أعان الله المتصدين للشأن الاقتصادي من أساتذة وباحثين مختصين بعلم الاقتصاد، وسط هذه الإشكاليات والمشكلات الاقتصادية، التي يمر بها العراق، ولعل المحنة الكبرى، التي يمرون بها هي من أولئك الذين يزاحمونهم من غير المختصين، الذين يرمون بكلام في بعض الأحيان لا يمت إلى التحليل الاقتصادي بصلة، انه التطفل بعينه الذي صار سمة غالبة نشاهدها على الفضائيات والمواقع الالكترونية، ولا يلام البعض من المختصين الذين اختاروا العزلة.
تظهر بين الحين والآخر دعوات لتعويم العملة في العراق، لمعالجة المشكلات، التي رافقت سعر الصرف في العراق خصوصا بعد إجراءات حوكمة نافذة بيع العملة وما رافقها من عقوبات على بعض المصارف، بداعي تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي.
التعويم للعملة هو اجراء يستند إلى تحرير سعر الصرف، وتركه إلى عوامل السوق (العرض والطلب)، لتحديد قيمته دون ان يكون هناك أي شكل من اشكال التدخل من قبل السلطة الاقتصادية، وهذا يعني أن هناك قطاعا خاصا في الاقتصاد، له نشاطات إنتاجية تسوق إلى الخارج (صادرات) يستحصل عبرها دولار يدخل إلى النشاط الاقتصادي الداخلي، بالمقابل ان هناك نشاطات للقطاع الخاص أيضا تعتمد على الخارج (استيرادات)، من سلع وخدمات استهلاكية أو مستلزمات انتاج وسلع نصف مصنعة وغيرها، فتقوم تلك الوحدات الاقتصادية بإخراج الدولار إلى خارج النشاط الاقتصادي.
إن توصيف هذه الحلقة من التدفقات المالية، تعني أن هناك عرضا للعملة الأجنبية، تمثله تلك الوحدات الاقتصادية، التي تقوم بعملية التصدير، لأنهم سوف يقومون ببيع الدولار، أو جزء منه إلى النشاط الاقتصادي الداخلي، لغرض الحصول على عملة وطنية للقيام بالإيفاء بالتزاماتهم، تجاه العاملين والموردين للمواد الأولية والضرائب وغيرها، والطرف الآخر، الذي يمثل جانب الطلب على العملة الأجنبية هم أولئك الذين يقومون بعملية الاستيراد، الذين يحتاجون إلى الدولار للإيفاء بالتزاماتهم الخارجية.
إن تفاعل العرض مع الطلب ينتج نقطة توازن يحدد عندها قيمة الدولار تجاه العملة الوطنية، وهنا يحدد سعر الصرف دون أي تأثير من قبل السلطة الاقتصادية، ومن ثم الوفرة في المعروض أو ارتفاع الطلب، كلاهما يقودان إلى تقلب في قيمة سعر الصرف، فأي انحراف عن نقطة التوازن المشار اليها آنفا، ستعمل آلية السوق التلقائية على اعادتها، أي أن ارتفاع قيمة سعر الصرف سيقود إلى انخفاض الطلب على الدولار، بسبب العلاقة العكسية بين الكمية المطلوبة من الدولار وسعرها والعكس
صحيح.
إن هذه الآلية تظهر سعر الصرف، وكأنه (عائم) كالسفينة على أمواج متلاطمة تأخذها يمينا ويسارا، بعيدا عن نقطة التوازن ليعود به الاستقرار إلى نقطة التوازن الاصلية، الأمر المحير هو تلك الدعوات التي تروم إلى تعويم سعر الصرف في العراق دون التعريج إلى الآلية المشار اليها، التي افتقدناها، استنادا إلى خصائص اقتصادنا الريعي، الذي همَّش دور القطاع الخاص ومنح الحكومة الدور القيادي في النشاط الاقتصادي.
ان احتكار الحكومة للمورد النفطي الذي يشكل (99 %) من صادرات الاقتصاد العراقي، ومن ثم احتكار الإيرادات الدولارية بالمطلق افقدنا الركيزة الأولى في آلية السوق (العرض)، الذي يحققه القطاع الخاص، قبالها نجد الركيزة الثانية من آلية السوق (الطلب) حاضرة وبقوة، التي يمثلها طلب القطاع الخاص لغرض الاستيراد، هذا الاختلال يسقط فرضية إمكانية تعويم سعر الصرف، فبدون تدخل السلطة الاقتصادية المتمثلة بالحكومة والبنك المركزي لا يمكن للقطاع الخاص من الحصول على الدولار، كونه لا يسهم الا بمقدار (1 %) فقط في الصادرات.
ان تعويم العملة في العراق يعني أن نترك سعر الصرف كسفينة في عرض الصحراء على رمال ساكنة لن تتحرك ابدا، أي اننا سنشهد مستويات طلب على الدولار هائلة جدا مقابل عرض شبه (صفري) وتخيل عزيزي المتابع قيمة العملة الوطنية، التي سوف تتدنى إلى مستويات مخيفة جدا بسبب الطلب المرتفع على الدولار امام عرض شحيح جدا منه.
ولا ننسى الآثار الجانبية الأخرى لدعوات التعويم واهما فقدان السياسية النقدية لقدرتها على ضبط معدلات التضخم، والتي سنفرد لها مقالا خاصا في القادم من الأيام.
إن غياب العقلانية في طرح الأفكار والجهل بالية السوق من قبل البعض، مع الرغبة للكلام في الشأن الاقتصادي، كونه يمثل مادة دسمة للبرامج التلفزيونية وغيرها جعلنا وسط هذه الفوضى من الآراء غير المدروسة.