الجواهري ضَوءٌ غيرُ قابلٍ للخُفوت
د. سعاد الصباح
كيف يستطيع أولئك الأشخاص، الذين يَبدون لأول وهلة أناساً عاديين، أن يُحلِّقوا عالياً فوق الجميع ليحققوا إنجازات رائعة تغيّر من شكل الحياة؟
كان يقود سرب أحلامه الكبيرة -والمستحيلة أحياناً- لتخرج من المراعي المحاصرة بالجفاف..
حفنة من الحلم في قبضة يده كانت كافية لأن يغمض عينيه على ختام النشيد الموجع.. نشيده الطويل للوطن..
كان يعلم أن الهوية الأدبية ليست إرثاً، بل هي ابتكار إنساني، ابتكرها المخلصون بعملهم وأفكارهم.. وأشعارهم.
ومن القصيدة إلى المظاهرة، ومن المظاهرة إلى الملاحقات.. إلى فضاء اللغة.. وافتراضات الغربة وفرضيات الاغتراب، ثم الأسئلة التي فرضت نفسها بقوة على المشهد الشعري، تلك الأسئلة المكتظّة بعصر الانقلابات المعرفية الكبرى، حين كان الشاعر يتورع عن ظلم القمر، ذلك النوع من الظلم الصارخ الذي يجعله صورة شعرية مجردة من دلالاتها النورانية.. لنشهد تشكّل عصر الشعر الذي تجاوز السردية العربية المكبلة، وتمرّد على السردية الغربية المهيمنة، ذاهباً إلى منطقة جديدة.. منطقة جوهرية أو جواهرية.. حيث تصير الكلمة أوسع وأعمق!
وهكذا ولد الجواهري كما لو أنه بمثابة عودة كلية إلى النص المشترك الذي يتحول فيه الشاعر من أنانية الصوت الذاتي إلى كونه صوت الناس، فيشرع في الكتابة معهم، يغنّي من أجلهم، يكتب لينهض بهم لا ليرضيهم، رافضاً أن يُقْدِم الشعر على تشويه نفسه بأن يتحول إلى مجرد أداة وآلة مهادنة أو مداهنة..
شرع الجواهري في إطلاق القصائد التي يفوق وقعها تأثير البيان السياسي في نفوس الناس.. مُشكلاً زمناً يفوح بعطر الشّعر ويليق بمدينة بغداد الأشبه بقصيدة كبرى، والنجف الأشبه بقافية معلقة بين الفرات ودجلة.. يمر عبرها التنوّع الثقافي الذي أسسته بلاد الحضارات، ورسّخه صوت شاعر الناس.. المخبوء في صوته.. صوت منشد الدهر: المتنبي.
وبينما نشاهد على الطرف الآخر من الفردوس المفقود قصور الحمراء متألقة وحزينة في آن، ليس فقط لأنها شاهدة على تاريخ عظيم، بل لأنّها أيضاً تحتضن بين جدرانها قصائد عبدالله بن زمرك، وأبي الحسن بن الجيّاب الغرناطي، ولسان الدين الخطيب، وابن سهل الإشبيلي، وعدد من شعراء الأندلس الذين حوّلوا القصيدة إلى قارورة عطر، وأخرجوها من أحزانها، وألبسوها فستان فرح، ليكتمل مشهد الفخر العربي الذي انتخب قصائد كتبها بالذهب وعلّقها قلائد في عنق الزمن.. منذ امرئ القيس.. وحتى لبيد.
ورغم قصائد الأندلس التي تألقت وتعلّقت في المكان الذي اغتيل فيه جلّنارة الشعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا، ورغم السيوف التي نالت من شعراء المعلقات: امرئ القيس، طرفة، النابغة.. أو طاردتهم.. إلا أن قدر القصيدة كان الخلود.. وإن كان قدر الشاعر الموت مصلوباً بقصيدته!
وإذا كان ليس بمقدور الشاعر تغيير العالم، فإنه يمكنه تغيير رؤية الإنسان حيالَ هذا العالم، ونوعية علاقاته مع الآخرين.
لقد فجّر الجواهري المشاعر الوطنية داخل الوطن في دجلته وفراته وشطه وبحره، وفي الوطن والمنفى وفي الشتات، ليصبح شعره في أعلى قائمة المناسبات الوطنية.. وهو الذي تمسّك بخيط الحداثة على طريقته، ليقوي بها الموروث العريق، وليكوّن شعرية خاصة أعطت لتجربته معجماً خاصاً.
وجاء المفكر العربي الكبير الدكتور عبد الحسين شعبان ليقف بقلمه النازف حرقة ومحبة على وطنه في وجه تلك الأحزان القديمة كي يضيء عتمتها، حيث أدرك أن قصيدة الجواهري تكتب أشياء جديدة ومختلفة.. وهي تعبر الزمان والمكان، كنتاج مختلف من ذلك النوع التي يسرد سِيَر المميزين بصفتها أكثر الكتب إلهاماً، ليس لأنها فقط تعرض حياة رجل مليء بالآمال متفجّر بالتطلعات، بل لأنها نتاج فكر متأمل.. وقد تقاطع د. عبد الحسين معي أو تقاطعت معه في اهتمامات مشتركة بحقوق الإنسان ومآلات الفكر وأسئلة الشعر والوطن والهوية.
وقد سار في عمق المعنى وعمق المفردة وعمق الدلالات.. وهو الرجل الذي ركب القلق.. قلق الفكرة وقلق قبول الآخر.. وكان شاهداً حياً على تجربة الجواهري.. رصدها عن قُرْب وعن بُعْد.. ليخرج بهذا السِّفْر الذي تعتزّ دار سعاد الصباح للإبداع والثقافة بأن يكون ضمن قائمة إصداراتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