تسع معادلات إيرانية داخلية وخارجية بعد رحيل رئيسي
د. ايمن سمير *
لم يكن أحد في الداخل الإيراني أو الخارج يتوقع تحطم طائرة الرئيس إبراهيم رئيسي فوق محافظة أذربيجان الشرقية (شمال غرب البلاد)، فجميع المعادلات كانت تقول إن رئيسي هو مرشح النظام للانتخابات الرئاسية عام 2025، وأنه سوف يستمر في منصبه حتى عام 2029، وبعد ذلك يمكن أن يكون جاهزاً لتولي منصب المرشد الأعلى.
لكن تحطم طائرة رئيسي، وهي من طراز “بيل 212” أمريكية الصُنع قرب الحدود الإيرانية مع أذربيجان، قد يغير الكثير من المعادلات والحسابات، ليس فقط تلك التي تتعلق “ببنية الكتلة الصلبة” للنظام الإيراني سواء على جانبي الإصلاحيين أم المحافظين، بل ربما تطول المعادلات السياسية الجديدة كعلاقات إيران مع دول المنطقة العربية والشرق الأوسط، فضلاً عن دول العالم كافة. ويمكن أن تشكل المسارات المستقبلية لهذه التداعيات تسع معادلات رئيسية متوقعة، هي كالتالي:
1- التنافس على منصب المرشد الأعلى:
كان يُنظر على نطاق واسع لإبراهيم رئيسي باعتباره أبرز الشخصيات المرشحة لخلافة المرشد الحالي، علي خامنئي، الذي يبلغ من العمر 85 عاماً، لكن غيابه المفاجئ من شأنه أن يخلط الأوراق من جديد، ليس فقط الحسابات التي تتعلق بمستقبل السلطة التنفيذية التي تولاها نائب الرئيس محمد مخبر، وإنما من شأن هذا الغياب أن يعيد ترتيب الأوراق التي تتعلق بالشخصية التي يمكن أن تخلف خامنئي.
وهنا تظهر بقوة أسماء أبناء علي خامنئي وخاصةً نجله مجتبى. كما أن غياب رئيسي قد يعيد طرح أسماء أخرى مثل حسن الخميني، حفيد المرشد الأول للثورة الإيرانية، وهذا التطور المفاجئ برحيل رئيسي قد يخلق نوعاً من التنافس على خلافة خامنئي، قد يصل إلى صراع يشبه الخلاف الذي حدث حول اختيار المرشد الحالي عام 1989 عقب وفاة الخميني. وفي ظل هذه البيئة التنافسية التي يمكن أن تنتج عن وفاة رئيسي، فإن هذا قد يعيد ترتيب الأولويات الإيرانية سواء الداخلية أم الخارجية.
2- إعادة هيكلة السلطة الحالية:
على الرغم من أن مسار انتخاب رئيس إيراني جديد حال غياب الرئيس الحالي حددته المادتان 130 و131 من الدستور، والتعديلات التي جرت عليهما عام 1989 لتعويض الرئيس الأسبق، هاشمي رفسنجاني، مقابل منح منصب المرشد لعلي خامنئي؛ فإن هناك حالة من عدم اليقين حول مدى جاهزية النائب الأول للرئيس، محمد مخبر، ليحل محل رئيسي في منصب رئيس الجمهورية في الانتخابات القادمة، خاصةً أن مخبر مفروضة عليه عقوبات أمريكية وأوروبية، ويصعب تصور أنه يمكن أن يذهب إلى نيويورك ليشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما يلقي بعبء البحث عن شخصية “أكثر مقبولية” للداخل الإيراني أولاً، ولدول الجوار ثانياً، ويمكنه أن يكون على تواصل مع الدول الأوروبية كما كان الحال مع الرئيس الأسبق حسن روحاني.
وقد تصطدم أية محاولات لإعادة بناء وهيكلة السلطة الحالية بمقاومة شديدة سواء من المستفيدين والمنتفعين من الوضع الحالي أم من الذين يسعون لتحقيق قدر من المصالح الخاصة بهم في المستقبل. وكل هذا يؤكد أن الأيام القادمة حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 28 يونيو 2024 واختيار رئيس جديد، سوف تشكل تحدياً من نوع خاص للمؤسسة الحاكمة في إيران.
3- قبلة الحياة للإصلاحيين:
وفق كل الحسابات الحالية، فإن الفائز بالانتخابات الرئاسية المقبلة سوف يكون على الأرجح من المحافظين والأصوليين، لكن غياب رئيسي والتجهيز لانتخابات رئاسية قد يمنح الإصلاحيين فرصة الظهور من جديد، وإمكانية استعادة الزخم الذي فقدوه عام 2021 عندما فاز رئيسي بالرئاسة.
