(إعتمدتُ في مقالي هذا على مصدر واحد هو ( مروج الذهب ومعادن الجوهرللمسعودي. دار الأندلس، بيروت ، الطبعة الرابعة 1981 .. الجزء الثاني / موضوع : ذِكْر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .. ).
مقدمة بسيطة : أحسبُ أنَّ بواكير مبدأ المحاصصة في الحكم قديمة جداً بدأت بعد موت النبي محمد حيث حيل، بذرائع شتى، بين صهر الرسول وابن عمه والوصول إلى الخلافة سنينَ عددا. لكأني بهم ( الصحابة وزعماء قريش قديمو وحديثو الإسلام ) قد إتفقوا على أنَّ لا يخلف الرسول رجلٌ من آل بيته من آل هاشم بن عبد المطّلب. كأنهم رفعوا فيما بينهم شعارَ ألاّ يحكمنا رجلان من بني هاشم ! النبوة لهم والخلافة في باقي قريش. يكشف لنا التأريخ أنَّ شيئاً من هذا وأكثر منه وضوحاً وقوة كان قد حدث في مسألة التحكيم ورفع المصاحف في معركة صفّين المعروفة تفاصيلها ووقائعها.
التحكيم الغامض : [ واللهِ لا يحكمُ فينا مُضريان … المصدر الصفحة 391 ] / الأشعث بن قيس
كانت هذه إحدى أكبر وقائع المحاصصة في تأريخ الإسلام . أوضح الأشعث بن قيس، وهو أحد أكابر زعماء قبائل العراق يماني الأصل، أنَّ رجلين مُضريين هما الخليفة علي بن أبي طالب ومرشّحه للتحكيم عبد الله بن عبّاس لا يحكماننا ! مُضري منكم ويماني منّا وما كان هذا اليماني إلاَ مُرشحه للتحكيم أبو موسى الأشعري الذي ما كان موضع ثقة ورضا للخليفة علي لأسباب بيّنها بتركيز بليغ وقد بيّنت الأحداث صِدق توقعات الإمام علي حيث أوقع ممثل معاوية في التحكيم الداهية عمرو بن العاص نظيره ـــ خصمه في التحكيم الأشعري في الكثير من الفخاخ وأكبرها كفراً وإثماً خلعه لخليفته حين ثبّت ابن العاص صاحبه معاوية خليفة على المسلمين. وأخذ منه إقراراً أنَّ عثمان بن عفّان قُتل مظلوماً وأنَّ لوليه معاوية حق الثأر من قتلته. هذا ما تمخضت عنه عملية رفع المصاحف والمطالبة بالتحكيم والإحتكام إلى كتاب الله الأمر الذي شقَّ صف معسكرالخليفة علي والتمرد الذي قادته جماعة من أصحاب علي الذين سُمّوا بالخوارج.
كانت فكرة ــ خُدعة رفع المصاحف والإحتكام إلى كتاب الله هي من إبتداع عمرو بن العاص التي قال فيها الإمام علي [ إنها كلمة حق يُرادُ بها باطل ] ولكن لم يُبيّنْ أحدٌ من كلا الفريقين المتخاصمين ما هو حكم القرآن في الخلاف الناشب بينها ! في أية سورة وفي أية آيات ؟ قد أُرجّح أنَّ المقصودَ بالتحكيم إلى كتاب الله هو الرجوع إلى الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الحُجُرات ونصّهما [ وإنْ طائفتانِ من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما فإنْ بَغَتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئَ إلى أمرِ اللهِ فإنْ فاءتْ فأصلحوا بينهما بالعَدْلِ وأقسطوا إنَّ اللهَ يُحبُّ المُقسطين(. إنّما المؤمنونَ أخوةٌ فأصلحوا بين أَخَويكم واتقوا اللهَ لعلّكمْ تُرحمون (9) ]. المشكلة هي في تحديد الطائفة التي بَغت هل هي جيش العراق أم جيش الشام ؟ كل فريق يدّعي أنَّ الفئة الأخرى هي الباغية وقتلاها في النار. لا أزعم أني أجهل من هي الطائفة الباغية لكني أبسط الوضع على الأرض أرض صفّين وما كان يدور آنذاك من سجالات كلامية ــ منطقية وكل فريق يدّعي أنَّ الحق معه. بدأت الحرب حرب مقارعة الحجة بالحجة قبل أنْ تُشرع السيوف ويشتد وطيس القتال وتسيل الدماء. منطق الآية الثامنة واضح لكنه يفترض وجود فئة ثالثة محايدة قوية قادرة على عقد الصلح بين الفئتين المتخاصمتين كقدرتها على قتالِ الفئة الباغية حتى { تفئَ إلى أمر الله }. ما كان من وجود لمثل هذه الفئة في صفّين وإلاّ لرجحت كفّة الحرب لصالح إحدى الفئتين : جيش العراق أو جيش الشام الذين انسحبا من صفين دون نصر عسكري حاسم مُبين وبقي أمر المسلمين غامضاً متعثراً مائعاً ركّز فيه معاوية سلطانه في بلاد الشام واشترى واصطنع الرجال بالرشاوى والإغراءات المنوّعة أو القتل بل ودأب على إرسال سراياه للإغارة على نقاط التماس مع حدود سيطرة الإمام علي وقتل عامليه فيها وخاصة الأنبار ومناطقَ أخرى بل وأرسل عام 38 هجري عمراً بن العاص إلى مصر في أربعة آلاف وجعله عاملاً عليها وأكثر … وهبها له ما دام حيّاً ملكاً صِرْفاً ونشبت معركة بين جيش هذا وجيش محمد بن أبو بكر عامل الخليفة على مصر خسرها محمد وهرب لكنه قُتل. محمد بن أبي بكر هو ربيب عليِّ . لكنَّ أهل العراق تقاعسوا عن نصرة الإمام عليٍّ وماطلوه وخذلوه في عزمه على حرب معاوية ثم أسلموه لسيف عبد الرحمن بن ملجم في الكوفة!
الغريب أنَّ الأشعث بن قيس الذي فرض أبو موسى الأشعري على الأمام علي ممثلاً لجيش العراق في التحكيم وساهم مع غيره قبل ذلك في فرض الإحتكام لكتاب الله خذل الإمام علي بعد كارثة اللاحسم العسكري ولم يُعِدْ الجيوش لمقاتلة معاوية وإجباره على البيعة للإمام علي وخضوع دمشق وبلاد الشام لسلطة الخليفة في الكوفة. هناك شكوك فيما كان يلعب هذا الأشعث من أدوار في تلك المرحلة الحاسمة خاصة بعد أنْ أقترح على الخليفة عليٍّ أنْ يلتقي بمعاوية ويعرف ما لديه وهو في عسكره في صفين فأذِن له الإمام وتمَّ اللقاء وهنا يقوم الشك : هل إشترى معاوية بالذهب وغير الذهب هذا الزعيم القبلي وأوحى له بما أوحى من خطط لفتِّ عضُد خليفة المسلمين وبث الفرقة والتنابذ بين أنصاره على قاعدة { فرِّقْ تَسُدْ } التي ما كان يجهلها الداهية معاوية بن أبي سفيان ومستشاره اللامع عمرو بن العاص؟
الذين أجبروا عليّاً على قبول التحكيم خذلوه بعد التحكيم والذين رفضوا التحكيم كفّروه ووضعوا شروطاً تعجيزية بعد التحكيم لنصرته وقتال معاوية تحت لوائه.
الخوارج : الخوارج هي الفئة التي رفضت مبدأ التحكيم [ واجتمعت الخوارج في أربعة آلاف فبايعوا عبد الله بن وهب الراسي ولحقوا بالمدائن … فسار علي إليهم حتى أتى النهروان فبعث إليهم بالحارث بن مُرّة العبدي رسولاً يدعوهم إلى الرجوع فقتلوه وبعثوا إلى علي : إنْ تُبتَ من حكومتك وشهدتَ على نفسك بالكفر بايعناك وإنْ أبيتَ فاعتزلنا حتى نختارَ لأنفسنا إماماً فإنا منك براء .. / المصدر الصفحات 404 ــ 405 ].
هذا ما واجه الخليفة علي من فُرقة واختلافات في صفوف أصحابه وأفراد جيشه فكيف يحقق نصراً على رجل داهية تحت تصرفه أموال وخيرات بلاد الشام وتحت إمرته جيش نظامي جيد التدريب موحّد يدين له بطاعة عمياء وليس فيه من يُخالف معاوية أو يفرض عليه رأياً أو موقفاً. ويُنسب إلى معاوية قوله [ إني قاتلتُ عليّاً بجيش ليس فيه من يستطيع التفريق بين الناقة والجمل ] ….
وهكذا حصل أول إنشقاق خطير في الإسلام رفض فيه معاوية بيعة عليٍّ خليفةً على المسلمين وقاتله في صفّين واتخذ دمشق الشام عاصمة للخلافة الإسلامية وجعل من نفسه خليفةً على المسلمين ثم تحولت الخلافة من الشورى بين المسلمين إلى مُلك عائلي يرثه الأبناء عن الآباء.