مدارس الدراما ومذاهب العصر وأساليب الاشتغال الفكرية
د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
في اشتغالاتنا التنويرية كافة بدءاً بتلك التي تناولت العقل العلمي ومحددات عمله واشتراطات منجزه، نتابع في إطار قراءة أبرز المنجزات الجمالية المعبرة عن مرحلة ولادة دولة المدينة وسيرها بخط متوازٍ مع نموها وتقدمها، نشتغل على ذياك الدور الفاعل المباشر للمسرح عبر علاقته بالحياة ومنجزات تلك الجسور.. فلنتابع قراءتنا الجمالية المضمونية ونستنطق الأداء التنويري، هذه المرة في إطلالة تخص المدارس والمذاهب الدرامية المسرحية ومعاني أساليب الاشتغال الفكري وانعكاساته.. لماذا يطمسون المسرح ويصادرونه؟ لماذا يستغلونه مشوَّهاً؟ ما خلفية الفكر السياسي في مطاردة إبداع جماليات الدراما ومدارسها وتوجهات أساليب اشتغالها؟؟؟ تلك بعض ما سنمهد له اليوم ونتابعه بإطلالات متتالية بمشاركتكنّ ومشاركتكم في الحوار.
لقد شهدنا طوال مراحل تطور الدراما كيف جسدت منجزها منطق الوجود الإنساني بصراعاته وتناقضاته وفروض حركته إلى أمام. ومع تقدُّمِنا نحو منتصف القرنِ العشرين برزت الدراما العصرانيةُ بمظهر جسَّد مبدأُ المحافظةِ على الوضعيةِ القائمة، بوصفِهِ مبدأ مكوِّناً لأصناف درامية بمختلفِ مدارسِ العصرانيةِ MODERNISM وتياراتِها في القرنِ العشرين.
ومع ذلك فهذا لا يعني أنَّ فنَّ الدراما في المدرسة العصرانيةِ يعيدُ خلقَ العالمِ المعاصرِ بوصفِهِ عالماً (ما) سعيداً وثابتاً بل على العكسِ من ذلك فإنَّ المشاهدَ الأوليةَ في دراما عصرانية، تقدِّمُ صوراً لحالةِ الكارثةِ والانهيار المتخفية خلف مثلِ هذا الزعم وادعاء الهدوء والسعادةِ.
إنَّ حالةَ الكارثةِ بوصفِها لحظةَ أولية للحدثِ تعدُّ ذات دلالة تتجه إلى إعادةِ الوضعيةِ التي تحطّمت، بصورة وهمية ولا يتحقق تجديدِها إلا وهميا وبصورة مخادعة.. حيث ادعاء كون الوضعية الأساس التي تتعرض للتفجر وللانهيارات تبقى ضرورة حتمية لا تقبل الزوال على وفق رؤية أيديولوجية بعينها..
إنَّ الأجزاءَ المكوِّنةِ للحدثِ، تمَّ إفراغها من محتواها الداخلي بما يتطابق مع الاتجاه المباشر لهذا الحدث الساعي إلى المحافظةِ على الوضعيةِ الأوليةِ التي تبدَّدُ ظاهرياً بقصد الإيهام وتصل المتلقي وكأنَّها قد تحطمت، بينما فعلياً نحن لا نرى سوى الخيار المقدم لنا: بين أمرين الأول المتحرك غير أنَّه بحقيقته لا يتطور ولا يتغيَّرُ داخلياً فيما الآخر يؤكدُ تكراراً حرفياً في كلِّ مشهد وفي كلِّ مقطعِ حوار باستحالةِ تجنّبِ الوضعيةِ القائمةِ للأشياءِ ووهمية تحطيمها. بمعنى أنّ رسالة كثير من أصناف الدراما العصرانية جاءت لتصر على ثبات عالمنا على الرغم مما تؤكده معاناة الإنسان من ضرورة التغيير أي حتمية إقرار عدم الثبات والاستجابة لمنطق التطور..
