” الشاعر الحقيقي هو هذا الذي يعرف كيف يهتزُّ مع عصره، يستبقُه، ولن يلتفت إلى الماضي”
ـــــ فنثنت هويدوبرو (النضال ضد عبادة الماضي)
(إلى ستينيِّ 2025)
مثّلت الحركة الدادية شأنها بذلك شأن الحركات الأدبية والفنية الأخرى موقفاً مضاداً صارماً تجاه التراث الأدبي والفني باستثناء بعض التجارب والأسماء من أمثال لوتريامون، وآرثر رامبو، والماركيزدوساد، والفريد جاري، بِعدّ هؤلاء هم الآباء المؤسّسون لهذا التيار الجارف الذي أولى المواجهة و الإبداع الانقلابي أهمية بالغة، وبطبيعة الحال، فقد استطاعت هذه الحركة أن تُعيد للأدب والفن حيويتهما بتحطيم الأوثان الإيديولوجية، والسماح للخيال بأن يتمتع بحريته المطلقة، عبر معاركه في مقهى فولتير، فكانت الكتابة العنفية هي من السمات البارزة للدادية، الأمر الذي مكَّنها من إحداث نقلة نوعية ارتقى بها الإبداع والمخيلة. بيد أنَّ هذا الانقلاب الفكري لم يمنع من تسلّل فيروس الرتابة إلى جسد الدادية وتفككها، بعد محاولات «أندره بروتون» ــــ قبل أن يُصبح سريالياً، في أن يضعها في قوالب مدرسية، إذ أصبحت تعتمد الفكر التعليمي أكثر من الإبداع الحرّ، فتحولت من حركة طليعية إلى تجمع فاتيكاني، ويظهر هذا النوع من الدادية بوضوح في كتابة « ميشيل الرائي » الذي لم يفهم من تراث هذه الحركة سوى الزرافات والفيلة، فجاءت نصوصه جامدة وغير حيوية، و يمكننا تسمية هذا النوع بـ «دادية second hand » إذ ليس هناك جديد يُذكر في ما يُكتب على مستويي اللغة والتفكير، بل تدوير لما كُتب قبلاً في أبجديات الحركة من بيانات وقصائد غابرة عبَّرت عن التوجهات الفكرية الراهنة لتلك المرحلة ومآزقها الإيديولوجية والاجتماعية والسياسية.
ينبغي على الدادي أن يكون رحّالاً بوهيمياً، فالسكون أو الوقوع في فخاخ الصوت الواحد سوف يؤدي به إلى التنميط، وبذلك يخلع عنه ثوب الاكتشاف ليدخل في مساحة الممكن، في حين أن الدادية في الأصل هي نزوع نحو المستحيل الفكري والإبداعي، لكن الذي حدث أن هذه الحركة قد أُسيء فهمها عربياً، و تم التعاطي معها بعبث شكلاني مفرط، وبطيعة الحال، جاءت كتابات بعض مدّعي الدادية من العرب خالية من الابتكار والتجديد، ومتعكزة إلى حدّ التطابق على الكتابات المؤسِّسة للمدرسة الفرنسية، إذ لم يفرق الشاعر أو الكاتب العربي بين العبث والفكر التهديمي الخلاق، صلةً بهذا، يمكن أخذ قصائد ” ميشيل الرائي” مثالاً لهذا التوجّه السطحي للدادية.
في « زهور تلوّح للمارّة بقصائد مضحكة » الصادر عن دار النهضة العربية في بيروت، يظهر لنا الشاعر فهمه السطحي للشعر وللدادية على حدّ سواء، حيث اللعب على الألفاظ والتراكيب الميتة شعرياً، ومن خلال اطلاعي على الكتاب الوارد أعلاه الذي وصلني من ضمن مجموعة كتب إليكترونية كان قد خصَّني بها الصديق الشاعر والناشر اللبناني محمود وهبة، بدا لي إنَّ ميشيل الرائي ،لا يزال يعيش في القرون الحجرية للحداثة الشعرية، وإنَّ كل ما يفهمه من الشعر هو كيفية خروج الزرافة من أذن الطائرة، ودخول الفيل في أست النملة ، كأنّما الزمن قد توقف لديه في خمسينات القرن. فضلًا عن تشبّعه الفظيع بكراكيب اللغة، ما جعل كتابته بالغة السطحية، ولا تنطوي على أدنى مستويات الفهم التدميري للشعر ؛ ذلك لأنَّ لغته تنتمي للتاريخ لا الشعر. ما يعني، أنه من شعراء قصيدة الصدى وليس الصوت: التجربة.
ليس الشعر حاويةً لانفعالات شخصية، ولا عيادة لأمراض نفسية يعانيها الشاعر، كما يبدو ذلك جليا في قصائد « ميشيل الرائي» إنَّما الشعر بيوغرافيا اللامرئي حسب السريالي الكبير «أوكتافيو باث» فأي شعر هذا الذي لا يُحيل إلى رقصة طاعون في معبد الأسلاف، وأيّ قصيدة هذه المرتكزة على الكورالية الواضحة كاحتفاء بأفكار وثيمات أصبحت من مخلفات العقل البشري، أكلها الزمن وزربها؟ فضلاً عن الكثير من التناصات !!!! من هذا الشاعر أو ذاك ، أمثال صلاح فائق، وفخري رطروط، وأنور الغساني، وشوقي أبي شقرا ــــ شيخُ الدادية العربية، أما عن تناصه مع شعراء عالميين، فأستبعد ذلك ؛ لأني بحكم معرفتي الشخصية لم أره قد أكمل قراءة كتابٍ كاملٍ، لكن والحق يقال أنّه جد بارع في حفظ العنوانات، ويكاد يحطم الرقم القياسي في ذلك، ما جعله أكثر الشعراء حظوة في الانتساب لشجرة الظواهر الصوتية الضاربة بجذورها في ثقافتنا العربية والعراقية خاصة.
إنَّ «شعرية سكند هاند second hand» هو التوصيف الأكثر انسجاماً مع هذا النوع من الكتابة التي هي أشبه بذلك القروي الذي أدركته المدينة فجأة، فنكب على استبدال ملبسه ومظهره، لكنه أبقى على الحمار كواسطة نقل. والحال ذاته مع « ميشيل الرائي» الآتي للشعر بقصائد سبق وإن أتلفت بعد أن تبرّز عليها كلب القبيلة في خيمة بداوة الحداثة، ثم ما أهمية الكتابة إن لم تتبنَّ القطيعة والانفصال؟ وإن كان لابد من أسلاف، إذن، فلنمنح هذا الحق لبقية الحركات الأدبية والفنية، فإما أن نتقاطع مع جميع الحركات الفنية، أو أن نتبعَ نصيحة بنجامين بيريه ………….. بمعنى أنَّ الدادية هي نداءُ لابوت في غيران اللغة، هناك حيث يعتكف الأسلاف مع تراثهم الأدبي المقدّس.
ختامًا، أتمنى من «أندره بروتون» أن يلتزم بقواعد الاشتباك الثقافي، وأن لا يطعن بجورج باتاي مرّة أخرى، وينبغي أن تكون لكل منهما أدواته الفكرية التي يحارب بها، فحروب الثكنات الثقافية (المقاهي) ــ التي أسّس لها شعراء الستينات في العراق- ما عادت مجدية في زمن لا يحتمل غير المعارك الثقافية. وما اللجوء للشتائم إلّا دليل على التصحّر المعرفي وتضخم الأنا القبلية.