام الحكم المحاصصاتي القائم اليوم.
على المؤسسة الدينية أن تستفاد من التجربة الأسبانية أثناء الحرب الأهلية وتبتعد عن التدخل في الشؤون السياسية بالبلاد أحتراما للدين ولرجال الدين أنفسهم، خصوصا وأن الدين اليوم ولفساد أحزاب الأسلام السياسي والخراب الذي يغطي مساحات كبيرة من حياة الناس أصبح محل تشكيك وفي مرمى سهام النقد ومنه النقد الجارح وهذا ما لا نريده للدين لقدسيته عند ملايين المؤمنين به. إنّ تجارب الشعوب التي تداخلت فيها السلطتين السياسية والدينية وسببت مآسي تاريخية فيها، يجب أن تكون تحت أنظار المرجعيات الدينية بالعراق كونها مسؤولة أمام الله والشعب والتاريخ على ديمومة الدين نفسه وحياة الناس وبلدهم. أنّ خطر قيام الفاشية الدينية بالعراق لا تأتي من كونها مشروع فاشي فقط، بل تأتي وكما يستعرض الكاتب التنويري (حامد عبد الصمد) في كتابه الفاشية الأسلاميّة من أنّ خطرها الأكبر يأتي كونها “تبدو كأنها دين سياسى، يعتقد أتباعها أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، ويقف قائدهم المعصوم على قمة هرم السلطة، متسلحا بمهمة مقدسة لتوحيد الأمة وسحق خصومها، تشترك الإسلاموية الحديثة فى كل هذه الصفات، ومعارضة كل ما هو حداثي، ومحاربة قيم التنوير وإعلاء فكرة التضحية بالنفس حتى الموت فى سبيل الأفكار الفاشية”، وعراقيا يعني الموت والدمار في سبيل إعلاء قيم الطائفة ومن بعدها العشيرة، ولدينا أكثر من قائد “معصوم” معاد للحداثة وقيم التنوير، وهدفه الأسمى هو العودة بالعراق الى السنوات الأولى لبدء الأسلام…
أربعة عشر الف فاشي من أصحاب القمصان السود قادهم موسوليني سنة 1922 من ميلانو نحو روما بالقطارات والحافلات، رافعا شعار “إما أن تُعطى لنا الحكومة أو سنأخذ حقنا بالمسير إلى روما”، وما أشبه بغداد اليوم بروما البارحة، وهناك أمكانية حقيقية للبعض وعلى غرار موسوليني في قيادة مئات الآلاف من البشر لتحقيق مشروعه الديني السياسي، أو من قبل ساسة ينظرون الى السلطة من خلال الديموقراطية الكسيحة رافعين شعار “ما ننطيها” الذي ينسف كل مبادئ الديموقراطية وأسسها ليمضي قدما في مشروعه الفاشي.
أرادة الشعب هي ليست الوسيلة للحكم وأنما الوسيلة هي القوّة وهي التي تفرض القانون … (موسوليني)