هنا يمكننا أن نرصد في قراءة المنجز الجمالي (الدرامي) سواء بقيمه الفنية ومسارات الحدث الدرامي فيه أم بمضامينه، سنرصد ظاهرة عدم التطابقِ المفضوح، بين اندفاعِ الحدثِ بحيوية وبين تنظيم بنائهِ الداخلي بما يحافظ على الوضعيةِ الأساس القائمةِ. طبعا بالإيهام الفكري بثبات العالم وقوانينه؛ ثبات النظام الاستغلالي وتشوهاته، وكثرما نجد هذا واضحا سافراً في نُظُم التخلف المستندة لظلاميات مُجترَّة من عهود منقرضة..
وإذا كان ذلك واضحاً في الدراما التعبرية ففي دراما الطليعيين لا يجوزُ التحدّث عن تحوّلِ الصنفِ على حسابِ إبرازِ الثبات المطلق لقوانين تتحكم بنا؛ ففي الطليعية تبرزُ كلُّ القوانين ذات المضمون الفني الخاصة بالحدثِ الدراميِّ وكأنَّها مقلوبة رأسا على عقب؛ فالعلاقات المتبادلة التي تربطُ ربطا وثيقا بين جميعِ لحظاتِ الحدثِ تتحول إلى تمزّق وتشظٍ تام.. والوحدة إلى التفككِ.. والتكامل إلى لوحات تتناثر وربما تتباعد شكليا بنيويا.. إنَّ التجاريبَ الدراميةَ الجديدة تفضحُ المدرسة أو الاتجاه المحافظَ من حيث جوهرِه وتركيزِه على إبعادِ كلِّ ما يهدّدُ طابعَ الثباتِ في حياةِ المجتمعِ لتعلن حال التمزق وصراع الأضداد التناقضي الذي يتحتم في النهاية حله وتجاوزه، لكن من دون تدخل هذه المرة بإشارة إلى الحل إلا بحدود إشهار حقيقة عدم استقرار الوضع وقلقه وسيره باتجاه التغيير.
إنَّ مجملَ التطوّرِ الدراميِّ قد انتهى إلى إبراو تعقيدات العصر في ازدواجية بنيته حيث الشكلِ والمضمونِ أو الإشارةِ والرمزِ. أما كيف نرصدُ ذاك التطور بنيويا وفي نطاق هوية المدرسة والاتجاه أو المذهب، فإنَّنا نرصدُ بدءاً التأثيرَ المتبادلَ بين خطةِ العلاقاتِ الشخصيةِ والخطة الأيديولوجيةِ إذ يتحددُ التأثير المتبادل بصورة معقدة تندمج في تشخيص النوع والصنف مع الأنواعِ والأجناسِ الأدبيةِ الأخرى حسبما تقتضيهِ حاجةُ البنية الدرامية وجديد اتجاهاتها بالاستجابة لجديد التفاعل مع الواقع المعاصر بتعقيداته وتضبيب مفرداته المتعمد المصطنع.
لكن الخطةَ الأيديولوجيةَ (العامة) لا تُعلنُ عن نفسِها صراحة وبوضوح في بدايةِ الحدثِ إنما تتبدى عبر رسمِ العلاقاتِ الشخصيةِ وكأنها جزر معزولة عن الوجود الجمعي العام وطابعه بخاصة طابع حركيته وتعقيد نموه وتطوره. ما يعنيه هذا هو أنَّ الازدواجيةَ في الخطةِ ليست خرقا لوحدةِ الحدثِ الدراميّ والحرية الملحميةَ في الانفصالِ عن العلاقاتِ الشخصيةِ إنما تتحققُ لا باسم السعة وتفاصيل الملحمي حسبما يتهيأ للمتلقي بل تتحقق توضيحِا للخطةِ العامةِ (الثابتة) على وفق ما يريدون الإيهام به أيديولوجيا برسائل تلك الأعمال..
