إذا كانت القصّة الروسيّة قد خرجتْ من “معطف” نيقولاي غوغول، فإنّ الرواية العراقيّة الحديثة خرجت من إحدى حارات بغداد ومحلّاتها القديمة. ويُمكن اعتبار رواية “النخلة والجيران” لغائب طعمة فرمان (صدرت في العام 1966) الإعلان الأبرز عن ذلك؛ وقد كان لفرقة المسرح الفنّيّ الحديث دَورٌ كبيرٌ في انتشار الرواية، وخصوصاً بعد إخراجها كمسرحيّة، الأمر الذي وسّع من نطاق الجمهور الذي تأثّر بها، ولاسيّما بالعدد الكبير الذي شارَكَ فيها من كِبار المُمثِّلين، إضافةً إلى مُخرجها الفنّان المُبدِع قاسم محمّد.
وقد عكستْ رواية “النخلة والجيران” الحياةَ البغداديّة بكلّ تفاصيلها وتناقضاتها، قاعها وسقْفها خلال فترة الحرب العالميّة الثانية، حيث أطلَّ غائب طعمة فرمان من خلالها على هموم الناس ومُعاناتهم والمُشكلات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، إضافة إلى هواجسهم ومخاوفهم. وبحسب زهير شليبه في كتابه عن غائب طعمة فرمان الصادر في العام 1996، وهو دراسة أكاديميّة لنَيْل شهادة الدكتوراه، فإنّ “النخلة والجيران” هي “أوّل رواية عراقيّة فنيّة تتوافر فيها مقوّمات النَّوع الروائي بمواصفاته الأوروبيّة الحديثة”.
المصادر الأولى لثقافته
نهلَ غائب طعمة فرمان من ثلاثة منابع أساسيّة، بحسب ما تحدّث به عن تجربته، ويُمكن استخلاصها بما يلي:
الأوّل – التراث العربي وخصوصاً الشعر، وهو ديوان العرب كما يُقال، فقد قَرَأ عيون الشعر القديم، والحديث، وحاول أن يُصبح شاعراً، لكنّ الرواية استهوته، فتَرَكَ ذلك، بعدما كان تأثَّرَ بكُتبِ النثر الشهيرة منها: “أدب الكاتب” لابن قتيبة، و”الكامل” للمبرّد، و”البيان والتبيين” للجاحظ، وكتاب “النوادر في اللّغة” لأبي زيد الأنصاري.
الثاني – الأدب المُعاصِر والحديث من خلال الترجمات التي كانت تَصل إلى العراق خلال فترة الحرب العالميّة الثانية، سواء من مصر أم سوريا أم لبنان، وقد قَرأ الكثير من الأدب الفرنسي والإنكليزي والروسي.
الثالث – الثقافة والحياة المصريّة، حيث كان قد ذَهب إلى مصر بعد إصابته بالتدرُّن الرئوي لغَرَضِ العلاج، ولإكمال دراسته في كليّة الآداب. وقد أَتاح له ذلك، وهو في بدايات تكوّنه وتبلْور شخصيّته الإبداعيّة، الاحتكاك واللّقاء المباشر بالجوّ الثقافي المُزدهر للقاهرة آنذاك، إضافةً إلى تردّده على مجالس الأدباء المصريّين الكِبار من أمثال: طه حسين، نجيب محفوظ، سلامة موسى، محمود أمين العالِم وغيرهم .. وغيرهم.
وإذا كانت تلك المَنابِع تُشكِّل المصادر الأولى لثقافته، فإنّ عمله في الصحافة الأدبيّة في منتصف الخمسينيّات من القرن الماضي، وعَيْشه في سوريا ولبنان والقاهرة وبكين وموسكو، واختلاطه بحياةِ أُممٍ وشعوبٍ شقيقة وصديقة، أَكسبه أُفقاً واسعاً وشذَّب من جملته وأضفى عليها جماليّةً خاصّة، وقد امتاز أسلوبه بالواقعيّة النقديّة.
