يحتدم الصراع الانتخابي على إشغال مقاعد مجالس محافظات البلاد, ويبدو أن مستوى الخطاب السياسي لا يرتقي إلى الحد المقبول.
المراقب للإتيكيت السياسي بما هو مجموعة السلوكيات والقواعد والنظم والآداب المساعدة في التعامل بين القوى المتنافسة يكاد أن يجزم بانعدامه, لاسيما وان التدافع بالمناكب لجني الغنائم والتسابق المصلحي والصراعات البينية هو ديدن أغلب القوى الهيمنة وجوهر صراعها وليس البرامج الانتخابية لخدمة المواطن..
وإذا كان للجمهوريين فيلهم والديمقراطيين حمارهم, كما يُقال أمريكياً. فما لهذه الأحزاب الخارجة غير الكيس الأيديولوجي الذي يضمهم وعبء تجربة فاشلة وطمع أشعبي, والاستقتال على الغنائم والمصالح ؟!
وفي ظل غياب قوانين تنظم ظروف وحدود وطبيعة التنافس بعد وضع قانون الأحزاب على الرف رغم نفاذه شرعياً, المُفترض به, على الأقل, أن يعالج التجاوزات والخروقات وحل المنازعات وتشذيب الخطاب السياسي وتلاؤمه مع ضوابط التنافس الأخلاقي الصحيح, لذا تشهد الأمور فلتاناً فاضحاً.
يُشير بعض المشتغلين بالشأن الاجتماعي إلى أن الغياب لا يشمل القواعد والضوابط الرسمية والقانونية فقط بل تعداها إلى طبيعة تكوين شخصية المرشح وأسس التربية والخلق القويم والقيم الاجتماعية التي تربى عليها والتي شكلت شخصيته وترسم سلوكه تجاه الآخرين وتحكم التعامل الأخلاقي بين البشر عموماً, خصوصاً في ظرف صراع سياسي ينحو, بالضرورة, نحو الاختلاف ويعتمد المحاججة ورد الرأي بالرأي الذي يكون احياناً مشوباً بالحدة يصل في أحيان ليست بالقليلة بسبب واقعنا المتأزم إلى العنف اللفظي.
العامل الآخر في غياب التعامل الرصين والتنافس القويم هو أن الكثير من المرشحين يخرجون من عباءة القوى المتنفذة الفاسدة ذات النهج المحاصصي, أصلاً, ذات الأيديولوجيات التي لا يشكل الإنسان محورها بل المذهب او الطائفة او الدين او القومية, وتملك المال والسلاح والسلطة والإعلام, لذا فهي ليست مجبرة على اعتماد الإتيكيت في خطابها وسلوكها الانتخابي.
علوّ نبرتها محكوم أيضاً بهاجس الخسارة وفقدان الوسائل والمنافذ للحصول على الامتيازات والغنائم… ولا شك أن الذين اشتروا ترشيحاتهم بدماء قلوبهم يسعون إلى الفوز واسترجاعها بأضعاف مضاعفة, لذا فإن المستوى الأخلاقي لمثل هؤلاء والساعين مقدماً لنهب المال, لابد وان يكون متدنياً أو معدوماً.. وهذا تقييم شعبي شائع لهم.
لهذا نشهد صراعات شخصية ونفعية محتدمة خرجت عن إطار الاعراف والاخلاق, وصلت حد التنابز والسب والشتم الشخصي وتمزيق دعايات انتخابية وتبادل الاتهامات بالفساد ( بالمناسبة هي على الأغلب صحيحة وواقعية وسهلة الكشف فيما لو امتلكت الجهات الرقابية شجاعة التحقيق فيها والجهات القضائية الحكم بإدانة مرتكبيها ) و ” كلهم ولد الگريّة وكلمن يعرف أخيّه “, كما يقول المثل العراقي . وقد كان من تبعات هذا الخصام انشقاقات وانسحابات لأعضاء من تحالفات كانت تبدو رصينة ومتماسكة.. والمواطن يتابع ويضحك على فضائحهم.
الظاهرة الجديدة هي ترشيح بُدلاءً غير معروفين – من باب المجرب لا يُجرب بعد تراجع ثقة المواطنين بالحرس القديم – وهم على الأغلب لا يفقهون شيئاً بالسياسة وليسوا بكفاءات اختصاصية في مجالات الخدمة العامة لكن تربطهم علاقات قرابة او حزبية مصلحية مع قادة ومسؤولي هذه الميليشيا او هذا الحزب الاسلامي او ذاك. وهؤلاء المستجدين هم على الأغلب من مستويات فكرية ضحلة او تحصيل علمي متدني او تجربة عملية بسيطة.