إنّ طابع الدراما الحديثةِ وبنيتها يتحققان في لحظاتِ الحكايةِ وتفاصيل حبكة الحدث حيث تلك اللحظات تنبع الواحدة من الأخرى لكن علاقاتها تتم بصورة أضعف بكثير مما كان في الدراما التقليدية.. فالمشاهدَ (الفكرية المحظة) هي التي تبدو متقاربة وتنسج ترابطها البنيوي ما يدعو لتجسيد العلاقات السببية بمنطقة خافية مضمرة ونتخيل تفكك البنية بالمدارس والاتجاهات الحديثة! إنما الحقيقة تؤكد غير هذا إذا ما تجاوزنا المطلقات الأيدليوجية ذات العصمة والقدسية المزيفة..
ومهما تمّ إخفاء الربط بين المنجز الدرامي وواقع التطور الإنساني فإنّ الحقيقة تظل تطل برأسها على الرغم من كل التخفي وراء أساليب معالجة ومدارس درامية بعينها.. ذلك أن القيم الصنفية وظاهرة تبادل التأثير وولادة الأجناس والاتجاهات الدرامية هي، هي؛ حالٌ من تجسيد الواقع المنضبطة بقوانين كل مرحلة وتشكيلة تاريخية في حيوات البشرية..
وبقصد التأكد مما نتناوله هنا ونطرح معالجتنا بشأنه، نسجل حقيقة أن الأصناف الدرامية لا نتعرف إليها فقط من طابع النهايات وعلاقتها بالوضعية الأساس، بل من ملامح وظواهر بنيوية أخرى يعبر عنها حال اتساع نطاق التحطيمِ و (تصفيةِ ) الوضعية الأساس تصفية لا تبحث عن النقيضِ لوحده وإنما عن البديلِ الجديدِ..
لقد شخصنا دائما ملامح الحدث الدراميّ العامة التي قدمت لنا صورة النوعِ الأدبي سواء منها ما تعلق بإشكالية وحدته أم بالوحدة الزمكانية وطبيعة تركيبه ومساره. لكننا سنجد عند ولوجنا العصر الحديث تحديداً في منتصف القرن الماضي، أنّ التشخيص بات يرصد لهذا الحدث خصائص أخرى تضفي عليهِ كمّاً من التنوّعِ والغنى أفضى إلى ولادةِ أجناس أو أصناف مختلفة في إطارِهِ.
ومفتاح الكشف عن هذه الأجناس لم يعد يقومُ اليوم على أساس نمط العلاقة بين حلِّ العقدةِ والوضعية الأساس بل توزع على مسار العمل الدرامي بطريقة تعرض لنا مدارس ومذاهب فنية بأساليبها المختلفة وبالتأكيد بما يعرض انعكاسات المذاهب الفكرية ويجسد تمسكها بثوابتها المخصوصة..
وإذا كانت تميّزت دراما كل عصر بخصوصية حسب طبيعةِ العلاقةِ بين الحلّ والوضعية الأساس من جهة وحسب طبيعةِ الحلّ نفسِهِ من جهة ثانية، فمقدار تأثير (العام والعقل) وسيطرة العامل الذاتي على حلول المسرحية هو الذي كشف لنا عن اتجاهها الكلاسي فيما نلاحظ أنَّ الاتجاهات العصرانية قد ركزت على إيهامية مقصودة بخصوص تحطيم الوضعية الأساس وافترضت أنَّ البديل لا يكمنُ إلا بالمحافظةِ جوهريا على هذه الوضعية وهي تقدّم حلولا تؤكدُ ثبات العلاقات القائمة وقوانينها أو تعودُ إليها بعد شئ من القلقلةِ وعدمِ الاستقرارِ التي تمارَسُ على الوضعية الأساس.