وإذا كانت بغداد بأزقّتها ونسائها وحاناتها وجوامعها وكنائسها وتجاذباتها السياسيّة والفكريّة حاضرة في “النخلة والجيران”، وفي رواياته الأخرى منذ مجموعته القصصيّة الأولى “حصاد الرحى” المنشورة في العام 1954، فإنّ رواية “المركب” وهي آخر رواية له، وصدرت في العام 1989، شكّلت خروجاً على هذا المألوف، حين تناولت “المنفى والحنين إلى الوطن”، لكنّه استَلْهَم ذلك بسرديّته الذاتيّة، ومن استعادة مخزونه الكبير الذي يتمثّل في بغداد وحياتها وديناميكيّتها، وتناقضاتها. وقد ظلّت بغداد القديمة المكانَ الأثير الذي ينهل منه حتّى آخر قطرة من حياته، ولاسيّما أنّه عاش في الغربة نحو ثلاثة عقود من الزمان.
حاول في رواية “المرتجى والمؤجّل”، التي تناولت شؤون الاغتراب، الابتعاد قليلاً، لكنّ جذوره الأصليّة ظلّت لصيقة بالمكان والزمان الذي عاش فيه، فغائب طعمه فرمان مثل نخلةٍ عراقيّة باسقة ضربتْ جذورَها عميقاً في الأرض العراقيّة، وهي لا تستطيع العيش في غير تُربتها، فتراه دائم العودة والحضور إلى بغداده التي يستعيدها كسرديّاتٍ لرواياته التي ظلَّت تَسبح في دجلة وتُحلِّق في سماء بغداد.
الأدب الروسيّ
كان لاطّلاع فرمان على الأدب العالَمي، وفي ما بعد على الثقافة والأدب الروسيَّيْن، وامتلاكه ناصيّة اللّغة الأجنبيّة للنقل إلى العربيّة، أثره الكبير على تقنيّاته السرديّة الجديدة، ولاسيّما في روايته “خمسة أصوات” التي صدرت في العام 1967، ناهيك بتأثّره بالأسلوبيّة الحديثة، سواء من خلال قراءته وترجماته لدستويفسكي أم لغوركي أم لتولستوي وتورغنيف وغوغول وبوشكين وشولوخوف وأيتماتوف وغيرهم.
وقد تَرجم غائب طعمة فرمان نحو 50 كتاباً من روائع الأدب الروسي بحسب الناقد د. علي إبراهيم في أطروحته المُعنْوَنة، “الزمان والمكان في روايات غائب طعمة فرمان”، المنشورة في العام 2002، لكنّ عبد الله حبّه في كلمته بمناسبة الذكرى الـ 20 لرحيله يقول: إنّ عدد مؤلّفاته المُترجَمة يتجاوز 84 كتاباً.
لعلّ هذا الاتّساع والاطّلاع، هو ما أضفى على مخيّلته السرديّة تنوّعاً وأُفقاً وظّفهما على نحوٍ مُثير، بعودته إلى أصوله الأولى وموطن الصبا والحارة البغداديّة الأربعينيّة والخمسينيّة، ليَستخرجَ لنا هذه الروائع العراقيّة ذات الأجواء العبقة. وبحسب الروائي عبد الرّحمن منيف، فإنّ مَن يُريد أن يبحث في تاريخ العراق في تلك الفترة، فعليه قراءة روايات فرمان. وكان مكسيم غوركي هو مَن قال: التاريخ لا يكتبه المؤرّخون، بل الفنّانون هُم الذين يَكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان.
وإذا كانت رواية “جلال خالد” لمحمود أحمد السيّد، تُعتبر الرواية العراقيّة الأولى (1928) وأعقبتها روايات لعبد الملك نوري، وذو نون أيّوب، وجعفر الخليلي وغيرهم، فإنّ رواية “النخلة والجيران” استَكملتْ بناءها الفنّي وحبكتها الدراميّة ولغتها السرديّة، بحيث يُمكن اعتبارها الرواية التأسيسيّة الحقيقيّة للرواية العراقيّة الحديثة.