لقد عكست احزاب الفساد, طوال فترة حكمها للبلاد, ممارسات أدت إلى إشاعة مفهوم خاطيء عن السياسة وإلى تشويه العمل الحزبي وجعلته مصدراً لابتزاز المواطن والإثراء على حساب الصالح العام, وطرحه بصيغة استبدادية تسلطية, أكثر مظاهره شيوعاً, التنقل بالجكسارات المصفحة والحمايات المدججة بالسلاح التي تدخل الرعب في قلوب المواطنين والتبشير من ثمة بأن السياسة بلا الأخلاق, وهي فن الفهلوة والشطارة واللواتة والابتزاز, وليست فن ادارة الامور العامة وايجاد الحلول لمشاكل العلاقة بين المواطن وأجهزة الدولة, وليس للنزيه فيها من حظ. مما أدى إلى ابتعاد الكثير من المواطنين عن ممارسة السياسة والاستغناء عن حق من حقوقهم الدستورية والعزوف عن المشاركة في الانتخابات.
أن من يدخل السياسة من باب الارتزاق والتسلق والانتهازية, وليس من باب الخدمة العامة وإدارة شؤون البلاد ومواطنيها بتفانٍ وبحكمة وكفاءة… خائن للثقة ومخادع يجب مقاضاته وعقابه.
الاستثناء المشرق في عملية الصراع الانتخابي الحالية هو التعامل المتقدم للقوى المدنية والديمقراطية المنضوية تحت لواء ” تحالف قيم المدني ” بالخصوص, وخطابه الموضوعي و بإتيكيت سياسي رصين ابتعد عن المماحكات السوقية وركز على تقديم الحجج وكشف العقبات وتسميتها باسمها الحقيقي.
” تحالف قيم ” الذي لم يتورط مرشحوه بعراكات الديكة, تبّنى خطاباً وطنياً ديمقراطياً, وهو يحاول اختراق جدار تحالف الفاسدين ببرنامج عملي لتقديم الخدمات للمواطن ورفع مستوى محافظاتهم مستمدين العزم من انتفاضة تشرين المجيدة واصرار شبابها على اقتحام المستحيل..
ورغم مرور عشرين عاما على إطفاء نار الشر في العراق, بسقوط الدكتاتور, والتطبيل بمقدم الخير العميم, وجدنا أنفسنا في جب عميق لا يقل شراً عن الذي سبقه… فالمحاصصة عقيمة وسقطت بالامتحان ووقع الشعب على فشلها وبصم عليه…
وبعد أن أسفرت المحاصصة عن خوائها, يذهب نظامها التحاصصي الطائفي – العرقي الهجين نحو التفسخ بعد ان أزيلت إحدى أثافي التقسيم المكوناتي الشائه للمجتمع العراقي بإقالة محمد الحلبوسي من رئاسة السلطة التشريعية ” مجلس النواب “. وبات لحاق الأثافي الاثنان الأخرى, قريباً… فالسلطة التنفيذية ممثلة برئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني تتخبط بين ولاءاته الحزبية والضغوط الأمريكية والايرانية وانقلاب المسلحين التابعين للائتلاف الذي نصبّه… ثم السبات الذي تعيشه مؤسسة الرئاسة. أما السلطة القضائية فإنها تتعرض لضغوط مركبّة لتعطيل دورها. أما السلطة الرابعة ” الصحافة ” فحدث ولا حرج. مطاردة, ترزح تحت حصار المؤسسة الإعلامية الحكومية والحزبية التي لا تحتمل انتقادات الصحفيين والمثقفين مكللة بتهديدات التصفية.
وبينما كان المواطن العراقي يأمل بالمشاركة بانتخابات ديمقراطية حرة, تثمر تغييراً سلمياً هاديءً بدون عنف ولا دماء, يظن آخرون بأن مستوى تغلغل قوى الفساد والتخلف وتمكن سادتها الأجانب, عقبة امام عملية التغيير المنشود, لامتلاكها السلاح والأموال والنفوذ وإمكانية البطش, لذا فإن التغيير, كما يرون, لابد أن يأتي باندلاع ثورة شعبية عارمة تكتسح ما موجود من الجذور و الإتيان ببديل يؤمن مصالح العراقيين, متجاوزاً السلمية التي كان العراقي متمسكاً بها في صراعه مع قوى الجور والفساد أثناء انتفاضة تشرين 2019 الشهيدة التي أغرقوها بالدم.
وبعد أكثر من عشرين عاماً من الفشل والتخلف, لابد أن يحصدوا ما زرعوه يوماً !