وما ينبغي الالتفاتُ إليهِ هو أنَّ المدارسَ الحديثةَ في الدراما قد خضعت لمتغيّرات في شروط الكتابةِ الأدبيةِ والفنيةِ فرضتها ثورةٌ عميقةُ الجذورِ في علومِ اللغةِ والأدبِ والمعارفِ القريبة منهما وقد استدعى ذلك علاقات مركبة سواء على صعيدِ بنيةِ الحدثِ الدراميّ من الداخل أو على صعيدِ علاقتِهِ غير المباشرة البعيدة والمركبةِ بالمرجعِ الواقعي المفترَضِ .. وترتب على هذا الأمر من أجلِ تحليلِه وجوب استخدام أدوات معرفيةِ جديدة لن تكونَ غير تطبيقاتِ المعارفِ والعلوم ومنجزاتها الجديدة سواء في الإفادة من منهجيتها أو الإفادة من القوانين والمضامين التي تطرحها في إطار الدراسة الأدبية الحديثة.
وكيما نختصر الطريق للوصول إلى غاية هذه القراءة، نؤكد ظواهر إجازة أعمال درامية تزوّق اجترار الماضي ومنجزه والقعود عند أعتاب قدسية مزيفة على نصوص تدعي انتماءً إلى ذلك الماضي (الذي يسقطون عليه القدسية) وكذلك طبعا العصمة ومنع الجدل.. فتظهر خزعبلات منجز (جمالي) ينتمي بقيمه إلى فروض إيهامية تضليلية تستلب مسبقا مواقف العقل العلمي الذي قلنا للتو إننا بحاجة لتوظيفه في تقديم المنجز الفكري..
إن الفارق بين التنويري والظلامي هنا، يضع هوة كبيرة بين النقيضين لنكتشف ولو متأخرا كم هي الخديعة التي يقيس بها بعضهم جماليات منجزه في ضوء معايير ماضوية سلبية بل مَرَضية بأكثر ما تصيب عفونة التاريخ حاضرَنا من أمراض..
بلى أن التحدي يكمن في تعبير كلِّ طرفٍ عن رؤيته لكن الطرف الماضوي يفرضها قسرا وبالدم والتكفير للنصوص المتحررة وتصفية أصحابها فيما المعبر عن إنسان العصر ومطالبه حقوقا وحريات يقدم منجزه بوسائله تنويرا بأساليب سلمية المنحى ومناهج واتجاهات ديموقراطية الفحوى تقدمية المضمون..
إن التجربة تؤكد إن كل تعبير جمالي لا يخلو من مضمون فكري يحدد الاتجاه والخصائص ونحن لا نفرض على الصنف الجمالي بتعبيره معايير بعينها ولكننا نستنطق النص والعمل الجمالي في طروحاته ونكشف عن التناقض أو مواضع التشخيص وما تمنحنا إياه من دلالات تفيدنا في مسيرة التحول والتغيير..
أفلا استقرأنا ذلك تطبيقيا فيما نمتلك من حالات اجترار لحكايات تتقمص الماضي بعيون أسوأ ما في ذاك الماضي فتحنّط الحاضر وتأسره بقيود تضع المجتمع بين فكي تشوهات المعالجة وإفرازات منجزها.. إن تلكم هي المشكلة المعضلة وليست الإشكالية التي تخضع لإيحاءاتنا على أن نصل بنهاية المعالجة إلى الكشف الذي سيأتي بأثره التنويري المنشود..
طبعا مع ثقة بأن إعمال العقل واشتغالاته الفكرية لابد أن تصل يوما لتلك النقطة المؤملة بفضل العمل والتجربة وما ستمنحنا الحركة من بركة لا الجمود والتقوقع من آسن السوائل وفواجع الوقوع فيها..
هل أذكركم بمنجز التيارات التي تتقمص الديني وقدسيته زيفا؟ أأذكركم بنصوص مجترة هي وسائل تقييد وأسر واستعباد؟؟