وعلى هذا الرأي، ربّما يتّفق كثيرٌ من النقّاد ومتذوّقي أدب فرمان من المثقّفين، وخصوصاً أنّ بغداد وحاراتها القديمة ومناطقها الفقيرة، شكّلت الدلالة الرمزيّة المُعبِّرة في بُعدها الاجتماعي والسوسيوثقافي، من خلال سرديّته النقديّة، تلك التي استخدَمها ذاتيّاً من خلال روايات “خمسة أصوات” و”المخاض” و”ظلال تحت النافذة”، وذلك بتقديم مشاهد سريعة، وتركيزه أحياناً على شخصيّاتٍ مُعيّنة، ثمّ تغيب ويعود إليها، ولا فَرق لديه على مستوى الشخصيّات الرئيسة أو الثانويّة، حيث تتمّ عمليّة السرد ذاتيّاً أو من خلال الراوي.
عاش غائب طعمة فرمان في موسكو نحو 30 عاماً، وتزوَّج فيها وأَنجب ولداً سمّاه سمير، وارتبط بموسكو بوشائج كثيرة، ولعلّ حبّه لها، واندماجه في حياتها، وانخراطه في ترجمة أعمال أدبيّة لخيرة أدبائها، وتقديمهم إلى القرّاء العرب عبر دار نشرٍ سوفياتيّة، كان قد وَضَعَهُ في صفّ المُترجِمين المُهمّين على الصعيد العربيّ، الذين قدّموا لنا روائع الأدب الروسي والسوفياتي في تلك الحقبة: قصّةً وروايةً وشِعراً، فضلاً عن مكانته الإبداعيّة كرائدٍ للرواية العراقيّة الحديثة.
مِثال البساطة والتواضُع
كان غائب طعمة فرمان مثالاً للبساطة والشعبيّة والتواضُع والصّدق والتّسامُح، وقد تعرّفت إليه في العام 1973 في لندن، التي كنتُ أزورها للإشراف على جمعيّة الطَّلَبة العراقيّين، ولحضور مهرجانٍ تركيّ على الساحل البريطاني، حيث ترافقنا، ومعنا في السفر جلال الماشطة، وكان فرمان والماشطة قد قدِما من موسكو، وكنّا بضيافة د. سعيد اسطيفان. وقد ذهبَ الكاتب مع فرمان لزيارة بعض المتاحف، وخصوصاً متحف مدام تيسو، والمتحف البريطاني، ومتحف التاريخ الطبيعي. كما تسكّع معه في الهايدبارك وبيكاديلّلي سكوير، والطرف الأغرّ سكوير، وحيّ سوهو وغيرها. وكان ذلك أوّل تعارُفٍ ولقاءٍ مباشر بيننا، ثمّ التقيت معه في دمشق وموسكو بعد ذلك.
إنّ روايات غائب طعمة فرمان تُعيد إلى ذاكرتنا الحياة البغداديّة التي عرفناها في مقاهيها وحاناتها ومتناقضاتها وأمكنتها ذات الدّلالة الرمزيّة.. كثير منّا يعرفون مقهى ياسين، ومقهى البرلمان، وبالطبع مقاهي البلديّة وعارف آغا، والزهّاوي، والشابندر، والبرازيليّة، كما يستدلّون على بار غاردينيا، وحانة النصر وغيرها، تلك التي كانت تشكّل مرتعاً لحكايات فرمان.