ويمكن للإصلاحيين التقدم بمرشح قوي في انتخابات الشهر المقبل، وهناك مؤشرات كثيرة على تبنيهم خطاباً أكثر راديكالية تجاه الغرب والولايات المتحدة بهدف “تحييد المرشد” ومؤسسات مثل: الحرس الثوري، واللجنة العليا للانتخابات تجاه أي مرشح إصلاحي. وتجسد ذلك في التصريحات النارية لرموز التيار الإصلاحي، مثل تحميل وزير الخارجية الأسبق، محمد جواد ظريف، يوم 20 مايو الجاري، واشنطن مسؤولية وفاة رئيسي؛ لأن عقوباتها على قطاع الطيران المدني هي التي قادت إلى هذه الكارثة، من وجهة نظر ظريف.
4- مدى جاهزية المعارضة:
لم تطور المعارضة الإيرانية في الداخل موقفاً سياسياً جديداً بالرغم من أن رئيسي فاز في انتخابات عام 2021 بعد مشاركة متدنية للغاية من الناخبين، وتكرر فشل المعارضة من جديد في عدم قدرتها على الاستفادة من المظاهرات التي خرجت عقب مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني، في سبتمبر 2022.
لكن غياب رئيسي الذي شكل الأرضية المشتركة لكل عناصر قوة النظام الحاكم، يمكن أن يكون فرصة جديدة لإظهار صوت المعارضة بشكل مختلف عما كان الوضع عليه خلال السنوات الثلاث الماضية التي أمضاها رئيسي في منصب الرئاسة. ولا يمكن تصور وجود هذه الفرصة أمام المعارضة الإيرانية دون بلورة خطاب سياسي وإعلامي مختلف يجذب القطاعات المستقلة، والتي ظلت طوال العقود الماضية بعيدة عن التفاعل السياسي مع الحكومة أو المعارضة. وتحتاج المعارضة، قبل كل ذلك، إلى أن تثبت عدم علاقاتها بأي قوى أو دولة في الخارج؛ لأن وصم المعارضة بالعمالة لدول خارجية أضعف من قوتها وأبعد قطاعات كبيرة عنها.
5- اختبار “دبلوماسية الأزمات”:
دائماً ما كانت النكبات والكوارث فرصة للتقارب ليس فقط على مستوى الأشخاص، بل على مسيرة العلاقات بين الدول. ونجحت “دبلوماسية الأزمات” في صياغة مقاربات سياسية بين دول كثيرة كان بينها خلافات عميقة، وخير نموذج على ذلك في الشرق الأوسط أن التعاطف العربي والمشاركة الفعالة في تخفيف آثار الزلزال الذي وقع في تركيا في 6 فبراير 2023 كان أحد العوامل التي قادت إلى تحسن العلاقات العربية مع أنقرة، وبعد فترة قصيرة جداً استعادت هذه العلاقات الزخم والقوة.
وكل هذا قد يكون محفزاً لتكرار نفس السيناريو مع إيران، في ظل حرص الدول العربية، وفي المقدمة منها دولة الإمارات والسعودية ومصر، على تقديم واجب العزاء في وفاة رئيسي ومرافقيه، وهو ما يشكل “منصة جديدة” لإطلاق أفكار تعزز علاقات حُسن الجوار، وتسهم في بلورة مسار جديد من العمل المشترك، خاصةً مع إبداء الدول العربية استعدادها لتقديم الدعم والمساندة لطهران أثناء رحلة البحث عن طائرة رئيسي.
ومن شأن ذلك أن يشكل مقدمة “لهندسة جديدة” للعلاقات العربية الإيرانية للبناء على ما تحقق من اتفاق عودة العلاقات بين الرياض وطهران في مارس 2023، فضلاً عن حرص إيران على إبلاغ دول الخليج بقرارها الرد على الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في سوريا خلال شهر إبريل الماضي؛ وهو ما يجعل الدول العربية وإيران أمام فرصة لتكرار نموذج تحسين العلاقات مع تركيا.
6- مسار تصالحي مع الغرب:
ترك رئيسي إرثاً يعزز عدم المواجهة الشاملة مع الغرب، وبالرغم من أنه كان ينتمي قلباً وقالباً للمعسكر المتشدد، فقد استطاع في ذات الوقت أن يفتح قنوات أوسع مع الغرب؛ أسهمت في جني مكاسب سياسية واقتصادية لإيران. وتجلى هذا بوضوح في طلب طهران من الولايات المتحدة مساعدتها على الكشف عن مكان الطائرة قبل العثور عليها، وتفعيل الاتحاد الأوروبي نظام الخرائط لمساعدة فرق البحث والإنقاذ الإيرانية، وسبقت كل ذلك بأيام المحادثات غير المباشرة في سلطنة عُمان بين طهران وواشنطن.