فرمان وأبو كَاطع
وُلد غائب طعمة فرمان في محلّة المربعة في بغداد (1927) لعائلة فقيرة، وكان والده يعمل سائقاً، وتوفّي في موسكو بتاريخ 18 آب/ أغسطس 1990، أي بعد نحو 9 سنوات من وفاة الروائي أبو كَاطع “شمران الياسري”. وإذا كان أبو كَاطع روائيّ الريف بحقّ، كَتَبَ عنه، ومنه، وإليه، ومن خلاله إلى العالَم، فإنّ غائب طعمة فرمان هو روائيّ المدينة بامتياز، ولاسيّما بغداد، وكان شاهداً على تحوّلاتٍ مفصليّة حدثتْ فيها منذ الحرب العالميّة الثانية، وما أعقبها من تغييراتٍ دراماتيكيّة لم يكُن غائب طعمة فرمان، غائباً عنها، بل شكّلت الخزين الذي نَسَجَ منه حكاياته وقصصه ورواياته، واستطاعَ من خلاله بناء شخصيّاته على نحوٍ محكم ووثيق، مثلما حاول أبو كَاطع أن يستمدّ إلهامه من حياة الريف وتناقضاته وأوهامه، بفلّاحيه وسراكيله وإقطاعيّيه، إضافةً إلى حكاياتِ عشقٍ وتمّرد.
وكان الكاتب قد سألَ أبا كَاطع عن غائب طعمة فرمان، فقال بعدما عدّل في جلسته: كنتُ أسعى لبناء شخصيّاتي على نحوٍ شديد التماسُك، مثلما كان فرمان يفعل، بل يعرف كلّ شخصيّة ماذا تريد؟ وكيف بدأت؟ وإلى أين ستنتهي؟ ويتعامل معها كلّها بحنوّ ورعاية.
يقول أبو كَاطع: قرأتُ رواية “النخلة والجيران” أكثر من ثلاث مرّات، مثلما فعلتُ مع رواية “خمسة أصوات”، ولكنّني في كلّ مرّة كنتُ أعود لاكتشف شيئاً جديداً في حبكته الدراميّة وفي ملمحٍ جديد لإحدى شخصيّاته غابَ عنّي.
أمّا فرمان، فقد قال عن أبي كَاطع: “إنّه إنسان ثابت في أرضه، يَعرف كلّ شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مَذاقها وثمارها وملوحة عرق الكدح فيها… لقد وجدتُ نفسي أمام وضعٍ دقيق لجوانب حيّة وشخصيّاتٍ سمعتُ بحّةَ صوتها في أذني. كنتُ أمام ما يُشبه موسوعة الريف، ولكنّ كاتبها أديب جَعَلَ كلّ شيء يدبّ حيّاً”؛ وهو ما جئتُ عليه في كتابي الموسوم “أبو كاطع.. على ضفاف السخرية الحزينة” (دار الكتاب العربي، ط1، لندن، 1998، ودار الفارابي، ط2، بيروت، 2017).
أمّا أهمّ ترجماته فهي ترجمة أعمال تورغنيف (خمسة مجلّدات)، والقوزاق لتولستوي، ومجموعة قصص لدستويفسكي ومجموعة قصص لغوركي، و”المعلّم الأوّل” لإيتماتوف، ومجموعة أعمال الشاعر بوشكين، ولاشين عملاق الثقافة الصينيّة وغيرها.. وغيرها.
حين حدث انقلاب 8 شباط/ فبراير 1963، كان غائب طعمة فرمان في موسكو، وقد أَسهم مع عددٍ من المثقّفين والسياسيّين العراقيّين اليساريّين في تأسيس “لجنة الدّفاع عن الشعب العراقي”، التي ترأّسها الشاعر الجواهري. وقد أَقدمتِ الحكومة العراقيّة على سحب الجنسيّة عن 12 شخصيّة من الشخصيّات البارزة المُشارِكة في اللّجنة، ومن بينهم غائب طعمة فرمان، وذلك برسالةٍ موجَّهة من وزارة الداخليّة إلى مديريّة الأمن العامّ، والمؤرَّخة في 26 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1963.