ونجحت هذه الاستراتيجية المتفق عليها إيرانياً وأمريكياً في تجنب نشوب حرب إقليمية واسعة بالرغم من استمرار الحرب في غزة لنحو ثمانية شهور. وهذه الاستراتيجية سوف تتعرض لامتحان قاسٍ بعد رحيل رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان. وعلى الرغم من الاتفاق على أن السياسة الإيرانية يرسمها مكتب المرشد الأعلى، فإن قوة رئيسي وعلاقاته المتشعبة مع مصادر القوة في النظام الإيراني ساعدته على تحقيق هذه الانفراجة المحدودة مع واشنطن. ولهذا يثور تساؤل كبير يتعلق بمدى قدرة من يخلف رئيسي وعبداللهيان على أن يؤدي هذا الدور سواء في مؤسسة الرئاسة أم وزارة الخارجية؛ وهو ما يتطلب نجاح شخصية لها حضور قوي في الانتخابات الرئاسية القادمة، يمكن أن تستمر في هذا الطريق الانفتاحي مع الغرب والولايات المتحدة، لكن ظهور رئيس جديد يسعى لاسترضاء الجناح المتشدد في النظام الإيراني قد يؤدي إلى النكوص والتراجع عما حققه رئيسي في هذا الطريق.
7- اتجاه إيران شرقاً:
شهدت سنوات رئيسي توجهاً إيرانياً واضحاً نحو الشرق وبصفة خاصة مع روسيا والصين، ولا يوجد شك في أن الرئيس الإيراني الجديد لن يحيد عن هذا التوجه، لكن هناك تحدٍّ بشأن أن يكون هذا التوجه شرقاً بنفس الوتيرة التي جرت مع رئيسي الذي وصفته بكين وموسكو بكلمات إيجابية للغاية. وسوف يتوقف هذا على قدرة الدبلوماسية الإيرانية في عهد الرئيس الجديد على تحقيق نوع من التوازن بين توسيع قنوات التواصل مع الغرب، وفي نفس الوقت تعزيز الشراكة القائمة بالفعل مع روسيا والصين.
8- “التوظيف الناعم” للحلفاء:
شهدت السنوات الثلاث الماضية من حكم رئيسي “توظيفاً خشناً” لحلفاء طهران في المنطقة، خاصةً الأذرع العسكرية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وهو ما شكل تجسيداً لسياسة “حافة الهاوية”، ليس فقط مع إسرائيل، بل مع الولايات المتحدة التي ردت عسكرياً على استهداف جنودها في القاعدة العسكرية “البرج 22” شمال شرق الأردن.
ومع رحيل رئيسي وتصميم وهندسة الردود العسكرية المتبادلة بين إسرائيل وإيران، ربما بات الاتجاه الواضح لدى واشنطن وطهران وتل أبيب هو عدم التصعيد في المنطقة. وبهذا يبدو رحيل رئيسي وكأنه فرصة للانتقال من “التوظيف الخشن” إلى “التوظيف الناعم” للحلفاء والوكلاء. بمعنى توظيف “المكانة العسكرية” في جني ثمار سياسية مع تخفيض الاستخدام العسكري لتلك الأذرع. وهذا يمكن أن يقود، على سبيل المثال، إلى قبول إيران بأن يصبح الحوثيون فاعلاً سياسياً في إطار الدولة اليمنية، وضمن اتفاق سياسي يشمل الجميع. ويتضح هذا التوجه أكثر في حرص طهران على الالتزام بقواعد الاشتباك بين حزب الله اللبناني وإسرائيل منذ اندلاع حرب غزة، وهنا قد تجني إيران الثمرة السياسية دون اندفاع عسكري أكبر وحرب شاملة أوسع. علاوة على الحديث عن تخفيض الوجود العسكري الإيراني في سوريا، مع التركيز على بناء شراكات اقتصادية وسياسية طويلة الأمد مع الحكومة السورية.
9- الشكوك حول أذربيجان وإسرائيل:
لعل من أبرز المكاسب الدبلوماسية لرئيسي وعبداللهيان كان تحقيق “استدارة أذربيجانية” ناحية إيران، وهو ما تجلى في الخطاب السياسي والإعلامي الإيراني التصالحي تجاه باكو في الشهرين الماضيين. لكن سقوط طائرة رئيسي في منطقة إيرانية على الحدود الأذرية، قد يُعمق الشكوك حول مستقبل العلاقات الإيرانية الأذربيجانية، خاصةً في ظل ترويج البعض لاحتمالية تورط إسرائيل في إسقاط طائرة رئيسي، بالرغم من أنها مجرد فرضية لا يمكن التأكد من صحتها حتى الآن.
ختاماً، الثابت أن صناعة القرار الإيراني تبدأ وتنتهي من مكتب المرشد الأعلى، لكن المؤكد أيضاً أن طبيعة العناصر التي تصنع هذا القرار تتأثر دائماً بقدرة الأشخاص على المرونة والمناورة، وهو ما يشير إلى أن الأيام القادمة في طهران سوف تجذب انتباه الجميع كما جذبتهم التفاعلات والتفاصيل الخاصة بسقوط وتحطم طائرة رئيسي وعبداللهيان ومرافقيهم.
* خبير في العلاقات الدولية